حال العلم
ولما كان العقل مطبوعًا على الاكتساب، وحاويًا ملكة التمييز بين الخطاء والصواب، أوعزت إليه دواعي الحركات الذهنية، وبواعث الحياة البدنية، واللوازم الدينية، أن يرتب تصوراته ويهذبها، ويجمل دلايلها النطقية ويؤديها، وأن يبحث في الموجودات ويستقصيها، فيدنيها إليه أو يقصيها، حتى يستخدم ما طاب له وسر، ويطرد ما خبث وضر، فيستعين بالجوامد على حيوياته، وبالماديات على روحياته. وأن يعرف الخالق من المخلوق، والصانِع من المصنوع، والموجد من الموجود، كمعرفة الوالد من المولود. وهكذا فقد نشأ العلم، وقام الفهم، فالعلم ريحانة النفوس، وروحٌ قدوس، به تنشر الأفكار، وتبصر الأبصار، وتكشف الأسرار، وتجلُّ السراير، وتبرز الضماير، وتسمو العنايا، وتصفو النوايا، وبحسنه تحسن الصفات، وبكماله تكمل الذوات، وهو الكنز الذي لا يفنى، والجمال الذي لا يشنى، قوة الكبير، سند الصغير، زخر الفقير. فمن حازه حاز الجلال ولو كان حقيرًا، والكبر ولو كان صغيرًا، والثروة ولو كان فقيرًا، والعتق ولو كان أسيرًا، والسطوة ولو كان ضعيفًا، واللطف ولو كان كثيفًا، والعز ولو كان ذليلًا، والصحة ولو كان عليلًا، والقبول ولو كان رذيلًا، والدخول ولو كان دخيلًا. فيه ارتقى الإنسان ونجح، وتجلل وفلح، وأصبح أعظم الكاينات وأجود الموجودات، والخيرات اتسعت، والأضرار امتنعت، والنفوس غلت، والحياة حلت، والممالك شُيِّدت، والمدائن تسيدت، والصنايع عمت، والفلاحة تمت، والمتاجر انتشرت، والأخطار اندثرت، والطبيعة خضعت ودنت، والعاصيات طاعت وعنت، والآفات غُلبتْ، والنوائب سُلبتْ، والمعاملات شاعت، والمعامل ذاعت، والسياسة صلحت وتجملت، والأحكام عدلت وتكملت. ولم يعد للظلم مداوٍ، ولا للجور جوار، فما العلم إلا جمال الإنسان وكمال الأذهان.
أما العلم فهو لذَّةٌ ثابتة للعالِم، وتعزيةٌ له في آلام العوالم، وبينا ذلك فلا يخلو من النكد، والنفث في العقد. على أن العالم لا يبرح متبلبل البال، قلق الحال، لا يسكت لبُّه، ولا يسكن قلبه، ولا تهجع أفكاره، ولا تصمت أذكاره، فنومه أرق، وسكينته قلق، وراحته تعب ووصب، وجهاد ونصب، وسروره غموم، وضحكه وجوم، فيرى الدنيا مطارح تعاذيب، ومسارح أكاذيب. فإذا اعتبرته لا يعتبرها، وإذا عرفته ينكرها؛ لأنه لا يحفل بكل الأشياء، ولا يعبأُ بحركات الأحياءِ، فالمراتب عنده مكارب، والمناصب مغاصب، والأموال أثقال، والإحسان قيل وقال.
وهاك مقالي إلى طالب علمٍ: