الدولة العيلامية
أو الدولة الفارسية الأولى
في العصور الواغلة في القِدَم كانت أمة من الفرس تُعرَف ﺑ «الأمة العيلامية» أو
«العيلاميين» تسكن في الإقليم المعروف الآن ﺑ «خوزستان» المسمى قديمًا ﺑ «بلاد عيلام»،
١ وكان لها يوم ذاك منزلة رفيعة بين أمم الشرق، وقد سماهم العرب ﺑ «بني غليم»،
وكانت مملكتهم محاطةً ببلاد الكلدان وبلاد مادي «ميدية» وبلاد فارس، وتحتوي على عدة مدن
أشهرها مدينة «شوشن» أو شوشان القديمة
٢ عاصمة تلك المملكة، إلا أنها كانت أحيانًا تتوسع، وأخرى تتقلص، وآونة تخضع
لسيادة جارتها مملكة «أور» التي في جنوبي العراق.
ولمجاورتها لجنوب العراق كانت لها عدة روابط مع هذا القطر، ولكنها لم تكن لتطمع في
جارتها القوية، حتى إذا ما ضعفت مملكة «أور» الشهيرة في التاريخ، وآنَسَ العيلاميون في
أنفسهم قوةً، طمعوا بأرضها الخصبة الكثيرة الخيرات، فحملوا عليها في القرن الثالث
والعشرين قبل الميلاد، وبعد حروب جرت بين الأمتين استولى العيلاميون على مملكة «أور»،
ودخلوا عاصمتها «أور»، وأسروا ملكها أبي سين «إيبي سبين» بن جمبل سبين آخِر ملوك السلالة
الثالثة
٣ لملوك «أور»، وساقوه أسيرًا إلى عاصمتهم «شوشن»، واستولوا على جميع مدن تلك
المملكة وقرضوها بعد أن كانت مستقلة في جنوبي العراق أو صقع شمر «سومير»، ولها سطوة
كبيرة وسيادة مبسوطة، وكان لعاصمتها مدينة «أور» حينذاك منزلة رفيعة عند العراقيين؛
لعِظَم مركزها الديني، بل إنها كانت معهدًا للدين ومهدًا للتجارة ومركزًا للصنايع
والفنون، وفيها هيكل «أنون ماخ» المرصود للإله القمر ورفيقته، الذي خرب في هذه
الحادثة.
استولى العيلاميون على جنوبي العراق أو على مملكة «أور الكلدانيين» بعد حروب دامت
بينهم
وبين الكلدانيين في الوقت الذي كان فيه العراق منقسمًا إلى قسمين: القسم الجنوبي
المسمَّى ﺑ «مملكة أور» أو ﺑ «بلاد الكلدان» أو «كلدو»، والقسم الشمالي المعروف ﺑ «مملكة
بابل» أو ﺑ «بلاد بابل»، وكان كل قسم مستقل بنفسه، غير أن الجنوبي كان قد فاق الشمالي
بالمدنية والعمران، واشتهر بالتجارة والزراعة والفنون.
وبعد أن تمَّ أمر تلك الأمة الفارسية في الجنوب حاولت الاستيلاء على الشمال، ولكنها
عادت بالفشل بعد أن تمكَّنت بهجماتها من دخول مدينة أوروق «الوركاء»، التي هي من البلاد
الشمالية أو من مملكة «بابل» الراضخة لحكم السلالة السامية أو الدولة البابلية الأولى
التي أسَّسها ساموابي سنة ٢٤١٦ق.م — ويُروَى سنة ٢٤٦٠ — ونهبت كنوزها وآثارها، من جملتها
تمثال الإلهة «نانا» شفيعة مدينة «أوروق»، وأرسلت الجميع إلى «شوشن»، وأودعت هذا التمثال
في هيكلها.
بقي جنوبي العراق في قبضة تلك الأمة الفارسية حتى قام سادس ملوك الدولة البابلية
الأولى
أو الدولة السامية الملك الجليل حمورابي (٢٢٨٧–٢٢٣٢ق.م)، فحمل عليهم بجنوده وطردهم من
هذا القطر، ولم يكتفِ بذلك بل إنه طاردهم حتى دخل عاصمتهم «شوشن»، ولم يَعُدْ إلى مقره
إلا بعد أن أخضع تلك الأمة لسيادته، وأرجع تمثال الإلهة «نانا» إلى هيكل مدينة «أوروق».
