الدولة الصفوية الثانية
كانت الدولة العثمانية قد وجَّهَت إيالة «العراق» إلى الوزير يوسف باشا في سنة ١٠٢٥ﻫ، وكان هذا الوزير ضعيف الرأي، فحدثت بينه وبين رئيس شرطة «بغداد» بكر أغا فتنةٌ في سنة ١٠٢٨ﻫ في عهد السلطان عثمان الثاني، وكان بكر أغا قد جلب الأهلين إليه وكثرت أتباعه واستولى على جميع شئون الحكومة العراقية، من إدارية وعسكرية، حتى لم يَبْقَ للوزير غير الاسم، وآلَتْ تلك الفتنة إلى الحروب في نفس «بغداد»، فقُتِل يوسف باشا واستولى بكر أغا على الولاية، وكتب إلى السلطان يطلب تثبيته فيها، فوُجِّهت الإيالة إلى غيره، فانتقض على الدولة وأعلن استقلاله في «العراق»، فما كان من السلطان إلا أن أرسل الجيوش إلى قتاله، فلما حُوصِرت «بغداد» وضاق الحال ببكر أغا، استنجد بالشاه عباس الأول الذي تولَّى عرش إيران سنة ٩٩٥ﻫ الموافِقة لسنة ١٥٨٦م، ووعده بالدخول تحت سيادته على أن يكون الحكم له والخطبة والسكة باسم الشاه، فوافَقَ على ذلك الشاه وأنجده.
وفي أثناء ذلك اصطلح بكر أغا مع القائد العثماني حافظ أحمد باشا، ووُجِّهت إليه الإيالة ورُفِع الحصار عن «بغداد»، ورجعت عساكر السلطان، غير أن الجيش الفارسي الذي جاء لنجدة بكر أغا كان قد اقترَبَ من بغداد بعد أن أبرم بكر أغا معاهدة الصلح مع القائد العثماني، فكتب بكر أغا إلى قوَّاد الفرس يطلب منهم الرجوع ويخبرهم بما تمَّ من أمر الصلح، فأَبَوا عليه ذلك وأصروا على دخول بغداد حسب أمر الشاه، وبعد مخابرات حاولت الجيوش الفارسية دخول «بغداد» فمنعها بكر أغا، فحدثت بين الطرفين عدة معارك انتصَرَ في آخِرها بكر أغا، وظل يطارد الفرس حتى أخرجهم من ديار «العراق».
فلما علم الشاه بذلك استشاط غضبًا وزحف بنفسه على «بغداد» في سنة ١٠٣٢ﻫ، وهو يقود جيشًا كبيرًا حتى اقترَبَ منها، وكتب إلى بكر أغا يطلب منه تسليم المدينة، فأبَى بكر أغا عملًا بمعاهدة الصلح التي من شروطها ألَّا يدع الفرس يدخلون «بغداد».
وعندها حمل الشاه على المدينة وحاصَرَها حصارًا شديدًا، وضيَّقَ عليها من كل الجهات، ودام الحصار ثلاثة أشهر، كان فيها بكر أغا مدافِعًا دفاع الأبطال حتى ضاق به الحال وخارت قوى عساكره، واشتد القحط في المدينة.
أما الشاه فإنه لما عجز عن فتح «بغداد» حربًا، عمد إلى الحيلة والخداع وراسَلَ سرًّا محمد أغا بن بكر أغا — وكان محافظًا على قلعة «بغداد» — فوعده بالمناصب والأموال حتى خدعه ففتح له أبواب المدينة ليلًا، فدخلتها جيوش الشاه على حين غفلةٍ من بكر أغا والأهلين، فانهزم المدافعون واختفى الناس في بيوتهم واشتغل كلٌّ في نفسه، فما أصبح الصباح إلا والشاه قد دخل «بغداد» بمَن معه، وذلك في ٩ شوال سنة ١٠٣٢ﻫ الموافِقة سنة ١٦٢٣م.
دخل الشاه عباس الأول بغداد، فقتل أكثر رجال الحكومة التركية من عسكريين وإداريين حتى رجال الدين، منهم القاضي نوري أفندي، وخطيب الجامع الكبير محمد أفندي وغيرهما، وفتك بالسُّنَّة فتكًا ذريعًا، وصادَرَ أموال المثرين منهم، وارتكبت جنوده أنواع المنكرات من قتل وسلب ونهب وتخريب، أما بكر أغا فإن الشاه قتله أشنع قتلة، ثم قتل أخاه عمر أغا أيضًا، وفعل هذا الشاه أفعالًا لا تأتلف مع ما كان عليه من الحكمة وحسن السيرة وحبِّ التقدم والعمران.
