الدولة الكيانية
أو الدولة الفارسية الثانية للعراق (٥٣٨–٣٣١ق.م)
في أواسط القرن السادس قبل الميلاد (سنة ٥٥٢ أو سنة ٥٥٠)، ظهر أرمركورش الثاني الملقَّب
بكورش الأكبر ابن قنبوسيا، فنهض بقومه الفرس وأخضع الميديين
١ والعيلاميين بعد أن دانت له فارس، فتُوِّجَ ملكًا وأصبح إمبراطورًا على هذه
الأقاليم الثلاثة: «فارس» و«ميدية» و«عيلام»، وأسَّسَ دولة الكيانين المشهورة، وعلى أثر
ذلك تحالفت مملكة «بابل» و«مصر» و«لديا»
٢ على هذا الفاتح، فلم يغنِ تلك الممالك ذلك التحالفُ الثلاثي؛ لأن كورش حمل
بجيوشه الفارسية على الليديين أولًا وقرض دولتهم سنة ٥٤٦ق.م، وتوغَّلَ في آسيا الصغرى
وضمَّ إلى مملكته بلاد مستعمرة الإغريق التي كانت على شواطئ آسيا الصغرى، ثم فتح «بخارى»
و«مرو» و«ديار الأفغان» و«بلوبحستاك»، ثم حوَّل نظره إلى مملكة «بابل» فحمل عليها سنة
٥٣٨ق.م بجيش جرار، فخرج للدفاع بلطشاصر ابن الملك البابلي بنو ناهيد، وبعد عدة معارك
انكسرت في جميعها الجنود البابلية.
وقع بلطشاصر قتيلًا في المعركة الأخيرة، وانهزمت
جيوشه وتحصَّنَتْ في عاصمة الملك مدينة بابل، فألقى الحصار عليها كورش بعد أن استولى
في
طريقه على عدة مدن، وبعد حصار طويل دافَعَ في خلاله البابليون دفاع الأبطال، استولى كورش
على «بابل» عنوةً، وأسر الملك نبوناهيد وأهله وساقهم إلى «كرمان».
٣
وعلى إثر سقوط مدينة «بابل» عاصمة «العراق»، سلمت جميع المدن العراقية لكورش في السنة
نفسها (سنة ٥٣٨ق.م)، وانقرضت الدولة البابلية الثانية أو المملكة الكلدانية على يد هذا
الفاتح، بعد أن دامت ٧٣ سنة كما تقدَّمَ.
(١) كورش والبابليون
دخل كورش مدينة «بابل» — كما يقول المؤرخون — دخول منقذ مُصلِح، فلاقاه أهلها
بالتهليل والتصفيق — شأنهم مع كل فاتح — واستقبلوه بالترحيب والسرور، وتلك عادتهم
مع كل قوي؛ فأظهر لهم الولاء والرقة والرأفة، وجامَلَهم وعطف عليهم ووالاهم
وسايرهم، وبالَغَ في احترام دياناتهم وعاداتهم وأميالهم، وأطلق لهم الحرية التامة
في العلم والعمل والدين، وأبقى قوانين البلاد وشرائعها على حالها، واقتدى بملوكهم
الأولين؛ فدخل هيكل الإله «بيل» ومسك بيده وقرَّبَ للآلهة القرابين، وقدَّمَ لهم التحف.
٤
واتخذ لقب ملك بابل لنفسه، وعمل كلَّ ما من شأنه أن يجذب إليه قلوب البابليين، ولم
يخرِّب شيئًا من بلادهم؛ لذلك لم يسقط من مدن العراق شيء، وبقيت مدنه جميعها زاهرة
عامرة، من جملتها مدينة «أور» فإنها كانت في عهده عامرة زاهرة، ولكنها كانت حينذاك
من أصغر المدن العراقية، ومع ذلك فإن كورش سعى لتجديد بعض هياكلها، وقام بعمل في
سبيل خدمة هيكل الإله القمر — إله أور — وقد وجد النقابون أخيرًا في أطلال هذه
المدينة سنة ١٩٢٣م آجرة كُتِب عليها اسم هذا الفاتح، استدلوا منها على أنه عمَّرَ
وجدَّدَ هذا الهيكل، ويقول بعض المؤرخين إنه جدَّدَ عدة هياكل كانت في مدن العراق،
وأرجع كلًّا إلى موضعه من تماثيل الآلهة التي كان قد جمعها في مدينة «بابل» الملك
نبونا هيد من المدن العراقية أثناء الحرب لتَنْصُرَه على كورش.