٤
هذا ما وقفنا عليه من بين الأبحاث التاريخية الحديثة المستندة إلى الآثار المستخرَجَة
من مواقع المدن العراقية القديمة، غير أن المؤرخين قد اختلفوا في السنة التي استولى
العيلاميون فيها على مملكة «أور»؛ فمِن قائل إنهم قرضوا السلالة الثالثة التي نشأت حوالي
الألف الثالث قبل الميلاد التي أسَّسها الملك أورانكور، وأسروا آخِر ملك من تلك السلالة
الملك أبي سين سنة ٢١٥٠ق.م، ومن قائل إن هذه الحادثة وقعت سنة ٢٣٠٠ق.م، ويزعم بعضهم
أنهم قرضوا تلك المملكة سنة ٢٢٨٥ق.م، ويقول آخَرون: كانت هذه الغارة سنة
٢٢٩٥ق.م.
كذلك اختلفوا في اسم الملك العيلامي الذي قاد تلك الحملة؛ فبعضهم يقول إنه الملك
كوتارناحونتا،
٥ ويزعم بعضهم أنه الملك ريمسين.
أما الذي يظهر من سير الحوادث التاريخية، فهو أرجحية قول القائل بأنهم قرضوا تلك
المملكة «مملكة أور» سنة ٢٢٩٥ق.م، وأن من جملة الملوك العيلاميين الذين حكموا ذلك
الصقع كوتارنا حونتا وريمسين ونبورياس.
ولم تحكم الدولة العيلامية جنوبي العراق غير مدة وجيزة، فطردهم الملك حمورابي عندما
قويت شوكته وملكَ العراقَ كلَّه، ولم يقف عند ذلك الحد، بل إنه أخضعهم لسيادته — كما
تقدَّمَ — وليست هذه المرة الأولى التي خضع فيها العيلاميون لملوك العراق، بل إنهم خضعوا
مرارًا لسيادة ملوك هذا القطر في أزمان مختلفة؛ من ذلك أن الملك سرجون الأكدي السامي
الذي ملك سنة ٢٨٧٢ق.م، كان قد أدخلهم تحت سيادته، وأن الملك أناتوم الذي ملك سنة ٣٩٠٠ق.م
٦ حارَبَهم وأخضعهم لحكمه.
٧
(١) بين العهدين
بعد أن اعتزَّ العراق دهرًا طويلًا في عهد الدولة البابلية الأولى التي جمعت شمله
ووحَّدَتْ كلمته وأعلت شأنه، انعكس الأمر عند سقوط تلك الدولة واضطربت شئون العراق
وأصبحت البلاد منقسمة على نفسها؛ أي صارت عدة ممالك أو دول صغيرة عديدة كلُّ دولة
قائمة بنفسها، وكثيرًا ما كانت البلاد تنتقل من سلالة إلى أخرى ومن بيت إلى آخَر،
ثم اشتدَّ الخلاف بين أهل البلاد وطمع بهم أعداؤهم، فعاد العيلاميون إلى طمعهم في
جارتهم وأعلنوا الحرب عدة مرات على أهل هذا القطر، وشنُّوا الغارة على المدن
العراقية في أزمان مختلفة، ونهبوا بعض المدن وفتكوا بأهلها، ومن تلك المدن «نبور»
و«أوروق»، ومن ملوكهم الذين أغاروا على العراق الملك شتروك ناخونتا، فإنه شنَّ
الغارة على هذا القطر سنة ١١٩٠ق.م، وغنم غنائم نفيسة من البلاد، من جملتها شريعة
حمورابي؛ فإنه نقلها إلى عاصمته «شوشن»، وكثيرًا ما كان العيلاميون يتفقون مع بعض
تلك الدول الصغيرة ويعضدون ملوكها، خصوصًا الممالك التي في جنوب العراق القريبة
منهم، وكانوا في بعض الأحيان يتدخلون في الأمور المهمة المتعلقة بالملوك، ويُجلِسون
على عروش الممالك مَن يوافِق على مصالحهم ومنافعهم، أو مَن يعقد معهم اتفاقية
يرضونها.
ولما استحكَمَ الشقاق بين أهل البلاد واختلفَتْ كلمتهم، حمَلَ عليهم الآشوريون
٨ وأخضعوهم لسيادتهم، وظلوا تحت سيطرتهم قرونًا جرت في خلالها حوادث
خطيرة وانقلابات غريبة، حتى قامت الدولة البابلية الثانية التي أسَّسَها نيو بلاصر
ودامت (٦١١–٥٣٨ق.م)، فلمَّتْ شعث البلاد، وعاد العز والإقبال إلى هذا القطر وعلا
شأنه في عهد الملك نبوكد نصر — بختنصر الثاني — غير أن شمس ذلك العز أفلت بظهور
كورش الفارسي الذي قرض تلك الدولة بعد أن عاشت ٧٣ سنة تقريبًا.