نحو حياة أفضل
(حُجْرةٌ بسيطة في منزلٍ ريفي … المُصلح جالس، يقرأ
كتابًا تحت ضوء مصباحٍ غازيٍّ موضوعٍ فوق مائدة صغيرة! … ساعةٌ قديمة
في أحد الأركان، تدقُّ النصف بعد الحادية عشرة، فيُفتح بابٌ تَظهَر منه
زوجته.)
الزوجة
:
أظنُّك قرأتَ كفاية! … الليل كاد ينتصف! … نحن هنا في الريف؛
كما تعلم …! وقد اتفقنا قبل مجيئنا أن ننام بعد العشاء ونستيقظ
عند الشروق! … ألَا تذكُر؟!
المُصلح
(وهو ينظُر في كتابه)
:
فعلنا ذلك أمس!
الزوجة
:
يجب أن نواظب!
المُصلح
(وهو مستمرٌّ في مطالعته)
:
واظبي أنتِ وحدكِ!
الزوجة
:
وأنت؟ … ألَمْ يعجبك منظر الشمس وهي طالعةٌ من خَلْف
الغيطان؟
المُصلح
:
أعجبني … ولكنَّ القراءة تُعجبني أكثر!
الزوجة
:
القراءة تستطيعها في «القاهرة» … في كل مكان … ولكن هنا
…!
المُصلح
:
هنا النهار طويلٌ جدًّا!
الزوجة
:
اشغَلْ بعضَه بقراءتك.
المُصلح
:
قلتِ لي ستجلس تحت الشَّجر! … وستقرأ كما يحلو لك في الظلال
الوارفة والمياه الجارية … وقد قضينا نهارَ أمس! … نبحث عن
شجرةٍ واحدة، في هذا الريف، يمكن أن نجلس تحتها؛ فلَمْ نجِدْ
إلا شجرةَ السَّنْط التي ربطوا في جذعها البهائم بعَلَفِها
ورَوَثها … حصَلَ أو لم يحصل؟!
الزوجة
:
قلتُ لك لا تنسَ مظلَّتك!
المُصلح
:
مظلَّتي؟!
الزوجة
:
طبعًا … نحن في صميم الصيف!
المُصلح
:
مظلَّتي في الجنة؟ … قلتِ لي ستذهب إلى جنة الريف! … هل يجلس
الناس في الجنة تحت شجرة أو تحت مظلَّة؟! … والمياه الجارية …
هذه الترعة التي رأينا فيها البارحة جثَّة الحمار النافق
مُنتفِخَةً، يعلوها الذباب والحشرات! … حصَلَ أو لم
يحصل؟
الزوجة
:
أعرف لماذا كل هذه الانتقادات؟!
المُصلح
:
لماذا؟
الزوجة
:
لأنها قرية أهلي!
المُصلح
:
يا لَلنساء … أهذا تفكيركِ؟!
الزوجة
:
لا أجِدُ سببًا آخر لتبرُّمك … أنا هنا معك … فلماذا لا أرى
الأشياء بعين السخط، كما تراها أنت؟
المُصلح
:
لأنكِ لا تريدين أن تَرَي الواقع!
الزوجة
:
إني أرى الواقع، ولكني أتسامح!
المُصلح
:
أمَّا أنا فلا أريد مُطلَقًا أن أتسامح!
الزوجة
:
أرأيت؟!
المُصلح
:
من فضلكِ … لا تحشري شخصكِ أو أهلكِ في الموضوع! … إني لا
أريد أن أتسامح؛ لأن تلك هي مهنتي … عرفتِ الآن؟
الزوجة
:
أعرف دائمًا أنَّك مُصلحٌ اجتماعي، وأنَّ عملك …
المُصلح
:
عملي هو أن أبدأ بالثورة على الوضع الفاسد، أو على الأقلِّ
أشعُر بضرورة تغييره … أليس كذلك؟
الزوجة
:
طبعًا …
المُصلح
:
إذن لا تَسامُح! … لأنَّ التَّسامُح ليس من صفات المُصلح؛
لأن معناه التغاضي عن الفساد، أي القعود عن الإصلاح، أيْ إلغاء
مَهمَّته، وبإلغاء مهمَّته يُلغى وجوده … فهل تريدين أن يُلغى
وجودي؟!
الزوجة
:
بالطبع لا!
المُصلح
:
إذن لا تطلُبي منِّي أن أتسامح عندما أرى شيئًا لا يُعجبني
هنا!