وبعد أن هدأت «بغداد» أرسل الشاه وزيره قاسم خان بجيش كبير لفتح «الموصل»، فافتتح هذا القائد في طريقه «كركوك»، ثم توجَّهَ إلى «الموصل»، وعليها إذ ذاك والٍ تركي اسمه حسين باشا، فدافع عنها أيامًا ثم عجز واضطر إلى تسليمها، فدخلها الفرس واضطهدوا أهلها وفتكوا بهم كما فتكوا بأهل «بغداد»، وكان الشاه يومئذٍ مقيمًا في «بغداد»، وقد تمَّ أمره في «العراق» — إلا البصرة — في مدة شهرين بعد فتح «بغداد»، ثم ذهب إلى «كربلاء» ثم «النجف»، ومنها عاد إلى «بغداد»، وجعل لحمايتها خمسة آلاف جندي فارسي بقيادة صفي قلى خان، وولَّى الحكم فيها لرجل من خاصته اسمه «صاري خان»، وكتب إلى رؤساء القبائل العربية بلزوم السكينة والطاعة، ثم عاد إلى مقره.
وبقيت المدن العراقية في قبضة الصفويين — عدا البصرة — ست عشرة سنة تقريبًا (١٠٣٢–١٠٤٨ﻫ)، ثم أخرجهم منها السلطان مراد خان الرابع العثماني في سنة ١٠٤٨ﻫ الموافِقة لسنة ١٦٣٨م، بعد حروب استمرت أعوامًا خسر فيها الفريقان — الأتراك والفرس — خسائر عظيمة، وعادت للعثمانيين في عهد الشاه صفي الدين خان الثاني المدعو «سام ميرزا» حفيد الشاه عباس الأول.
(١) حملات الفرس على العراق
(٢) حملة نادر خان الأولى على العراق
(٣) حملة نادر شاه الثانية على العراق
عندما خلع الفرس الشاه عباس الثالث وتوصَّل نادر خان إلى الجلوس على عرش «إيران»، وقرض الدولة الصفوية وأعلن نفسه ملكًا وسُمِّي «نادر شاه»، ولُقِّب ﺑ «طهماسب الثالث»، طمعت نفسه ﺑ «العراق» فطلب سنة ١١٥٦ﻫ من الدولة العثمانية أن تعترف بالمذهب الشيعي وتعتبره مذهبًا خامسًا، وتخصِّص له ركنًا في الحرم الشريف «الكعبة» — وهو يعلم أن سياسة الأتراك تخالِف هذا الطلب، وأنهم بالطبع يرفضونه — فرفضت الدولة العثمانية طلبه، فاتخذ ذلك الرفض ذريعةً للحرب، فحمل على «العراق» وأغار على «البصرة» و«القرنة» وذلك سنة ١١٥٦ﻫ، وتوغَّلَ في البلاد الفراتية حتى وصل «الحلة»، ثم حاصَرَ «بغداد» وظل يتهدَّدها برمي القنابل أيامًا دافَعَ في أثنائها الوزير أحمد باشا دفاع الأبطال، حتى عجز نادر شاه عن فتحها وسار عنها إلى «كركوك» فافتتحها، ثم توجَّه نحو «الموصل» فاستولى على جميع القرى المجاورة لها، ثم حاصَرَ «الموصل» أيامًا، فساقت الدولة العثمانية جيشًا كبيرًا لقتاله، وبعد حروب كانت سجالًا بين الفريقين انسحب الفرس عن «الموصل» وساروا إلى جزيرة ابن عمر، فاستردَّ الأتراك «كركوك»، وفي أثناء ذلك أعاد الكرة نادر شاه على «الموصل»، فردَّه أهلها بالخسران؛ لمناعة أسوارها التي كانت عونًا لهم على الدفاع، فلما بلغ الأتراك ذلك حملوا على نادر شاه ثم ضيَّقوا عليه قرب «روان»، ولكنهم دحروا، وبعد ذلك وتوجَّه نادر شاه إلى جهة «أرضروم»، وكتب إلى السلطان محمود الأول يطلب تسليم إيالات «وان» و«الموصل» و«بغداد»، فلم يُجِبْه السلطان بغير إرسال الجنود لقتاله، فخاف نادر شاه عاقبة التوغُّل في البلاد العثمانية فعدل عن طلبه، وبعد مفاوضات طويلة تم الصلح معه على اعتبار الحدود القديمة، وذلك سنة ١١٥٩ﻫ.