حال التمدن
كل حالٍ تدور على هذه الحال، فهي قطب كل الأحوال، ولا باسط لحقايق التمدن الجليل، أبلغ من تلاوة الإنجيل. فهناك التمدُّن وقرارهُ، ومحوره ومداره. هناك يقوم تأديب الطبيعة، وتهذيب الشريعة، وإصلاح السيرة، وفلاح السريرة، وتبادل الحب والولا، وتراضي البغض والقلا، ومحبة القريب، وإجارة الغريب، وصلة الفقير، ومواصلة الصغير، وعيادة المريض، ومواساة المهيض، وزيارة الأسير، وجبر الكسير، وتعزية الحزين، والرفق بالمسكين، واحتقار المال، واعتبار الأعمال، والتزام الخالق، وإطراحُ الخلايق، وطلب الصالحات، وترك الطالحات. فهذا اختصار التمدن المطوَّل، وما عليه المعوَّل، فلا تمدن بين أوليك الذين يتعرون من هذه الصفات، وينفرون من تلك الكمالات، فلا يقوم التمدن لدى من اغتنى عن فعله بالاسم، واقتصر عن حده بالرسم، ولا تمدُّن بين أوليك الذين يخيطون الثياب، ويمزِّقون الثواب، ويحسنون المسير، ويسيئون المصير، ويعجلون الخُطا، ويجعلون الخطا، ويمسكون العصا، ويرتكبون العصا، وينصبون الميزان، ويكسرون الأوزان، ويعجمون لسانهم، ويرجمون إنسانهم، فيتفاصحون بالعجمات، ويتعرفون بالنكرات، ويتداولون المجهولات، ويتجاهلون المعلومات، وينظمون الموضوعات، وينثرون المحمولات، ويحبون الظواهر، ويبغضون الضوامر، ويحفلون بالمسعى، وينجعون بالرجعى، ويتغايرون بالرذايل، ويتعايرون بالفضايل، ويجمحون إلى الأموال، ويجنحون عن الأعمال، ويلبسون الخطل، ويتحلون بالعطل. وأين التمدن من أوليك الذين يتخذون دون ربهم ربَّ المطروق، ويلهون عن الخالق بالمخلوق، فيحفلون بالأبدان ويخلفون بالأديان، إذ يعبدون الملابس ويكفرون بالمقادس، وهم في جهلهم يعمهون، وفي طغيانهم يتيهون، فكلٌّ منهم لا يعلم علمًا، ولا يفهم فهمًا، وهو يشتمُ الدين وقضاياه، ويرفضُ الناموس ووصاياه، ويلغو بالرعاة وهو الضال، ويرغو بالرشد وهو الخال، ويتفاصح بلسانٍ معقود، ويحاجُّ ويصغي بنطقٍ مفسود وسمعٍ مسدود. فهنا السباق إلى المهاوي، ومضمار المساوي، وعناق الرذيلة، وطلاق الفضيلة، حيثما تحتبك المعاصي، وتشتبك النواصي، فأين التمدُّن من هذه الأطوار، بين أوليك الأشرار، آل التوحش، وأولو التحرش.