الجمال هبةٌ إلهيةٌ، ومنحةٌ طبيعيةٌ، فهو مشهدٌ يلذُّ الناظر، ويروق الخاطر، ويستميل
الجنان، ويشغل الأذهان، ويستفزُّ التحبيب، ويستثير التشبيب. فحيثما لاح علقت الخواطر،
وعشقت
النواظر، وأجلَّه ما سلم من الصناعة كُليًّا، وكان جمالًا طبيعيًّا، فلا ينزل التبليج
منزلة
البلج، ولا يقوم التزجيج مقام الزجج، ولا يحل التكحيل والتدعيج محل الكَحَل والدَّعَج،
ولا
يظهر التوريد مظهر الورد، ولا يبرز التنهيد بروز النهد. وهذه الصفات الباهية، تغلب في
البادية:
البدويَّة
سقى الجانبَ الشرقيَّ من حلب الشبها
غمام حمى من شهب ذاك الحمى الشهبا
وحيا الحيا تلك الربوع وجادها
فلا وجدت جدبًا ولا عدمت خصبًا
ولا برحت تلك المروج زبرجدًا
ولا زال ذياك الندى لؤلؤًا رطبا
هناك من الأعراب لي بدويةٌ
غزت بالعيون الترك والعجم والعربا
مهاةٌ أبت إلا السراح مع المها
فتوحش من حاب وتونس من حبا
لها في فواد الصب مرعًى ومرتعٌ
ولو رتعت في البيد أو رعت العشبا
غناها بياض الجيد عن بهجة الحلى
وعن حسن ماءٍ ماءُ حسنٍ أبى النضبا
فما ورَّدت خدًّا ولا بيَّضت طلى
ولا حمَّرت ثغرًا ولا سوَّدت هدبًا
ولا جعَّدت شعرًا ولا صقلت يدًا
ولا عرَّضت ردفًا ولا ضيَّقت جنبا
فقد دبَّج الرحمن ألوان حسنها
وقد نحتت أيديهِ قامتها العجبا
ترائب ساج تحمل الصبح لا الحلى
وأرساغ عاج تلبس القلب لا القُلبا
ونسرين وجه لا يحول بياضهُ
وإن يستحل وردًا فذا إن رأت صبا
أضاربة في مهجتي مضرب الهوى
عليكِ بهِ لا بالقلا فهو لا يسبى
وضاحكة والرفق أنتِ بمدمعي
فديتكِ من ضحك ولو زِدتني كربًا
وباديةٌ في طلعة بدوية
يروح لها دمع الحضارة منصبَّا
فما خضبت منكِ الخدود وسادة
ولا نظرت مرآتك الصبغ والخضبا
ولا شربت عيناك أدمعها ولا
أبت شفتاك الحمر في محضر شربا
وما اعتضت عن ردفٍ بقوس وعن
ثدًى بحشوٍ ولا أوقعت في وجهك الكذبا
جمالٌ طبيعيٌّ حوى كل بهجةٍ
ولطفٌ بديهيٌّ سبى العقل والقلبا
وللجمال سطوة كاسر، وهيبة أكاسر، وحكم صائل، وسودد طائل، يذلُّ الكرام، ويعزُّ اللئام،
ويخفضُ الكبير، ويرفعُ الصغير، أينما لاح خطف الأبصار، وأخذ بالأفكار، فترتعد لديهِ
الجوارح، وتهتزُّ منه الجوانح، وتكثر الدموع، ويقلُّ الهجوع. وأيان تملك كانت فرايضه
الآلام، وجزيتهُ الأسقام، وأوضاعهُ الوساوس، وشرائعهُ الهوادس، فهو ملكٌ ظلومٌ، وبطلٌ
هجوم،
يطلب على الكل السيادة، ومن الكل العبادة؛ ولذلك لا يفتر ثوران القلب عليه، ولا ينكف
عجيج
الخواطر لديه، مع أن دولتهُ أقصر من يوم الفرح، وزوالهُ أسرع من مرور الشبح، فما هو إلا
عرض
مفارق، وطيف طارق.
