ولما تم الإنسان في جنسه، وعَلِمَ عِلْمَ نفسه، نظر إلى الكائنات فأدركها، وجدَّ وراءَ
المعرفات فأدركها، حتى إذا ما أطلق على المحيطات به نظر المنتقد، وميَّز الأشياء وفصلها
بفكره المتقد، ما لبث أن مدَّ على الكل ظلالَ رايته، وأخضع الجميع تحت رياسته. وإذ أخذتهُ
جانحةُ الطمع، وغلبت عليه ملكة الولع، وهام بحب الذات وبالفوز على الذوات، ثارت الموجودات
عليه بطبايعها، ونهضت ضدهُ الأكوان بشرايعها، وأخذت تدافعهُ وتصارعه، وتطالبه الوجد
وتنازعه، فنضى سيف حُكْمه وحِكَمه، وأُخْضِع الكل تحت قدمه. فكان غلبهُ غلبةً عليه،
وإدراكهُ مصيبةً لديه، لا سيَّما إذ عرف الزمان، وميَّز بين الآن والأوان، فغدا يصارع
الحاضر، ويرتعد من المستقبل، ويأسف على الدابر. فراحت الحوادث تطارده، والأيام تعانده،
حتى
أصبح هدفًا للأحوال، وعرضةً للأهوال، تارةً يهيمُ بطلب المسرَّات، وتارةً يضِجُّ في حرَب
المضرَّات. وبينما الملذاتُ تحيط بقلبه، تحدق الآلام بلبه، فما ابتسم إلَّا وبكى، وما
شكر
إلَّا وشكا، وإذا فرح بَضْع أيام حزن بعض أعوام، فلا بد لأفعاله من رد، ولوصله من صد،
يرى
الدنيا زهاقًا بالملذات، ولا تسقيه سوى الآفات، فيعيش فريسةً لآماله، ويموت خايبًا من
كل
أعماله. وهاك هذا المقال، منسوجًا على ذلك المنوال:
صاح بي الدهرُ فاتبعت مسيرهْ
لأرى أين أين أينَ مصيرهْ
ظل يحدي ظعني على الأرض حتى
ظلِعَ الظعنُ والطريق عسيرةْ
قلتُ يا دهرُ هل قراري بعيد؟
قال لي انظر بعينك الشريرةْ
فتأملتُ أين سِرنا وصِرنا
وإذا نحنُ وسط أرضٍ كبيرةْ
قلتُ هذا المقام؟ قال نعم، قلـ
ـتُ وماذا يُدعى فقال الحيرةْ
قلتُ لا خرتُ ذا فحملق مغتا
ظًا كوحشٍ بأعينٍ مستديرةْ
قال لي صهْ يا عاصيًا فهنا قد
سقتُ كل الورى فما لك خيرةْ
قلت أنَّى ولم أجد غير قفرٍ
فيه أبكي وحدي دموعًا غزيرةْ
قال ما أنت وحدك اليوم باكٍ
كل عينٍ بدمعها مغمورةْ
إنما المرءُ لا يرى غير بلوا
هُ فلابن الإنسان عينٌ قصيرةْ
فتمعنت برهةً وإذا الأشـ
ـيـاءُ بانت لباصري والبصيرةْ
قد رأيت الإنسان مُلقًى على الأر
ض كملقي بحرٍ بقفرِ جزيرةْ
تايهًا بايسًا ودهر الشقا يد
عوهُ في التيهِ أن يكون سميرهْ
يطلب النصر في منازلة البو
سي وهيهات أن يصيب نصيرهْ
وإذا ما الآمال سرَّتهُ فالخيـ
ـبة تأتي لكي تزيل سرورهْ
كل نفسٍ مطلوقةً أسر قصدٍ
وبقيد الصروف أضحت أسيرةْ
فدموعٌ تهلُّ من كل عينٍ
ترمق الدهر وهي منهُ ضريرةْ
وقلوبٌ تضِج في لهب اليأ
سِ من الفوز بين غِير وغيرةْ
فملوكٌ تدور في طلب الملك
فتمسي على الفنا مستديرةْ
يستثيرون جمرة العنف والدنـ
ـيا عليهم نارَ العفاءِ مثيرةْ
ورجالٌ من كل صفٍّ وصنفٍ
وذواتٌ من كل شانٍ وسيرةْ
كلهم راقصون في مرسحِ الدنـ
ـيا وكلٌّ يبكي بعينٍ كسيرةْ
وكذا الكل منشدٌ نغمة العيـ
ـش ويشكو سرورهُ وشرورهْ
فجميع الأنام راكضةٌ ركـ
ـضًا إلى القبر وهي عنهُ نفورةْ
عندما هذه الجرايح بانت
لي ودَهري أفادني تعبيرهْ
قلت والله لا طربت بعيشٍ
في زمانٍ أنا غدوتُ خبيرهْ