وَتَسْتَمِرُّ الْحَيَاةُ
فِي سَنَتِي الثَّالِثَةِ عَلَى الْجَزِيرَةِ، بَدَأَتْ حَيَاتِي الْيَوْمِيَّةُ تَأْخُذُ شَكْلًا مُحَدَّدًا؛ فَكُنْتُ مُنْشَغِلًا بِالصَّيْدِ وَالطَّهْيِ فِي صَبَاحِ كُلِّ يَوْمٍ، تَمَامًا مِثْلَمَا كُنْتُ أَفْعَلُ كُلَّ صَبَاحٍ طَوَالَ السَّنَتَيْنِ الْمَاضِيَتَيْنِ. وَكُنْتُ أَقْضِي فَتَرَاتِ بَعْدِ الظَّهِيرَةِ فِي الْعَمَلِ عَلَى مَشَارِيعِ، كبِنَاءِ الْأَرْفُفِ وَتَحْسِينِ مَنْزِلَيَّ كِلَيْهِمَا.
كُنْتُ أَتَّجِهُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ إِلَى وَادِيَّ وَأَتَفَقَّدُ مَحَاصِيلِي، وَكَانَتْ بِخَيْرِ حَالٍ، بِالرَّغْمِ مِنِ الْتِفَاتِ الطُّيُورِ وَالْأَرَانِبِ الْبَرِّيَّةِ مِنْ حَوْلِهَا إِلَيْهَا! وَلِكَيْ أَحُلَّ مُشْكِلَةَ الطُّيُورِ قُمْتُ بِتَعْلِيقِ رِيشٍ فِي كَافَّةِ الْأَرْجَاءِ لِإِخَافَتِهَا، وَلِحَلِّ مُشْكِلَةِ الْأَرَانِبِ بَنَيْتُ سِيَاجًا حَوْلَ مَحَاصِيلِي كَيْ لَا تَتَمَكَّنَ الْأَرَانِبُ الْبَرِّيَّةُ مِنَ الدُّخُولِ. وَنَجَحَ كِلَا الْحَلَّيْنِ، وَسَرِيعًا أَصْبَحَتِ الْمَحَاصِيلُ فِي مَأْمَنٍ مِنَ الْحَيَاةِ الْبَرِّيَّةِ فِي الْمِنْطَقَةِ.
كَانَ الْحَصَادُ هَذَا الْعَامَ هزيلًا؛ لِذَا قَرَّرْتُ إِعَادَةَ إِنْبَاتِ الْحُبُوبِ الَّتِي زَرَعْتُهَا مِنْ قَبْلُ. وَكَانَ مِنْ دَوَاعِي شُعُورِي بِالسُّرُورِ فِي حَيَاتِي الْقَدِيمَةِ وَالَّذِي اشْتَهَيْتُ بِشِدَّةٍ الْحُصُولَ عَلَيْهِ هُوَ الْخُبْزُ، وَلَكِنْ كَانَ عَلَيَّ التَّأَكُّدُ مِنْ تَوَافُرِ الشَّعِيرِ وَالْأُرْزِ بِمَا يَكْفِي لِتَحْوِيلِ هَذَا الْحُلْمِ لِحَقِيقَةٍ.
وَعِنْدَمَا بَدَأَتِ الْأَمْطَارُ فِي الْهُطُولِ، كَالْمُعْتَادِ، مَكَثْتُ فِي الدَّاخِلِ قَدْرَ الْمُسْتَطَاعِ، وَقَضَيْتُ بِضْعَةَ أَسَابِيعَ جَمِيلَةً فِي مُحَاوَلَةِ تَعْلِيمِ بول الْبَبَّغَاءِ التَّحَدُّثَ، وَتَعَلَّمَ فِي النِّهَايَةِ قَوْلَ كَلِمَاتٍ وَجُمَلٍ قَلِيلَةٍ.
وَكَذَلِكَ كَانَ هَذَا الْمَوْسِمُ بِدَايَةَ صُنْعِي الْفَخَّارَ، فَهُنَاكَ كَمِّيَّةٌ وَافِرَةٌ مِنَ الصَّلْصَالِ الطَّبِيعِيِّ عَلَى الْجَزِيرَةِ. عَمِلْتُ عِدَّةَ مُحَاوَلَاتٍ لِإِحْمَاءِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي شَكَّلْتُهَا فِي النَّارِ، وَلَكِنَّهَا فِي كُلِّ مَرَّةٍ كَانَتْ تَخْرُجُ مَكْسُورَةً.
