ولما كثرت جموع الملا، وآنسوا وحشة الفلا، وعلق الخاطر بالخاطر، وانضمَّ البادي إلى
الحاضر، هفا الجار إلى الجار، وذكت النار بالنار، واشتغلت هيئة بهيئة، واحتاجت فيئة إلى
فيئة، فتبادلت الناس صلات الخدم، واشتف كلٌّ إلى كلٍّ والتزم. وإذ كان الإنسان يحب خيره،
ويمقت غيره، ويسأم السؤال، ويسوم الاستقلال، لم يمكنه استخدام الغير، ما لم يفِ بالخير.
فجرت الأمور بمجرى الأجور. وهكذا كان الناس يتقايضون المتاعات، ويتبايعون البضاعات،
فالبهايم بالبهايم، والغنايم بالغنايم، والمحاصيل بالمحاصيل، والمثاقيل بالمثاقيل. وما
زالوا على هذا السلوك، حتى ابتدعوا المسكوك، فأبدأ الذهب لمعانه، وأطال شوكته وسلطانه،
واهتزَّ كلٌّ لسطوتهِ وارتعد، وخضع الكل له وسجد. على أن الحياة صارت تدور عليه، ومجد
الإنسان يقوم لديه، فبقدره يقدر الإنسان، وبكثرهِ يكثر الإحسان، وبوجوده وجد المفقود،
وبفقده فقد الموجود. فهذا ما يُقال له المال، وما عليهِ مدار الأعمال. فالمال ربٌّ قدير،
وسلطانٌ نصير، تندكُّ لهيبتهِ الجبال، وتعنو لديه الملوك والأقيال، ويخشاه الزمان، ويرهبهُ
الحدثان، وتنطقي منهُ النوائب، وتختفي الشوايب. فبه الجاهل يعقل، والخفيف يثقل، والجبان
يشجع، والبليد يهرع، والفهيه يفصح، والمعتوه ينصح، والأخرس يسجع، والأصم يسمع، والعبد
يسود،
والأعمى يقود، والحقير يعظَّم، واللئيم يكرَّم، والممقوت يَردُّ، والمهمل يُعد. أما بدون
المال فالعاقل يُحسب جهولًا، واللبيب مهبولًا، والعزيز ذليلًا، والأصيل دخيلًا، والنبيه
فهيهًا، والفقيه سفيهًا، والصحيح سقيمًا، والكريم لئيمًا، والطيِّب خبيثًا، والقديم حديثًا،
والشجاع جبانًا، والوفي خوَّانًا، والمستقيم معوجًا، والحي مسجى، والمحب مبغوضًا، والصديق
مرفوضًا. وكل ذلك يعلمه الجاهلون، ويجهلهُ العاقلون.
هذا حال الغني والفقير
جلس الغني على ذلك الديباج العظيم، واحقوقف الفقير على مخلوق الأديم. أما الغني فكان
متسربلًا بالأرجوان، مزرورًا بالجمان، وعلى رأسه إكليل مُرصَّع، وفي إصبعه خاتم يسطع،
والحفدُ يطوف حوله، والحشم يمتثل قوله. أما الفقير فكان ملتفًّا بالأسمال والأطمار،
وممنطقًا ومبرقعًا بالأتعاب والأكدار، وعلى رأسه عمامة خلقة، وفي إصبعه خاتم حلقة. فرفع
الغني إلى الفقير نظره، وحملقه وشذره، ثم قال له بلسانٍ جري، وصوت جهوري:
الغني
:
ما شأنك والجلوس أمامي، والحضرة في مقامي، يا أيها الرجل الحقير، والإنسان
الفقير؟ فكيف جسرت على الدخول في هذا الباب، وشجعت على هذه الأعتاب؟ ومن أنت
وما أنت؟ وكيف وُجدت ومتى كنت؟ أما تدري أن الأغنياء سلاطين الزمان، وأرباب
الأوان، وهيبتهم تهول الحدثان، إذا تحركوا حركوا، وإذا نطقوا استنطقوا، وإذا
خاطبوا خطبوا، وإذا طارحوا طرحوا، فهم الذين يسودون الجماعة، ويتصدرون في كل
قاعة، يخطرون في أعظم الثياب، ويسحبون مطارف الإعجاب، لهمُ المقامات العليا،
ولأجلهم خُلقت الدنيا، فيجننون مسرَّاتها، ويقتطفون ثمراتها، ويهصرون كل عود،
ويجندون كل جود.