الزوجة
:
في قريتنا؟!
المُصلح
:
وآخرتها معكِ؟! … قلتُ لكِ لا أقصد قريتكم بالذات … أقصد
كلَّ القُرى … كلَّ الريف!
الزوجة
:
اعذرني يا عزيزي! … أنت هنا ضيفنا … والمُضيف حسَّاس بأقلِّ
نقدٍ من الضيف!
المُصلح
:
إني لستُ ضيفكِ … إني زوجكِ.
الزوجة
:
ماذا تعني؟
المُصلح
:
أعني أن واجبك أن تفهميني مجرَّدًا من كل صفة، إلا صفة الزوج
ورسالته!
الزوجة
:
إني آسفة.
المُصلح
:
أعترف أني لم أكُنْ لبِقًا، ولا مجاملًا في أمورٍ كثيرة هنا
… ولكني …
الزوجة
:
ولكنك تؤدِّي مهمَّتك! … فهمتُ الآن!
المُصلح
:
نعم! … مهمَّتي هي إصلاحُ الناس … إنِّي أتمنَّى لو أُغمض
عيني ثم أفتحها فأرى الفقر من حولي قد تلاشى، وأرى الناس
يعيشون في حياةٍ أفضل.
الزوجة
:
حقًّا … إنك دائمًا تتحدث عن حياةٍ أفضل.
المُصلح
:
إنها آتيةٌ لا ريب فيها … إني أحيا بهذا الأمل … وأعمل من
أجله، وأتصوَّر مبلغ سعادتي إذا تحقَّق ذلك في حياتي … أتعرفين
ماذا كنتُ أصنع عند دخولكِ الساعة؟
الزوجة
:
كنتَ تقرأ!
المُصلح
:
نعم … كنتُ أقرأ قصةَ «فاوست» … قصةَ ذلك العالِم الفيلسوف
الهَرِم الذي باع نَفْسه للشيطان؛ كي يردَّه إلى الشباب؛ أيْ
إلى تلك الحياة التي هي أفضل في نظره … كنتُ أقرأ الآن هذه
القصة؛ وأُسائل نَفْسي: تُرى لو جاءني الشيطان الليلة، ماذا
أطلُب إليه؟
الزوجة
:
ستطلب إليه بالطبع حياةً أفضل.
المُصلح
:
نعم! … ولكن ليس لنَفْسي!
الزوجة
:
للناس!
المُصلح
:
بالضبط!
الزوجة
:
قُم إذن ونَمْ … هذا خيرٌ لك … (الساعة تدقُّ دقَّةً) ها هو
ذا الليل كاد ينتصف!
المُصلح
:
اذهبي أنتِ ونامي! … لا بد لي من إتمام القراءة للفصل
الأخير!
الزوجة
(وهي خارجة)
:
تُصبح على خير!
(تَخرج وتترك زوجها وحده في الحُجْرة … وقد عاد
إلى كتابه واستغرق في القراءة … ويأخُذ نور المصباح في التَّناقُص
شيئًا فشيئًا دون أن يشعُر … وفجأةً يبدو شبَحٌ قُربَ الباب … هو
«الشيطان»!)
المُصلح
(دون أن يرفع رأسه عن الكتاب، وقد أحسَّ
بوجود أحدٍ في الحُجْرة ظنَّه زوجَتَه)
:
عُدتِ مرةً أخرى؟ … قلتُ لكِ اذهبي أنتِ ونامي!
الشيطان
:
لقد ذهبتْ بالفعل ونامتْ.
المُصلح
(يَلتفت مذعورًا)
:
مَن هذا؟!
الشيطان
:
هذا أنا!
المُصلح
:
مَن أنت؟
الشيطان
:
أنا الذي تقرأ عنه الآن في كتابك! … وكنتَ تُسائل نَفْسك
بشأنه منذ قليل!
المُصلح
:
الشيطان؟!
الشيطان
:
خادِمك!
المُصلح
:
إنِّي … إنِّي …
الشيطان
:
لا داعي لإضاعة الوقت في الفزع التقليدي! … لقد جئتُ لأقوم
بخدمة.
المُصلح
:
إنِّي ما فزعتُ، ولكني فُوجئتُ.
الشيطان
:
والآن … هل انتهى الوقت المخصَّص للمفاجأة؟! … هل ندخُل في
الجِدِّ؟
المُصلح
:
تفضَّل!