سطوة الجمال
للحسنِ حكمٌ لا يردُّ وسوددُ
يغزو القلوب وما على يدهِ يدُ
فإذا بدا برقُ الجمال لذي الهوى
لم يبق فيه سوى فواد يرعدُ
سبحان من خلق الجمال فإنه
ملكٌ لديهِ كل قلبٍ يسجدُ
كن يا فواد على الصبابة ثابتًا
فلكم بها من لذَّةٍ تتجدَّدُ
واخضع لأحكام الغرام ولا تطِع
حكم العذول فإنهُ لا يحمدُ
وإذا الفتى ما ذاق آلام الهوى
لم يدرِ لذات الهوى إذ توجدُ
لا بدَّ من ألمٍ يضيم ولذةٍ
عرضان بينهما الجواهرُ تفسدُ
طعنت فوادي قامة ودمي بهِ
طرفٌ فذي رمحٌ وذاك مهنَّدُ
كبدي بنار الحبِّ قد ذابت ولا
عجبٌ فكم في الحب ذابت أكبدُ
غلبَ الغرامُ عليَّ حتى أنني
أبغضت عيشي وهو عيشٌ أرغدُ
لا أبتغي صبرًا على ألم الجوى
فالصبر يسلب همتي ويبدِّدُ
أفريدة الأوصاف رفقًا بي إذا
غلب الهوى فأنا المحبُّ المفردُ
كم في الطبيعة من عجايب جمة
لكنَّ أعجبها بوجهك يوجدُ
لكِ طلعةٌ غرَّاءُ قد نفت الكرى
عني فويح نواظر لا ترقدُ
لا تنكري في الحب طول تسهُّدي
فالبدرُ يشهد لي بهِ والفرقدُ
لم يحلُ غيرك لي فمهما تأمري
أفعل فإني بالهوى مستعبدُ
إني سجدت لشمس حسنك فاسجدي
بتقى لنارِ هوًى بقلبي توقدُ
فأنا إله العشق جئت مولعًا
بكِ يا إلهة الحسن وهو الأمجدُ
لكِ في الهوى قلبٌ كقلبي واجدٌ
وعليهِ يوم الشمل عينك تشهدُ
قلبان منا يخفقان على اللقا
والشوق بينهما يقوم ويقعدُ
فخفوق قلبي مكمدٌ ومصفِّرٌ
وخفوق قلبك مبهجٌ ومورَّدُ
ملكت فوادي ربة الحسن البديعِ
والحسن سلطانٌ يصول على الجميعِ
تلك التي إعراضها أبدى الخفا
مني بدمعي وهوَ ضمن خبا منيعِ
عذراءُ عودها النفار تدلُّلًا
أبدًا وعوَّدني مداومة الخضوع
وإذا الفتى هوى الملاح تهذَّبت
أخلاقهُ وغدا أخا طبع وديع
واليوم إني قد هويت بديعةً
فاقت محاسنها على القمر الرفيع
غرس الجمال بخدها ورد الصبا
وأجل فوق جبينها ورد الربيع
يا عاذلي ذر عنك لومي إنني
قد ضِقت ذرعًا بالمحبة والولوع
حتامَ أنت تلومني بهوى التي
لعيونها ضعفت قوى الأسد الشجيع
يا من أشعة حسنها اندفعت إلى
عقلي وكان القلب زاوية الوقوع
لا تحجبي أنوار ذاك الجيد عن
عيني فكم حلتهُ من درر الدموع
بالله ما هذه القساوة والقلا
شردت صبري والهوى ملءُ الضلوع
لا تسمعي مين الوشاة فكم وشوا
بك يا ضيا عني ولم أكُ بالسميع
ذو الحبِّ لا يثنيهِ عن محبوبه
واشٍ ولا عذلٌ أتاه من الجميع
فبحق قتلك بالصدود أخا الهوى
عن أي شيءٍ جئت بالهجر المريع
هل عن دلال أم ملال أم قلى
أم رمتِ تجربة لعبدك ذي الخضوع
أوتجعلين الهجر تجربةً لمن
يقضي به حاشاك من هذا الصنيعِ
لا تحسبي أني سلوتك منيتي
كيف السلوُّ وما لجفني من هجوع
قسمًا بنهدك والترائب واللما
لم أسلُ طلعة ذلك الوجه البديع
فكفاك ذا الهجران للصبِّ الذي
غادرتهِ بهواكِ ملقى كالصريع
من بالهوى خلع الحياءَ وعافهُ
خلع الحيا في وقتهِ شأن الخليع
جودي على هذا القتيل بنظرة
يحيا بها من ذلك الوجه اللميع
لما رأت ذلي لها وتخشعي
ضحكت وقالت ما ورا هذا الخشوع
إن كنت تصدق بالمحبة يا فتى
فاصبر على هجر الحبيبة بالقنوع
فعساك تحظى بالوصال وربما
قلبي الرفيع يرقُّ للصب الوضيع
ذو العقل لا يكُ مسرعًا بمسيره
في كل شوط يا أخا القدم السريع
والشمس في راد الضحى تمشي على
مهلٍ وتسرع في المغيب وفي الطلوع
فأجبتها والله إنِّي صادقٌ
بالحب ما لي عن ودادك من رجوع
إن الهوى مثل الهواءِ زحامه
من كل ناحية بقلبي والضلوع
ولا يحسن جمال الذات، على قبح الصفات، على أن جمال المخبر، قبل جمال المنظر، وحسن
الطباع،
قبل حسن الرقاع. فلا يروق الناظر بياض المحيا إذا ساهُ سواد العمل، ويضحك بياض السجايا
على
سواد الكحل، وهل يطيب ورد الوجنات على شوك الحركات، وجودة الأسنان على خبث اللسان، وفصاحة
الألحاظ على ركاكة الألفاظ، وحسن المباني على سوءِ المعاني، فلا جمالٌ قبل الكمال، ولا
أقوالٌ قبل الأعمال.
دع رونق الخلق وانظر رونق الخُلقِ
حسنٌ بلا أدبٍ زهرٌ بلا عبقِ
وأعشق بياض المزايا والصفات ولا
تحفل بعشق سواد الشعر والحدق
فهل يروقك ثوبٌ لاق منظرهُ
يومًا إذا كان مصنوعًا من الورق
إليك عني جميلًا لا جميل له
إن روَّح العين أبقى القلب في قلق
هيهات ينطق قلبي بالغرام على
حسن أصمَّ بلا حس ولا نُطق
إذا اقتصرنا على عشق الجمال فكم
لفينس صنمٌ مستوجب العشق
والخمر للعين تحلو منظرًا وإذا
لم تحلُ فعلًا فللتهويع والحرق
وكم قدودٍ بدت كالنحل في سعة
وضيقة وهي عظمٌ قام في خرق
هياكلٌ من عظام لا لحوم لها
تلحمت بجلابيبٍ ولم تطق