ولم يشتهر كورش بسياسته الرشيدة ومراعاته عواطف الشعوب واحترامه لدياناتهم
وعاداتهم وأميالهم فحسب، بل إنه اشتهر بتنشيط التجارة وتوسيع الزراعة، كما اشتهر
بالفتوحات والانتصارات؛ لذلك تمتَّعَ العراقيون في عهده بالحرية التامة، وكثرت ثروة
بلادهم، واتسع نطاق الزراعة في أرضهم، بما حفره هذا الملك من الترع والأنهار، وما
بثَّه من العدل والأمن في أنحاء البلاد؛ ومن أجل ذلك أحبُّوه كثيرًا حتى إن أكثرهم
تجنَّدوا وقاتلوا في الحروب تحت رايته، مع إن سكان البلاد كانوا حينذاك قد قَلَّ
عددهم على ما يقوله بعض المؤرخين.
وبعد أن تمَّ أمر كورش في العراق أناب عنه نائبًا فيها أحد قوَّاده، وضرب عليها
خراجًا معلومًا — ضريبة سنوية — وسار بجيوشه قاصدًا فتح سورية، فافتتحها ثم افتتح
فلسطين سنة ٥٣٦ق.م، وعلى إثر فتحه فلسطين أصدر أمرًا بإطلاق حرية اليهود
المأسورين في «بابل» من عهد الملك بختنصر، وأذن لهم بالرجوع إلى وطنهم «أورشليم»
وفي بناء الهيكل، بعد أن داموا بالأسر أعوامًا ذاقوا فيها أنواع المصائب وضروب
النوائب، وولَّى على فلسطين زربابل أحد أحفاد يهوياكيم، ولقَّبَه بلقب «بها»؛ أي
الحاكم بالفارسية، فسار من العراق نحو الستين ألفًا منهم إلى وطنهم، واختارت جماعة
كبيرة منهم السكنى في العراق.
ومات كورش
٥ ذلك الفاتح العظيم والسياسي الكبير ٥٢٩ق.م، بعد أن أسَّس الدولة
الكيانية الفارسية العظيمة، وأعلى شأن الفرس وترك لأعقابه مملكةً تضمُّ بلادًا
كثيرة وإمارات جسيمة، وتمتد من شواطئ البسفور غربًا إلى نهر السند شرقًا، وكان سبب
موته أنه أراد تدويخ قلب آسيا، فجُرِح في معركة في محل قريب من أحد ضفَّتَيْ
سرداريا — نهر سيحون الذي يسمِّيه الأقدمون يكسرتس — ومات من أثر ذلك الجرح بعد أن
حكم ٢٩ سنة.
(٢) ثورة البابليين الأولى
تولَّى عرش الدولة الكيانية بعد كورش ابنه الأكبر قمبيز
٦ (٥٢٩–٥٢١ق.م)، وكان سلوكه كسلوك أبيه مع البابليين، ومن أجل ذلك أحبوه
كما أحبوا أباه قبله واحترموه، ولم يحدث في أيامه بالعراق ما يكدر جو السياسة، أو
ما يخلُّ بنظام البلاد وإدارتها.
فلما مات قنبيز حين عودته من مصر قاصدًا بلاد «مادي» التي أجلست على سريرها برديا،
٧ اضطربت شئون الدولة الفارسية وطمع بها أمراؤها، وكثرت فيها الفتن
الداخلية، فاغتنم البابليون فرصة ذلك الانقلاب فثاروا على الفرس الذين في بلادهم
فقتلوهم وأعلنوا الاستقلال، وملَّكوا عليهم أحد أعقاب الملك نبونا هيد المدعو ندين
توبيل — ندين تابل — وأجلسوه على سرير «بابل»، فلقَّبَ هذا الملك نفسه «نيوكد نصر
الثالث»، وأعلن الاستقلال التام واستعَدَّ للدفاع عن بلاده، غير أن ذلك الاستقلال
التام لم يَدُمْ غير سنتين تقريبًا (٥٢١–٥١٩ق.م)؛ لأن الفرس اجتمعت كلمتهم على دارا
الأول (٥٢١–٤٨٥ق.م)، فقمع الفتن الداخلية وردع الأمراء الطامعين بالملك، واستتب
أمره في البلاد، ثم زحف على بلاد بابل بجيوشه الفارسية.