الشيطان
:
عرفتَ بالطبع حكايتي مع الفيلسوف «فاوست»، كما رُويتْ في
الكتاب الذي بين يدك … إنها حكايةُ تعاقُدٍ تمَّ بيننا … وقد
وفَّيتُ أنا بجميع تعهُّداتي بالتمام والكمال، وأعطيتُه الشباب
… أمَّا هو فلَمْ يقُمْ بتعهُّده، ولم يُعطني الثَّمن حتى
الساعة!
المُصلح
:
الثَّمن؟!
الشيطان
:
نعم … الثَّمن … وهو نَفْسه، ألَمْ يتعهَّد صراحةً ويوقِّع
على تعهُّده بأنْ يمنَحَني هذه النَّفْس؟ … حصَلَ أو لم يحصل؟
… ولكنْ جاءتْ ساعةُ قَبْض الثَّمن، فإذا بهذه النَّفْس قد
تبخَّرتْ أو تغيَّرتْ … لستُ أدري ما الذي حدَثَ لها؟ … فإذا
هي تصعد أو ترقى إلى أعلى … ولا يستطيع اللَّحاق بها … أرأيتَ
غِش صديقك؟
المُصلح
:
صديقي؟!
الشيطان
:
المهمُّ، أنت الآن أمام شخصٍ أمينٍ في المعاملة؛ يَفِي
بوعده، ويحترم توقيعه.
المُصلح
:
وما دَخْلي؟
الشيطان
:
تستطيع أن تطمئنَّ إلى أيِّ تعاقُدٍ يقوم بيننا.
المُصلح
:
بيني وبينك؟!
الشيطان
:
ولمَ لا؟ … ألَمْ تفكِّر في ذلك منذ قليل؟
المُصلح
:
بلى … على سبيل الخيال أو المداعبة … ولكن عندما يتَّخذ
الأمر صفةَ الجِدِّ …
الشيطان
:
هذا أدعَى إلى الإقدام!
المُصلح
:
أضَعُ يدي في يدك؟! … إنِّي لستُ فيلسوفًا يبحث في مصيره
الخاص … إنِّي مُصلحٌ … يريد النهوض بمصاير الآخرين … فكيف
أضَعُ مصاير الناس في يد الشيطان؟! … أليس هذا مُناقِضًا
لرسالتي كلَّ التناقض؟!
الشيطان
:
إنَّك تتلاعب بالألفاظ!
المُصلح
:
إنِّي أقرِّر حقيقةً.
الشيطان
:
الحقيقة الوحيدة هي أنِّي الآن على أتمِّ استعدادٍ لمعاونتك
في إصلاح الناس … هل تَقبَل أو لا تقبل؟
المُصلح
:
إصلاح الناس؟!
الشيطان
:
في طرْفةِ عين!
المُصلح
:
أنت تفعل هذا؟!
الشيطان
:
جرِّبني!
المُصلح
:
ما هو الثَّمن؟!
الشيطان
:
بسيطٌ جدًّا … لن أطلُب إليك أن تمنحني نَفْسك … اطمئن! …
مسألة النفوس هذه، لم تعُدْ صفقةً مضمونة! … لا … لا شأن لي
الآن بنفوسكم! … إنِّي لا أفهمها كثيرًا … ومن الخطأ التعامل
بسلعةٍ غامضة وبضاعةٍ غير مفهومة! … كثيرًا ما كانت موضعَ غِش
وخديعة! … لا يا سيدي! … أنا اليوم غيري بالأمس … كنتُ فيما
مضى شابًّا نزِقًا يحلو له أن يتحدَّى الخير، وأن يُغري الناس
بالإثم والشر … أمَّا اليوم فأنا شخصٌ آخر! …
المُصلح
:
شخصٌ آخر؟!
الشيطان
:
نعم … أنا اليوم، كما ترى، كهلٌ متَّزِن … ولقد تغيَّر ذوقي
تبعًا لذلك … فصِرتُ أميل إلى مصاحبة العلماء والمُصلِحين …
وصارت هوايتي المعاونة في الخير والإصلاح … ودليلي هو أنِّي
هرعت إليك عندما سمعتُك تطلُب حياةً أفضل لقومك لا لنَفْسك …
ولو أنَّك طلبتَ حياةً أفضل لذاتك وحدها كما فعَلَ «فاوست» —
فيما مضى — لمَا أغراني ذلك بالمجيء الليلة إليك! … فأنا لا
أحبُّ أن أكرِّر نَفْسي في تجربةٍ قديمة! … إنَّ العصور
القديمة قد ذهبتْ! … أنا الآن في عصرٍ جديد يُغريني بتجربةٍ
جديدة: خدمة المجموع لا خدمة فرد!