الفقير
:
لا تفتخر أيها الغني بغناك، ولا تعجب لجمال مغناك، فما ذلك بصالح الأعمال،
وما كان إلا للزوال. ولو كنت دهقان الزمان، وقهرمان الحدثان، فستظلمُ بسراجك،
وستدرجُ بديباجك، وأنت في الإكليل مكبول، وفي الغلايل مغلول، تحيا قلقًا، وتحبي
أرقًا، وأنت غريقٌ بلجج الأعمال، وحريقٌ بنار الآمال، لا ينعم لك جنب ولو توسدت
النعام، ولا يترخم لك منزل على الرخام، فلا تفتر أليف الجهاد، وحليف الاحتشاد،
بينما لا يبرح قلبك متمزقًا بأنياب المطامع، ولا تزال مجامعك متفرقة بين
المجامِع. فكلما أُعطيت استعطيت، وأينما استعصيت عصيت، وكيفما بجلت بخلت، وكلما
بخلت خبلت، وحيثما حسيت حسبت، وأيان نسيت نسبت، فأنت المثريُّ المرثى، والذهب
المغثى. أما سلطانك فعلى نفسك، وتجنيك على جاني فلسك، وهيبتك على أهلك، وإلا
فتهلك. فما اعتبروك إلا ليعيروك، وما مجَّدوك إلا ليجمدوك، وما اصطفوك إلا
ليقطفوك، وما صدَّروك إلا ليردوك، حتى إذا ما قفيت استقفوك، وقالوا أمك
وأبوك.
الغني
:
اخس اخس، ولهذرك انس، فنحن القوم الكبار، وأنتم الناس الصغار، ونحن الأعيان
الرفاع، وأنتم آل سوقة الرعاع، فهل تقومون إلا بنا، وهل تُمْطَرون إلا بسحبنا،
فطالما غيضنا منكم البكا، وفيضنا عليكم الوكا، وأنتم تدرون ولا تفعلون، وتفعلون
ولا تدرون، فكلكم أهل متلوف، وما منكم رب معروف، فلتعش الأمانة، ولتمت
الخيانة.
الفقير
:
اصمت صَهْ، اسكت مهْ، فما دعواك هذه إلا ابنةُ الجهل، آفة الأغنياء، وحليفة
الكبرياء. فإذا راجعت النفس، ترى العكس، إذ أنتم بنا تحيون، ومن مناهلنا تروون.
فنحن الفيئة الكبرى، وأنتم الفرقة الصغرى، ونحن فعلة الطبيعة، وشغلة الأرض
الوسيعة، نحرث الأرض ونشتغلها، ونسكن الرحاب ونأهلها، فلا نحتاج إليكم، ولا
للمثول لديكم، إذ نقتات من النبت والشجر، ونلبس الصوف والوبر، ونستضيءُ بالشمس
والقمر، ونتوسَّدُ التراب والحجر، على نعيم البال، وخلو البلبال، وصحة البدن،
وطيب الفدن. أما أنتم فماذا تعملون إذ لم نرفدكم؟ وكيف تعيشون إذا لم نفدكم؟ يا
نسل البليد، وأهل التليد. فهل يغنيكم التبر عن التراب؟ والأكنان عن الرحاب؟
والياقوت عن القوت؟ والبحر عن الحوت؟ إنما الدرُّ من الصَّدَف، والانتظام من
الصُّدَف. فإذا أطمعتمونا بمالكم، فلنيل آمالكم، وإذا عاملناكم بأعمالنا،
لتخفيف أحمالنا. فأنتم تحيون بنا، ونحن نشتغل بكم، فلا تحيجونا لثلبكم أو
لسلبكم.
الغني
(فنهض الغني على قدميه، وبسط جفون عينيهِ، وكشَّر أسنانه،
ودلع لسانه)
:
لماذا أكثرت شتمي، وأطلت رجمي، وأنت تغيظني بخطاك، وتعدى عن الحدود خطاك،
هاتكًا حرمة الأدب، وفاتكًا بسطوة النشب، فلا أعتبنَّ عليك، وإذ لا تهذيب لديك،
على أن الفجور من شأن الفاقة، وما أقبح الفاقة والحماقة، فلا يجود الفقير، ولا
يسود الأسير.
الفقير
:
الشتم بالشتم، والرجم بالرجم، ولو لم تتخطَّ الأدب، ما استنطقتك العتب، فأنت
المبتدي، والمبتدي معتدي، والأدب من خلق النفس، كالنور من الشمس، لا يأتي
بالكتاب، ولا بالجد والطلاب، فمن لم يكن ذا استعداد، لم يفز بالمراد، فلا علمٌ
يفيد، ولا معلمٌ يقيد. والتربية في الأفلال، أعظم منها في الأموال، فالفقير
يثقفه الكد، ويهذبه الجد، وتربيه الأيام، وتصلحه الأنام، فتحسن صفاته، وتحمد
أوقاته، ويأمن شر النكد، وضرَّ اللدد، ووقايع المباراة، ومواقع المداراة،
وشوايب المناجاة، ومعائب المداجاة، فيعيش بلا كدر، ويموت بلا حذر، تاركًا حسن
الأثر، إذ لا يعتني في لعلَّ وليت، ولا يتمنى خراب بيت، ولا يتهنَّى بانقلاب
صيت، ولا يتكنَّى بالخِرَّيت، فيكون كل كنزه في الحصول على خبزه، حتى لا يخامره
مرض المطامع، ولا مضض المسامع، فيخلو من الحسد المفترس، والطمع المختلس،
والكبرياء الوحشية، والأميال الفحشية، أي كل الانفعالات التي تحرق الإنسان، ولو
كان في الجنان.