الشَّهْرُ الْأَوَّلُ
الْآنَ، وَقَدِ انْتَهَيْتُ مِنْ رِحْلَاتِي الْيَوْمِيَّةِ مِنْ وَإِلَى السَّفِينَةِ، كَانَ عَلَيَّ أَنْ أَبْنِيَ مَأْوًى أَكْثَرَ دَوَامًا. وَكَانَ أَهَمُّ شَيْءٍ فِي حَيَاتِي وَقْتَئِذٍ هُوَ ضَمَانَ أَمْنِي وَسَلَامَتِي مِنْ أَيِّ حَيَوَانٍ بَرِّيٍّ أَوْ أَهْلِ الْمِنْطَقَةِ.
فَتَسَاءَلْتُ: «هَلْ سَيَكُونُ مِنَ الْأَفْضَلِ بِنَاءُ خَيْمَةٍ أَكْثَرَ دَوَامًا؟ أَمْ أَنَّهُ مِنَ الْأَذْكَى الْعُثُورُ عَلَى كَهْفٍ أَعِيشُ فِيهِ؟» جَلَسْتُ عَلَى الشَّاطِئِ وَفَكَّرْتُ مَلِيًّا فِي كِلَا الْخَيَارَيْنِ وَقُلْتُ لِنَفْسِي: «أَظُنُّ أَنَّنِي أَحْتَاجُ كِلَيْهِمَا: كَهْفًا لِلتَّخْزِينِ وَخَيْمَةً أَفْضَلَ.»
اتَّسَمَ الشَّاطِئُ حَيْثُ أَقَمْتُ الْمُخَيَّمَ بِالْحَرَارَةِ الشَّدِيدَةِ وَعَدَمِ قُرْبِهِ مِنْ مِيَاهِ الشُّرْبِ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُهِمِّ أَيْضًا أَنْ أَتَمَكَّنَ مِنْ رُؤْيَةِ الْبَحْرِ، كَيْ أَتَرَقَّبَ مُرُورَ السُّفُنِ.
سِرْتُ أَنَا وَشيبي طَوِيلًا حَوْلَ الْجَزِيرَةِ، وَبَعْدَ قُرَابَةِ ثَلَاثِ سَاعَاتٍ، وَجَدْنَا سَهْلًا جَمِيلًا، أَرْضِيَّتُهُ عُشْبِيَّةٌ، عَلَى جَانِبِ تَلٍّ صَاعِدٍ، بَدَا لِي مِثَالِيًّا! وَاسْتَغْرَقَ نَقْلُ جَمِيعِ مُؤَنِي لِمُخَيَّمِي الْجَدِيدِ عِدَّةَ أَيَّامٍ. وَلَمْ أَكُنْ أُرِيدُ الْبَقَاءَ هُنَاكَ حَتَّى أَنْتَهِيَ تَمَامًا مِنْ نَقْلِ كُلِّ شَيْءٍ، فَتَرَكْتُ شيبي هُنَاكَ فِي مُعْظَمِ اللَّيَالِي لِيَحْرُسَ أَشْيَائِي إِلَى أَنِ انْتَهَيْتُ مِنْ نَقْلِ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْمُخَيَّمِ الْأَوَّلِ.