المُصلح
:
تستطيع حقًّا أن تعاونني في خدمة المجموع؟
الشيطان
:
قلتُ لك: في طرْفةِ عين!
المُصلح
:
نعم ولكن … الثَّمن؟
الشيطان
:
بسيطٌ جدًّا كما قلتُ لك!
المُصلح
:
ما هو؟ … تكلَّم!
الشيطان
:
أن تكون رَجلًا صادقًا.
المُصلح
:
وبعد!
الشيطان
:
لا شيء غير ذلك.
المُصلح
:
والثَّمن؟
الشيطان
:
هذا هو كلُّ الثَّمن: أن تكون رجلًا صادقًا!
المُصلح
:
أتعطيني دروسًا في الأخلاق؟! … إنِّي دائمًا كنتُ
صادقًا!
الشيطان
:
اتفقنا إذن!
المُصلح
:
أهذا هو كلُّ ما تطلُبه منِّي؟!
الشيطان
:
لا أطلُب أكثرَ من ذلك!
المُصلح
:
هذا عجيب!
الشيطان
:
ألَمْ أقُلْ لك إنِّي صِرتُ شخصًا آخر؟! … ماذا كنتَ تنتظر
منِّي أن أطلُب إليك؟ … أليس من الواجب أن يكون طَلَبي
متَّفقًا مع مبادئي الجديدة؟
المُصلح
:
تريد إذن أن تبدأ بإصلاحي؟!
الشيطان
:
عفوًا! … لستُ أقصد ذلك.
المُصلح
:
على كل حال ثِق أنِّي رَجلٌ صادق.
الشيطان
:
وهذا اعتقادي … ولكني تقدَّمتُ بطَلَبي ليطمئنَّ
قلبي!
المُصلح
:
لا خِلاف بيننا إذن … عليك أن تقوم بالمعاونة في
الإصلاح.
الشيطان
:
وعليك أن تقول للناس الصِّدق.
المُصلح
(في قلق)
:
ماذا تعني؟
الشيطان
:
أظنُّ أنَّ المعنى واضح!
المُصلح
:
تعني أنَّ عليَّ أن أقول للناس إنَّك …
الشيطان
:
بالضبط! … إنِّي عاونتُك في الإصلاح.
المُصلح
:
تريد أن أقول للناس إنَّ الشيطان قد عاونني في
إصلاحهم!
الشيطان
:
هذا هو الواجب!
المُصلح
(صائحًا)
:
أهذا معقول؟!
الشيطان
:
ولمَ لا؟ … أليس هذا هو الصِّدق؟!
المُصلح
:
الصِّدق؟ … نعم! … ولكن …
الشيطان
:
ولكن ماذا؟ … ليست لك الشجاعة أن تكون أمام الناس رَجلًا
صادقًا!
المُصلح
:
إنَّك لا تتصوَّر وقْعَ هذا القول عليهم!
الشيطان
:
وماذا كنتَ تريد إذن أن تقول لهم؟ … هبْ أنَّ أحدهم سألك:
كيف استطعتَ هذا الإصلاح بهذه السرعة؟! … ماذا يكون
جوابك؟
المُصلح
:
بمعونة الشيطان؟ … كلَّا … هذا مستحيل! … لن أستطيع أن
أُصارِح الناس بأنَّ الفضل في إصلاحهم راجعٌ إلى معونة
الشيطان!
الشيطان
:
ستمتنع إذن عن قول الصِّدق؟!
المُصلح
:
نعم! … سأمتنع!
الشيطان
:
وماذا تسمِّي موقفك هذا في نَظَر أخلاقك؟!
المُصلح
:
لستُ أدري!
الشيطان
:
كنتَ إذن ستخدعني … أنت أيضًا!
المُصلح
:
الثَّمن باهظ … لا يمكن الوفاء بمثل هذا الثَّمن!
الشيطان
:
حتى كلمة الصِّدق لا أستطيع أن أتقاضاها منكم!
المُصلح
:
ضعْ نَفْسك في موقفي!
الشيطان
:
ليس لي هذا الشرف … إنِّي مخلوقٌ قد اعتاد من قديمِ الزمان
أن يكون صريحًا مع نَفْسه، وأن يسمِّي الأشياء بأسمائها …
الشرُّ اسمه الشر … والجُبن اسمه الجبن … والكذب اسمه الكذب،
والنذالة اسمها النذالة!
