حال الموت
الموت خاتمة كل الأحوال، ونهاية الأعمال والآمال، فلم تزل الفواعل الطبيعية، تصادم مجال الحركة العضوية، ولم تبرح الأكوان الخارجية، تعارض مجرى الأعمال الحيوية، حتى ينقطع الواصل، ويتفرغ الحاصل، إذ يكون الظاهر عاث بالباطن، وعبث الراحل بالواطن، فينحطُّ الركن العضوي، ويندكُّ الوطد الحيوي، حتى إذا ما تغلَّب التحليل على التمثيل، وترجح التفصيل على التوصيل، بطلت عوامل الإحساس، وهبطت صواعد الأنفاس، وسكتت ضجات الأفكار، وسكنت حركات الأبصار، ولم يعد في الذهن تمثال، ولا في اللسان مقال، إذ يبرقِع العدم محيَّا الوجود، ويُطفي الخمود أعين الوقود، ويضرب السكون هام الحراك، ويصفع السَّدَر قزال الإدراك، وهكذا تستولي ظلمات الحُتُوف، وتنجدع شوامخ الأنوف، فلا سيف هناك ولا نجاب، ولا تبهنس ولا إعجاب، حيثما يبتلِع الكلَّ فم القبر الفاغر، ويهضم الجميعَ جوف التراب الداغر، فهناك تنخذل الرءوس المترقية، وتعفَّر الوجوه المتنقية، وتغور العظمات، وتمور الكرامات، ويتمزق البرفير والأرجوان، وينكسر كل قضيب وصولجان، وتتساقط الأكاليل والتيجان، فترى الأرامس تنطبق على القصور، والسرادق تنطوي في القبور، والتابوت يحمل المعركات، والدركات تعلو على الدرجات. هناك تسكت ضوضاء النفوس، وتخرس رنات الكئوس، وينتثر عقد الأعمال، وتنفرط سلسلة الآمال، وترد جوامح الجوانح، وتصد طوامح الجوارح. هناك يروي الجمود عن الهيبة، وتضحك على الشهود أفواه الغيبة، وتبكي على المطامِع عيون الخيبة. هناك يقبح منظر الجمال، وينقص كل كمال، فيسيل على ورد الخدود كافور المنون، ويأخذ سكون الموت بحركات العيون، وينشمر الأقنى، وينشدق الألمى، ويكفهرُّ الأسنى، حتى يعود اللطيف كثيفًا، والظريف مخيفًا، والأنيس وحشيًّا، والجليس سئيًّا، والمعشوق مهجورًا، والصديق مغدورًا. هناك تسلو العشاق، وينفر المشتاق، ويتقاعس الطالب، ويقشعر الراغب، ويسبك الكل في قالب النسيان، ولا يعود يذكر الإنسان، وهكذا يسترجع الجماد إلى حوزتهِ، ما استعاره الحيوان في عوزتهِ.