دارا الأول
حمل دارا على «بابل» فخرج لملاقاته ملكها ندين توبيل بجيوشه العراقية، والتقى
الملكان بالقرب من «دجلة» في أراضي «آشورية»، فانكسر الجيش العراقي واضطر إلى
الانسحاب، فعبر «دجلة» ونزل على ساحل «الفرات»، فلحقه دارا، وهناك حدثت حرب
شديدة انخذل في آخِرها البابليون، وانهزموا إلى عاصمتهم مدينة «بابل»
وتحصَّنُوا فيها، أما دارا فإنه جَدَّ بالمسير بعد ذلك النصر حتى ألقى الحصار
على مدينة «بابل»، فدافع ملكها ومَن معه دفاع المستميت أيامًا حتى عجزوا عن
مقاومة الفرس؛ لكثرة عُدَدهم وعَدَدهم، فسقطت عاصمتهم سنة «٥١٩ق.م» ودخلها
دارا ظافرًا، وقتل ملكها ندين توبيل الملقَّب نبوكد نصر الثالث، الذي لم يملك
غير سنتين تقريبًا قضاهما في إعداد المعدات الحربية دفاعًا عن حقه الصريح،
وحفظًا لاستقلال بلاده.
سقطت «بابل» فسلمت جميع المدن العراقية لدارا، وخضع الحضر والبدو له، وبعد أن
نظم شئون البلاد ولَّى عليها حاكمًا عامًّا أحد قوَّاده المسمَّى زوبيروس —
زبورا — وعاد إلى مقره، ورجعت الأمور كما كانت في عهد كورش، واشتغل العراقيون
بالتجارة والزراعة، وزادت ثروة بلادهم وعاشوا في بحبوحة الأمن والسعادة تحت
راية دارا الأول المشهور بالعدل وحب العمران، والولوع في كل ما يرقي التجارة
وينشط الزراعة ويجلب الخير والسعادة إلى رعاياه.
(٣) ثورة البابليين الثانية
مات دارا الأول فتولَّى عرش الفرس ابنه سرخس الأول (٤٨٥–٤٦٥ق.م)، فخضع لسلطانه
البابليون بادئ بدء، ثم ثاروا عليه سنة ٤٨١ق.م، وقتلوا حاكمهم الفارسي زوبيرس
الذي ولَّاه دارا وأعلنوا الاستقلال — غير أننا لم يصلنا سبب ثورتهم هذه، ولا اسم
الملك الذي أجلسوه على عرش مملكتهم — فجهَّزَ لهم سرخس جيشًا كثيفًا بقيادة
مغابيروس — مكامبيز — بن زوربيروس المقتول، فحمل عليهم هذا القائد، وبعد حروب انتصر
عليهم واستولى على عاصمتهم مدينة «بابل» وفتك بأهلها فتكًا ذريعًا، ونهب هيكل
الآلهة، وأمر بهدمه، وقتل رئيس كهنته، وحمل خزائنه وتماثيله إلى خزائن «سرخس»، وأسر
عددًا كبيرًا من ذوي الوجاهة والثروة والشرف، واستعمل منتهى الشدة والعنف، واضطهد
أهل البلاد فخضعوا للقوة وظلوا خاضعين بعد تلك النكبة للفرس، ولم تَبْدُ منهم أدنى
حركة أو ثورة في عهد هذا الملك،
٨ وعهد خلفائه أردشير الأول (٤٦٥–٤٢٤)،
٩ وسرخس الثاني
١٠ (٤٢٤-٤٢٣)، ودارا الثاني
١١ (٤٢٣–٤٠٥)، وأردشير الثاني الملقَّب منه مون (٤٠٥–٣٥٨) الذي قاتله أخوه
كيخسرو على المُلك بمساعدة اليونان ففشلوا وعادوا إلى بلادهم، وسميت رجعتهم رجعة
الاثني عشر ألفًا،
١٢ وأردشير الثالث (٣٥٨–٣٣٨)،
١٣ ودارا الثالث (٣٣٨–٣٣١ق.م) الذي سمَّاه بعضهم «قودومان»، ولم تحركهم
الاضطرابات الداخلية ولا ضعف الدولة الفارسية، خصوصًا في عهد الملك الأخير دارا
الثالث الذي تبوَّأَ عرش المملكة في وقت كانت فيه الدولة الفارسية ضعيفة جدًّا؛ من
توالي الاضطرابات والفتن فيها.