المُصلح
:
إنِّي آسف.
الشيطان
:
أخفَقَ الاتفاق إذن؟! … سأعود من حيث جئتُ … ولْيبقَ قومُك
في بؤسهم، وفقرهم، وشقائهم! … وإذا استيقظ في الغَدِ ضميرُك؛
فتشجَّعْ وصارحْهُ هذه المرة بالحقيقة … واذكرْ له اسم المسئول
عن هذا الفشل.
المُصلح
:
تريد أن تحمِّلني أنا المسئولية؟!
الشيطان
:
شيءٌ عجيب! … أوَتريد منِّي أن أتحمَّلها أنا أيضًا؟!
المُصلح
:
لا أريد منك ذلك … ولكن ثِق أنَّ ضميري سيستيقظ في الغَدِ
مُستريحًا!
الشيطان
:
بالطبع! … أعرف ذلك جيدًا … هذه أشياءُ تحدُث لي كلَّ يوم …
ما دمتُ أنا موجودًا في هذه الدنيا؛ فإن أكثركم يعيش مُستريحَ
الضمير بعد أن يُلقي بأوزاره وتَبِعاته على شخصي
الحقير!
المُصلح
:
أجئتَ الليلة لإهانتي؟!
الشيطان
:
عفوًا! … إنِّي ما جئتُ إلا لمعاونتك!
المُصلح
:
إنَّك لم تعاونِّي … ولكنك كشفتَ عن طواياك!
الشيطان
:
بل كشفتُ عن حقيقتك!
المُصلح
:
حقيقتي؟!
الشيطان
:
إنَّك لا تحبُّ الناس بقَدْر حبِّك لنَفْسك … إنَّك لستَ
حريصًا على إصلاح قومك، بقَدْر حرصِك على سلامةِ موقفك!
المُصلح
(صائحًا)
:
اخرجْ من هنا!
الشيطان
(باسمًا)
:
غاظَكَ ظُهورُ الحقيقة؟
المُصلح
:
اذهبْ عنِّي أيها اللعين!
الشيطان
(مُنصرِفًا بابتسامة)
:
سأذهب … وأرجو لضميرك نومًا هادئًا!
المُصلح
:
انتَظِرْ!
الشيطان
(يقف)
:
أَمْرك!
المُصلح
:
قبِلتُ الشرط!
الشيطان
:
ستقول للناس الصِّدق؟!
المُصلح
:
نعم!
الشيطان
:
ستصارح قومك بأنَّ الشيطان عاوَنَك في إسعادهم
وإصلاحهم؟!
المُصلح
:
سأصارحهم!
الشيطان
:
سيَرجُمونك بالحِجارة!
المُصلح
:
أعلمُ ذلك.
الشيطان
:
هاتِ يدك! … الآن أنت مُصلحٌ حقيقي!
المُصلح
:
أتمزح؟!
الشيطان
:
بل أقولُ الجِدَّ … المُصلح الحقيقي هو الذي يُقدم وهو
يتوقَّع الرَّجم!
المُصلح
:
قُل لي الآن كيف ستُصلح قومي؟!
الشيطان
:
سترى بعينَيك!
المُصلح
:
متى؟
الشيطان
:
في طرْفةِ عين! … هكذا وعَدتُ.
المُصلح
:
نفِّذْ وعْدَك!
الشيطان
:
أغمِضْ عينَيك ثم افتحْهما!
(المُصلح يُغمِض عينَيه … وعندئذٍ تبرُق الدنيا
ببَرْقٍ خاطِف.)
المُصلح
(يفتح عينَيه)
:
لقد فعلتُ!
الشيطان
:
وأنا قد نفَّذتُ!
المُصلح
:
أين هذا؟!
الشيطان
:
قمْ وانظرْ من هذه النافذة!
المُصلح
(ينهض وينظر من النافذة، ويصيح
دَهْشةً)
:
إلهي! … أين القرية؟ … أين الأكواخ؟ … أين القرية القذِرة؟ …
أين الأكواخ الحقيرة؟! … ما كلُّ هذه المباني الجميلة؟ … ما كل
هذه البساتين العامة؟ … ما كل هذه «الفِيلَّات» التي تُحيط بها
الحدائق الصغيرة؟! … يا لَلمعجزة! … أقَومي يعيشون في هذه
الجنة؟!
الشيطان
:
طبعًا!
المُصلح
(في فرَحٍ شديد)
:
يا لَلسعادة! … إنَّهم ولا شك جميعًا سُعداء!
