حال الشرق
ها هنا وجد الإنسان الأول، وعلى هذه الأرض كان المعول، فالشرق مهدُ الإنسان، ومبدأُ الأوطان، فلا بدع كونه الأصل للمعارف والتمدُّن، ومنبع العلوم والتفنن، ومنشأ القوات والدول، ومحل الأوليات الأول، إذ فيه تهذَّبت الأبدان، وذاعت الأديان، وظهرت الفلاسفة العظام، والحكماءُ الكرام، والشعراءُ المفلقون، والراوون الصادقون. فهناك أول ما فُلحت الأرض، وعلم الطول والعرض، وتحدَّدت الأفلاك ورُصدت، وسُلكت البحار وقُصدت، ودُرست الطبيعة، ووُضعت الشريعة، وانتشرت المتاجر والصناعة، وبدت اليراعة والبراعة، وكشف اللسان قناعه، فمن الشرق مبادي المبادي، وأيادي الأيادي. ولكن الدهر غيور، والزمان غدور، فلما نظر هذا القضاءُ فلاح هذه الديار، ونجاح هذه الأمصار، بسط عليها سحاب الكوارث، وأثار عجاج الحوادث، فوقع النزاع بين الملل، وانتشب الحروب بين الدول، وشبَّت نيران القتال، وارتفع لهيب الأهوال، فضجَّت الناس بالفتن، وعجت في الرءوس المحن. وما برحت التقلبات تمد مضاربها، والمكائد تعد ملاعبها، والزمان ينفث الانقلاب، والخطأ يعبث بالصواب، حتى أولج الدهر سنانه في مقتل العقل، وأوقع الغلط حسامه في عنق النقل، فهجم الظلام من خباياه، وبرز الخراب من زواياه، فتاهت الأهالي في هذه الدياجر، وتساقطت في تلك المعاثر، واسترجع الإقبال يسره، واستطلع الإدبار عسره، حتى غرقت العقول في لجج الجهالة، وتمرغت الطباع في بطايح الرذالة. وهكذا قد انقلبت المدن العظيمة، وانمحت الآثار القديمة، واضطربت المتون الراسخة، وهوت السرادق الشامخة، حتى نعب بوم الدمار، ونعق غراب الدثار، وما زال أن سلم الشرق نفسه، ورفع الغرب رأسه.