أَوَّلًا، بَنَيْتُ حِصْنًا حَوْلَ الْمِنْطَقَةِ الَّتِي خَطَّطْتُ لِإِقَامَةِ خَيْمَتِي بِهَا، فَأَخَذْتُ أَشْجَارًا صَغِيرَةً مِنَ الْغَابَةِ وَزَرَعْتُهَا حَوْلَ كَهْفٍ صَغِيرٍ وَجَدْتُهُ، ثُمَّ بَنَيْتُ جُدْرَانًا دَاخِلَ خَطِّ الْأَشْجَارِ مُبَاشَرَةً. وَبَدَلًا مِنْ بِنَاءِ بَابٍ لِلْمُرُورِ عَبْرَ جِدَارِي، صَنَعْتُ سُلَّمًا؛ فَلَا يُمْكِنُكَ التَّخَلِّي عَنِ الْحَذَرِ، أَوْ عَلَى الْأَقَلِّ هَكَذَا شَعَرْتُ. وَلَكِنَّ شيبي كَانَ فِي حَاجَةٍ لِلدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ هُوَ الْآخَرُ؛ لِذَا صَنَعْتُ لَهُ فَجْوَةً فِي الْجِدَارِ لِيَأْتِيَ وَيَذْهَبَ كَيْفَمَا يُحِبُّ، وَأَخْفَيْتُهَا بِسَعَفِ النَّخِيلِ كَيْ لَا يُلَاحِظَهَا أَحَدٌ. وَعِنْدَمَا انْتَهَيْتُ وَجَدْتُ فِي حِصْنِي حِمَايَةً كَبِيرَةً وَرَاحَةَ بَالٍ.
بَعْدَ ذَلِكَ، صَنَعْتُ هَيْكَلًا أَكْثَرَ مَتَانَةً لِرَفْعِ قِمَّةِ الْخَيْمَةِ. وَبَنَيْتُ بَيْتِيَ الْجَدِيدَ قرب الْكَهْفِ، وَكُنْتُ أَسْتَخْدِمُهُ لِتَخْزِينِ الطَّعَامِ؛ وَبِذَلِكَ كُنْتُ مَشْغُولًا طَوَالَ الْأَيَّامِ. وَبِمُرُورِ كُلِّ يَوْمٍ، ازْدَدْتُ أَمَلًا فِي النَّجَاةِ. وَفِي النِّهَايَةِ أَصْبَحَتْ جَمِيعُ مُؤَنِي مُرَتَّبَةً وَمُنَظَّمَةً جِدًّا؛ فَفَصَلْتُ الْبَارُودَ فِي مَجْمُوعَاتٍ عَدِيدَةٍ مُخْتَلِفَةٍ (لِأَحْفَظَهُ فِي أَمَانٍ مِنَ الْبَرْقِ!) وَكَذَلِكَ خَزَّنْتُ طَعَامِي بِعِنَايَةٍ كَيْ لَا يَفْسُدَ.
فِي هَذِهِ الْأَسَابِيعِ الْقَلِيلَةِ الْأُولَى كُنْتُ أَذْهَبُ مُصْطَحِبًا كَلْبِي وَبُنْدُقِيَّتِي لِصَيْدِ الطَّعَامِ كُلَّ صَبَاحٍ، فَكَانَ هُنَاكَ الْعَدِيدُ مِنَ الْمَاعِزِ الْبَرِّيِّ عَلَى هَذِهِ الْجَزِيرَةِ، وَأَصْبَحَ لَحْمُ الْمَاعِزِ جُزْءًا أَسَاسِيًّا مِنْ غِذَائِي المُعْتَادِ. وَعَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ، أَبْلَيْتُ بَلَاءً حَسَنًا؛ فَمَنْ كَانَ يَعْرِفُ أَنَّ بِاسْتِطَاعَتِي بِنَاءَ حِصْنٍ أَوِ اصْطِيَادَ طَعَامٍ؟ وَمَنْ كَانَ يَعْرِفُ أَنَّ لَدَيَّ الْقُوَّةَ وَالْإِرَادَةَ لِلنَّجَاةِ؟ فَقَدْ كُنْتُ مَحْظُوظًا، إِذْ لَدَيَّ الْغِذَاءُ وَالْمَاءُ وَالْمَأْوَى؛ أَيْ إِنَّ الِاحْتِيَاجَاتِ الْأَسَاسِيَّةَ كَانَتْ مُتَاحَةً.