الشيطان
:
بدون شك … أتريد أن ترى أحدهم؟
المُصلح
:
نعم! … أرجوك!
الشيطان
:
سأُحضر لك مَن كان أفْقَرَهم وأحقرهم شأنًا!
المُصلح
:
رأيتُ هذا الصباح تحت شجرة السَّنط المواشي، ومعها الأجير
الذي يسرِّحها، أقْذَر منها وأحْقَر، بثوبه الوحيد الخَلق الذى
لا يستُر جسمه العاري، وخلْفَه امرأته في مثل فَقْره تجمع
بيدَيها الرَّوَث؛ لتعجن منه وقودًا!
الشيطان
:
سأُحضرهما لك … لحظةً واحدة.
(يصفق الشيطان بكفَّيه … فينفتح الباب ويظهر
منه فلَّاحٌ في ثيابٍ عصرية، وخلْفَه فلَّاحةٌ في زيٍّ نسائيٍّ
مُتحضِّر.)
المُصلح
(مُحملِقًا فيهما بدهشة)
:
نعم! … هما بعينهما، ولكن …!
الشيطان
:
في مقدورك أن تُحادِثهما كما تشاء!
المُصلح
(للفلَّاح)
:
تفضَّلْ، اجلسْ يا سيدي الفاضل! … الاسم الكريم؟
الفلَّاح
:
محسوبك «محروس الجرف».
المُصلح
(للفلَّاحة)
:
والسِّت؟
الفلَّاحة
(بحياءٍ)
:
اسمي «خضرة»!
المُصلح
:
ألَا تذكُرانني؟ … لقد رأيتُكما هذا الصباح، تحت شجرة
السَّنط قُرب …
الشيطان
(همسًا)
:
إنهما لا يذكُران هذا الصباح إلا كما تذكُر أنت طفولتك عند
ولادتك، دَعك من ماضيهما … حادثْهما في الحاضر!
المُصلح
(للفلَّاح)
:
قلْ لي يا … سيد «محروس» … ماذا تعمل الآن؟
محروس
:
أعدُّ أرضي للزراعة الشتوية.
المُصلح
:
أرضك؟!
محروس
:
نعم … أقصد العشرين فدَّانًا؟!
المُصلح
:
أتملك عشرين فدَّانًا؟!
محروس
:
وهل هذا كثير؟! … أفقر فلَّاحٍ في الناحية يملك عشرين
فدَّانًا مع منزله الصغير وحديقته!
المُصلح
:
منزله وحديقته؟!
محروس
:
نعم؛ منزله الذي يسمِّيه «الفِيلَّا».
المُصلح
:
«فِيلَّا»؟! … (للفلَّاحة) أتسكنين «فِيلَّا» يا … سِت
«خضرة»؟!
خضرة
:
طبعًا … وأين أسكُن؟!
المُصلح
(مبهورًا)
:
ما شاء الله! … ما شاء الله!
محروس
:
سيادتك غريبٌ على البلد فيما يظهر!
المُصلح
:
غريبٌ جدًّا.
محروس
:
نعم … لا أذكُر أنِّي رأيتُك قبل الآن.
المُصلح
:
أما أنا فقَدْ سبَقَ … قُل لي يا سيد «محروس» … هل عندك
أجيرٌ يسرِّح لك المواشي؟!
محروس
:
المواشي؟! … ليس عندنا غير جاموسةٍ واحدة لحَلْب اللبن،
نضعها في زريبةٍ صغيرة بالحديقة بجوار مكان الدواجن، وتُشرف
عليها زوجتي!
المُصلح
:
وأعمال الغيط؟!
محروس
:
لا نستخدم المواشي في أعمال الغَيط … لدينا المحاريث
والجرَّارات و«الماكينات» البُخارية!
المُصلح
:
أتملك أنت كلَّ ذلك؟
محروس
:
بل تملكها الجمعيَّات التعاونية، وتقوم هي بخدمة جميع
المُلَّاك أمثالنا … في نظير الاشتراك السنوي طبعًا!
المُصلح
(مبهورًا)
:
شيءٌ جميل! … جميل! … جميل جدًّا! … أنتم على ذلك في غاية
الرخاء؟
محروس
:
نَحمَدُه! … ولكن …
المُصلح
:
ولكن ماذا؟
محروس
:
لي جارٌ مُلاصِق يملك أربعين فدَّانًا … أردتُ أن أشتري منه
خمسة فدادين فرفَضَ الملعون!