وَتَسَاءَلْتُ: «مَا الْخَطَأُ الَّذِي أَفْعَلُهُ؟»
جَرَّبْتُهَا عَلَى أَنْوَاعِ حَرَارَةٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَسَرِيعًا، عَرَفْتُ أَنَّهَا لا تَنْكَسِرْ عِنْدَ وَضْعِهَا عَلَى الْجَمْرِ، بَدَلًا مِنْ وَضْعِهَا مُبَاشَرَةً عَلَى النَّارِ. وَمِثْلَ سِلَالِي، كَانَتْ السُّلْطَانِيَّاتُ بَعِيدَةً تَمَامًا عَنِ الْإِتْقَانِ. صَنَعْتُ الْعَدِيدَ مِنَ الْقُدُورِ لِلطَّبْخِ وَبَدَأْتُ أَسْتَمْتِعُ بِتَنَوُّعِ وَجَبَاتِ الْعَشَاءِ، مِثْلِ الْيَخْنَةِ وَالْمَرَقِ! وَيَا لَهُ مِنْ تَغْيِيرٍ فِي وَجَبَاتِي الْمُعْتَادَةِ بَعْدَ أنْ كُنْتُ أَتَنَاوَلُ اللَّحْمَ الْمَشْوِيَّ عَلَى النَّارِ.
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، حَقَّقَ حَصَادِي الثَّانِي أَيْضًا النَّجَاحَ، وَأَصْبَحَ لَدَيَّ وَقْتَئِذٍ مَا يَكْفِي مِنَ الْبُذُورِ فِي الْمَخْزَنِ، فَشَعَرْتُ بِالِاطْمِئْنَانِ لِمُحَاوَلَةِ صُنْعِ الْخُبْزِ. وَكَانَ الْبَسْكَوِيتُ الَّذِي أَحْضَرْتُهُ مِنَ السَّفِينَةِ قَدْ نَفِدَ مُنْذُ زَمَنٍ، وَاشْتَهَيْتُ شَيْئًا مِثْلَهُ. فَأَوَّلًا، نَحَتُّ سُلْطَانِيَّةً كَبِيرَةً مِنَ قِطْعَةِ الْخَشَبِ الْحَدِيدِيِّ الَّتِي قَطَّعْتُهَا مُنْذُ مَا يَقْرُبُ مِنْ سَنَتَيْنِ كَامِلَتَيْنِ. وَثَانِيًا، وَضَعْتُ بَعْضًا مِنْ حِنْطَتِي فِي السُّلْطَانِيَّةِ وَحَاوَلْتُ طَحْنَهَا لِتُصْبِحَ طَحِينًا. وَبَعْدَ هَذَا، غَرْبَلْتُ الطَّحِينَ بِاسْتِخْدَامِ مَلَابِسَ قَدِيمَةٍ، عَلَى أَمَلِ فَصْلِ الْقِشْرَةِ مِنْهَا.
وَحِينَئِذٍ أَضْحَى لَدَيَّ الدَّقِيقُ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ مَعِي خَمِيرَةٌ لِنَفْشِ الْعَجِينِ وَانْتِفَاخِهِ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَدَيَّ أَيُّ زُبْدٍ لِإِضَافَةِ نَكْهَةٍ أَوْ شَحْمٍ لِأَخْبِزَ بِهِ. لِذَا، بِبَسَاطَةٍ خَلَطْتُ الدَّقِيقَ بِالْمَاءِ وَتَمَنَّيْتُ الْحُصُولَ عَلَى أَفْضَلِ نَتِيجَةٍ. وَكَانَتِ الْأَرْغِفَةُ الَّتِي صَنَعْتُهَا أَفْضَلَ قَلِيلًا مِنَ الْخُبْزِ المسطح، لَكِنَّهُ كَانَ لَذِيذًا.
وَاسْتَمَرَّ نَجَاحُ الْمَحَاصِيلِ. وَلَمْ أُرِدْ إِتْلَافَ أَيٍّ مِنَ الْبُذُورِ؛ لِذَا بَدَأْتُ بِالزِّرَاعَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَطْ فِي الْعَامِ. وَكُنْتُ أَعْرِفُ كَمَّ الْبُذُورِ الَّتِي أَحْتَاجُهَا، وَكَمَّ الدَّقِيقِ الَّذِي يُمْكِنُنِي عَمَلُهُ وَاسْتِخْدَامُهُ بِالْفِعْلِ؛ فَلَمْ أَرْغَبْ فِي إِهْدَارِ أَيِّ شَيْءٍ.