وَمَعَ تَأْمِينِ ضَرُورِيَّاتِ الْحَيَاةِ، بَقِيَ لَدَيَّ الْمَزِيدُ مِنَ الْوَقْتِ لِأُفَكِّرَ، وَكَانَ أَقْسَى شَيْءٍ فِي وُجُودِي عَلَى الْجَزِيرَةِ هُوَ قَضَاءُ الْأَوْقَاتِ الطَّوِيلَةِ وَحْدِي، فَسَبَحَتْ بِي أَفْكَارِي صَوْبَ عَائِلَتِي، وَكَانَ مِنَ الْمُحْبِطِ التَّفْكِيرُ فِي أَنَّنِي قَدْ لَا أَرَاهُمْ ثَانِيَةً أَبَدًا. وَتَذَكَّرْتُ رِفَاقِي الْبَحَّارَةَ، الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِثْلُ حَظِّي فَغَرِقُوا، وَقَضَيْتُ الْوَقْتَ جَالِسًا وَبَاكِيًا فَحَسْبُ. وَبِاسْتِخْدَامِ بَعْضِ الْوَرَقِ الصَّغِيرِ وَالْحِبْرِ مِمَّا اسْتَطَعْتُ الْحُصُولَ عَلَيْهِ مِنَ السَّفِينَةِ، بَدَأْتُ فِي تَسْجِيلِ يَوْمِيَّاتِي. وَفِي الْأَيَّامِ الَّتِي اسْتَمَرَّ فِيهَا نَزِيفُ قَلْبِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ خَسِرْتُهُ أَوْ تَخَلَّيْتُ عَنْهُ، كَانَتِ الْكِتَابَةُ تُقَدِّمُ لِي يَدَ الْعَوْنِ.
فِي ذَلِكَ الْحِينِ، كَانَ أُكْتُوبَرُ عَلَى وَشْكِ الِانْتِهَاءِ تَقْرِيبًا، وَكُنْتُ قَدِ ابْتَعَدْتُ عَنِ الْبَرَازِيلِ مُنْذُ شَهْرَيْنِ. فَبَعْدَ هُبُوطِي عَلَى الشَّاطِئِ مُبَاشَرَةً، صَنَعْتُ مَا يُشْبِهُ التَّقْوِيمَ عَلَى شَجَرَةٍ كَبِيرَةٍ بِجِوَارِ الشَّاطِئِ، وَحَفَرْتُ كُلَّ يَوْمٍ كَخَطٍّ مُسْتَقِيمٍ، ثُمَّ شَطَبْتُ عَلَى الْأَيَّامِ مَرَّةً وَاحِدَةً بَعْدَ انْتِهَاءِ كُلِّ أُسْبُوعٍ. فَقَدْ غَادَرْنَا الْبَرَازِيلَ فِي الأول من سِبْتَمْبِرَ، وَأَعْلَمُ أَنَّنَا ظَلِلْنَا فِي الْبَحْرِ لِمُدَّةِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا قَبْلَ ارْتِطَامِنَا بِهَذَا الْمُرَتَفَعِ الرَّمْلِيِّ، وَدَلَّتِ الشَّجَرَةُ عَلَى أَنَّنِي ظللت عَلَى الْجَزِيرَةِ لِشَهْرٍ وَاحِدٍ؛ لِذَا قُمْتُ بِعَمَلِ تَقْوِيمٍ جَدِيدٍ بِدَايةً مِنْ ٣٠ سِبْتَمْبِرَ، وَهُوَ يَوْمُ وُصُولِي إِلَى جَزِيرَتِي، وَسَيُعْتَبَرُ يَوْمَ ذِكْرَى وُصُولِي. فَأَصْبَحْتُ أَعِي الْيَوْمَ مِنَ الْغَدِ، الْجُمُعَةَ مِنَ الْأَحَدِ، وَالْإِثْنَيْنِ مِنَ الْأَرْبِعَاءِ، وَكَانَ هَذَا أَيْضًا مِنْ دَوَاعِي رَاحَةِ بَالِي.