المُصلح
:
وهل أنت الآن محتاج؟!
محروس
:
وهل هو محتاج؟! … إنَّ له على الأقلِّ أولادًا أكثر منِّي،
يعملون كلُّهم بأُجورٍ مُجزِية في مصانع القرية.
المُصلح
:
وهل في القرية مصانع؟!
محروس
:
طبعًا … مصانع زراعية للجُبن واللَّبن المحفوظ والخُضَر
والفاكهة المعبَّأة!
المُصلح
:
لاستهلاككم المَحلي!
محروس
:
لنا ولغيرنا.
المُصلح
:
ما شاء الله! … شيءٌ جميل! … ما من شكٍّ في أنَّكم في رخاءٍ
وسعادة … والآن قُل لي يا سيد «محروس» … ماذا تعمل في وقتِ
فراغك؟ … لا بد أنَّ لك وقتَ فراغٍ بالطبع، وأنتم في هذا
المستوى من المعيشة!
محروس
:
وقت فراغي؟!
خضرة
:
أنا أقول لك بالحقِّ يا سيدي … تريد أن تعرف كيف يُمضي ليله
مع إخوانه: الشاي والحشيش!
محروس
(لزوجته مُنتهِرًا)
:
اخرَسي!
المُصلح
(مصدومًا)
:
الحشيش؟!
محروس
:
لا تصدِّقْها … إنها حُرْمةٌ مُغتاظَةٌ موتورة؛ لأني أريد أن
أتزوَّج عليها أخرى!
المُصلح
:
تتزوج عليها أخرى!
خضرة
:
نعم يا سيدي … إنه لا همَّ له الآن سوى البحث عن زوجةٍ
جديدة!
المُصلح
:
ولماذا ذلك؟!
خضرة
:
قُل له يا سيدي! … لماذا يفعل ذلك، وأنا أخدمه، وأرعاه،
وأسهر على راحته، ومنذ زمنٍ طويل!
محروس
:
أليس لي الحقُّ أن أمتِّع نَفْسي؟!
المُصلح
:
تمتِّعُ نَفْسك بمثل هذا العمل؟!
محروس
:
حالتي طيِّبة، وفلوسي في جيبي، والأشيا معدن! … لماذا أحرم
نَفْسي؟!
المُصلح
:
ألَا تعرف طُرقًا أخرى تمتِّع نَفْسك غير الحشيش
والنِّسوان؟!
خضرة
:
قُل له يا سيدي! … قُل له!
محروس
:
اسكُتي أنتِ يا امرأة!
المُصلح
:
لماذا لا تمتع نَفْسك بقراءة كتابٍ جيد؟ … أو بمحادثةِ زوجتك
في موضوعٍ ظريف؟ … أو الإصغاء إلى إذاعةٍ لطيفة في
«الراديو»؟
محروس
:
«الراديو» عندنا في حُجْرة الضيوف يَبيضُ عليه الدَّجاج،
وتلعب فوقه الكتاكيت!
خضرة
:
كذَّاب!
محروس
:
احلِفي أنَّ هذا لم يحصُل!
خضرة
:
وما له؟! … هل نحن وحدنا … غيرُنا يترك الأرانب تلِدُ تحت
الفِراش … وبلاليصَ المشِّ والعسَلِ الأسود خلْفَ
الكَنَبة.
محروس
:
كفاية يا حُرْمة! … لا داعي لكشْفِ سِتْرنا أمام الناس …
عودي إلى داركِ!
خضرة
:
وأنت إلى حشيشك وشايك!
محروس
:
هس! … امشي قدَّامي!
(يُشيران بالتحيَّة ويخرجان.)
الشيطان
:
ما قولك الآن؟ … ها أنا ذا قد وفيتُ بوعدي!
المُصلح
(في وجوم)
:
نعم! … ولكن …
الشيطان
:
ولكنْ ماذا؟
المُصلح
:
أهذه هي كل الحياة الأفضل؟!
الشيطان
:
ألَمْ تتغيرْ حياتُهم؟ … ألَمْ يتحولْ بؤسهم إلى رخاء؟ … ما
الذي يَنقُصهم؟
المُصلح
:
النَّفْس!
