حال الجهل
أمَّا الجهل فهو عدم العلم وآفته، وقاعدة التوحش ودعامته وعلامته ورايته، وما الإنسان
إنسان إلا بالعلم، ووحش ضار بالجهل الملم، فالجهل عثرة الساير، ووعكة الحاير، وعماء الناظر،
وتيه الضايعِ، وخرس الناطق، وصمم السامع، وأينما حلَّ وحِلَت الملايح، ونزلت القبايح،
وسقط
الغار، ونهض العار، وسكتت صوادح الفطن والفكر، ونطقت جوارح العيِّ والحصر، ونُكِّس رأس
المعلوم والمقبول، وشمخ أنف المجهول والمرذول، ووقح الأجدع، وتسلح الأكتع، وسبق ذو القزل،
وأصاب ذو الشغل، واغتنى اللئيم، وافتقر الكريم، وهار الهدى والصواب، ونتأ الخطأ والمعاب،
وتتوج رأس الأسير، وتقيدت رجل الأمير.
إذا حكم الخطأ قُتِل الصواب
فلا شرعٌ هناك ولا كتابُ
وأعلم ذا الملا يعنو ويدنو
وأجهلهم يسود ويستهابُ
فلا عجبٌ إذا ما السحب هارت
ولا بدعٌ إذا شيد الضبابُ
وللحصباءِ في البطحاءِ ريٌّ
وفي العلياء للشهب التهابُ
ولكن الحصا للوطي عُدَّتْ
وللجليان قد عدَّ الشهابُ
فما للجاهلين سوى افتقارٍ
ولو تبرًا لهم عاد الترابُ
وما لذوي النهى إلا ارتواءٌ
ولو أجرى اللظى لهمُ السحابُ
فما نفع الجهول غداة خطبٍ
وأين نراه إن جدَّ الطلابُ
إذا حاز الغنى أضحى لئيمًا
وليس يروقهُ إلا الخرابُ
يجدُّ وراء كل ردى وشرٍّ
ويُنصب كلما خفضت رقابُ
لأن الجهل يورثُ كل طبعٍ
قبيحٍ فالجهول إذًا مصابُ
وإن أعطي السيادة وفق دهرٍ
بغى ولبغيه شاب الغرابُ
فتنحبُ يوم ميتته المعاصي
وتنبح يوم مولده الكلابُ
فيحيا آثِمًا ويموت كفرًا
وينشر كي يداهيه العقابُ
ولكن ذو النهى غوثٌ لكلٍّ
وغيثٌ لا يكف له انصبابُ
إذا خان الزمان هو الموافي
وعند المشكلات هو الصوابُ
وإن فقر اغتني وإذا اغتني لم
يعد بسوى مكارمه يُعابُ
أما الجهل فهو مصيبة الجاهل، وعطشه في المناهل، ومع ذلك فلا يبرح الجاهل صاحب الفرح،
عدو
الترح، ساكن البال، رايق الحال، مرتاح اللب، خالي القلب، يبسم مدى الدهر، ويقهقه في كل
أمر،
ولا يعبأُ إلا بالحال، ولا يفكر إلا بالمحال، فتراه هايمًا بالأموال، وضاربًا في وادي
الآمال، يتوقع المراتب ولو بعدت عنه، ويستعطف المناصب ولو نفرت منه، ويستحب الباغض، ويستفتح
القابض، وربما تقلد السيف وهو الجبان، وطلب الكرامة وهو المهان. وقد جرى ما جرى، فقلت
لمن
درى، وفي كل ميدان مجال، ولكل مقام مقال:
أسيرٌ ينادي العتق يا دهر لبِّهِ
حبوهُ حلى التشريف لكن لسَبِّهِ
أرى الظبي لا يشتاق إلا كناسهُ
وذا الجنح لا يلتذ إلا بقضبهِ
ففي قفص البلور للطير سجنه
وللظبي في صرح العلا كل كربهِ
وهبك وثاق الأسر صيغ من الندى
فهل لأسيرٍ غُلَّ فيه روًى بهِ
فما لامرئٍ عيشٌ سوى بين قومه
ولا محسنٌ للمرء غير محبهِ
أيخدعني خصمي بحلو كلامه
إذا كان مرُّ البغض يجري بقلبهِ
وما هو إلا الغبن إن يقبل الفتى
سلام الذي لا يرتضِي غير حربهِ
ومن صغرٍ في النفس بسط امرئٍ يدًا
لمنحة من لم يسع إلا بسلبهِ
وكم سارقٍ أغرى صغيرًا بفلسه
ليغتال دينارًا رآهُ بعبهِ
إذا كان لي يومًا لسانٌ أقل ولا
أخاف وما خوف الفتى غير شجبهِ
ولا ريب أن الموت خيرٌ لعاقلٍ
يعيش أسيرًا للعدوِّ وصحبهِ
إذا كنت ذا غصبٍ فكن ربَّ ساعدٍ
وإلا فخلِّ المشرفي لربهِ
ومن لم يكن للسيف أهلًا فلم يكن
على جنبهِ ذا السيف إلا لضربهِ