الشيطان
:
ماذا تقول؟
المُصلح
:
إنَّك لم تصنع شيئًا جديدًا … إنك جعلتَهم على غِرار الطراز
المعروف لأولئك الأثرياء من مُلَّاك الريف! … لقد دخلتُ فيما
مضى قصرًا لثريٍّ ريفي يملك أكثر من عشرين ألف فدَّان، ورأيتُ
بعينَي رأسي الماعزَ يمشي على السجاجيد الثمينة في الصالون
الذهبي الفاخر! … كما رأيتُ أقطاب هذا البيت لا يفقهون من معنى
الحياة أكثرَ ممَّا يفهم صاحبُك «محروس»! … يرتدون أفخر
الثِّياب، ويذهبون إلى أوروبا بالباخرة والطائرة والكاديلاك،
ويعودون وما فهموا من مُتَع النَّفْس أكثرَ ممَّا يفهم
«محروس»!
الشيطان
:
لستُ أفهم بالضبط ماذا تعني؟
المُصلح
:
أعني أنَّ ثروة المال شيءٌ، وثروة النَّفْس شيءٌ آخر!
الشيطان
:
ثروة النَّفْس؟!
المُصلح
:
نعم! … هذا ما كان ينبغي لك أن تَفهَمه.
الشيطان
:
ما فهمتُه هو أنَّك تريد لقومك حياةً أفضل … وما من أحدٍ
يُنكر أنَّ حياة هذا الفلَّاح الآن أفضل بكثيرٍ من حياته
الأولى، عندما رأيتَه مع المواشي تحت الشجرة!
المُصلح
:
حقًّا! … أفضل من جهة المَلبَس، والمَأكَل،
والمَسكَن!
الشيطان
:
وماذا تريد أكثرَ من ذلك؟!
المُصلح
:
أريد إنسانًا أرقى … أريد إدراكًا أفضل لمعنى الحياة … معنى
الحياة عند الأجير الفقير والمالك الثريِّ شيءٌ واحد: حشيشٌ
ونساء … أليس كذلك؟!
الشيطان
:
وأخيرًا؟!
المُصلح
:
أنت لم تُعطِ قومي إذن الحياة الأفضل … الحياة الأفضل هي
المعنى الأفضل للحياة!
الشيطان
:
هذا ليس في شَرْطنا.
المُصلح
:
شَرْطنا هو أن تُصلح الناس … وإصلاح الناس يشمل إصلاح
النَّفْس قبل كلِّ شيء!
الشيطان
:
النَّفْس! … النَّفْس!
المُصلح
:
هذا هو جوهر الإنسان!
الشيطان
:
ألَمْ أقُلْ لك إنَّك ستُخادعني، كما خادَعَني «فاوست» من
قبلك؟! … إنَّكم دائمًا تخدعونني من هذه الناحية … النَّفْس …
لعنة الله على النَّفْس … كلُّ المتاعب لا تأتيني إلَّا من هذه
الكلمة … وَدَاعًا!
المُصلح
:
أتنصرف؟
الشيطان
:
لم يَبقَ لي غير الانصراف … إنَّ ما تطلبه لا أستطيعه أنا …
لا يستطيع هذا النوع من الإصلاح الذي تتحدث عنه غيرُ شخصٍ
واحد.
المُصلح
:
مَن هو؟
الشيطان
:
أنت!
(ينصرف الشيطان … ويبقى المُصلح مُكبًّا على
كتابه … فتدخُل عليه زوجته، وتُوقظه برِفْق.)
الزوجة
:
قُم الآن، ونَمْ في فِراشك!
المُصلح
(يهبُّ مُتلفِّتًا)
:
هل انصرف؟!
الزوجة
:
مَن هو؟!
المُصلح
:
ها أنتِ ذي يا عزيزتي! … أكنتُ نائمًا؟!
الزوجة
:
نومًا عميقًا فوق كتابك.
المُصلح
:
نعم … نعم … يا لَلعجَب!
الزوجة
(تتأمَّله في قَلَق)
:
ماذا بك؟!
المُصلح
(كالمُخاطِب نفْسَه)
:
تصوَّري أنَّ إصلاح الناس يعجز عنه مَن يملك أخطرَ قوةٍ على
الأرض!
الزوجة
:
عمَّن تتكلم؟
المُصلح
:
كيف أستطيع أنا ما لم يستطعْه هو؟!
الزوجة
(بقَلَق)
:
مَن هو؟
المُصلح
(متابِعًا تفكيره)
:
لأنه قد أُعطي القدرة على كل شيء، وكُتب عليه العجز عن شيءٍ
واحد؛ صُنْع نفْسٍ أفضل!
الزوجة
:
نَفْس أفضل؟!
المُصلح
:
هنا عَمَلي!