حَادِثَةٌ أُخْرَى
عَلَى مَدَى الْخَمْسِ سَنَوَاتٍ التَّالِيَةِ، حَقَّقْتُ نَجَاحَاتٍ عَلَى جَزِيرَتِي الصَّغِيرَةِ؛ فَكَانَ حَصَادِي نَاجِحًا، وَاسْتَكْشَفْتُ الْجَزِيرَةَ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَكَانَ شيبي وَبول أَلِيفَيْنِ رَائِعَيْنِ، وَكَانَ لَدَيَّ الْكَثِيرُ مِنَ الطَّعَامِ مِنْ أَشْجَارِ الْفَاكِهَةِ، وَكَانَ الصَّيْدُ دَائِمًا حَسَنًا.
وَوَقْتَئِذٍ، ارْتَكَبْتُ مَا يُمْكِنُ عَدُّهُ حَمَاقَةً؛ صَنَعْتُ قَارِبًا آخَرَ أَثْنَاءَ هَذِهِ الْفَتْرَةِ، وَتَعَلَّمْتُ أَيْضًا مِنْ أَخْطَائِي. فَبَدَلًا مِنِ اخْتِيَارِ شَجَرَةٍ مِنْ مُنْتَصَفِ الْغَابَةِ، عَثَرْتُ عَلَى أُخْرَى عَلَى مَسَافَةٍ أَقْرَبَ إِلَى الشَّاطِئِ. وَاسْتَغْرَقَ الْأَمْرُ مِنِّي شُهُورًا عَدِيدَةً لِأَنْحِتَ الزَّوْرَقَ كَمَا يَنْبَغِي. وَعِنْدَمَا انْتَهَيْتُ، أَنْزَلْتُهُ إِلَى الْمَاءِ بِوَضْعِ أَزْنَادِ الْأَشْجَارِ تَحْتَهُ وَدَحْرَجْتُهُ إِلَى الْأَمَامِ. وَمَا إِنْ عَرَفْتُ عَلَى وَجْهِ الْيَقِينِ أَنَّهُ سَيَطْفُو، صَنَعْتُ صَارِيًا صَغِيرًا وَشِرَاعًا. وَالْآنَ، بَدَلًا مِنَ الْمَشْيِ لِأَمْيَالٍ وَأَمْيَالٍ حَتَّى الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنَ الْجَزِيرَةِ، كَانَ يُمْكِنُنِي السَّفَرُ بِالْقَارِبِ!
وَلِأَنَّ قَلْبِي ظَلَّ يَتُوقُ لِلْمُغَامَرَةِ، بَدَأْتُ رِحْلَةً وَبِصُحْبَتِي الْمُؤَنُ الْكَافِيَةُ لِيَوْمَيْنِ؛ فَأَخَذْتُ بَعْضَ الطَّعَامِ، وَارْتَدَيْتُ قُبَّعَتِي، وَحَمَلْتُ مِظَلَّتِي. وَأَبْحَرَ الْقَارِبُ الصَّغِيرُ بِسَلَاسَةٍ حَتَّى الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنَ الْجَزِيرَةِ. وَاسْتَخْدَمْتُ الْمَرْسَى الصَّغِيرَ الَّذِي احْتَفَظْتُ بِهِ مِنَ السَّفِينَةِ الْكَبِيرَةِ وَذَهَبْتُ إِلَى الشَّاطِئِ لِلِاسْتِكْشَافِ. وَخَيَّمْتُ فِي الْخَارِجِ لِيَوْمَيْنِ كَامِلَيْنِ. وَمَا إِنِ اسْتَكْشَفْتُ طَبِيعَةَ الْمَكَانِ، أَخَذْتُ طَرِيقَ الْعَوْدَةِ إِلَى قَارِبِي، وَذَهَبْتُ عَنِ الْمَكَانِ لِأُبْحِرَ عَائِدًا لِلْمَنْزِلِ.
وَبَدَلًا مِنْ عَوْدَتِي مِنْ نَفْسِ طَرِيقِ قُدُومِي، قَرَّرْتُ الذَّهَابَ مِنَ الْجِهَةِ الْأُخْرَى. وَبَعْدَ فَتْرَةٍ قَصِيرَةٍ مِنِ انْطِلَاقِي، تَلَاقَتِ التَّيَّارَاتُ مِنِ اتِّجَاهَاتٍ عِدَّةٍ، وَبَدَأَتِ الْمِيَاهُ تَجْرِفُنِي إِلَى دَاخِلِ الْبَحْرِ، وَلَمْ يَبْدُ لِتَجْدِيفِي أَيُّ أَثَرٍ. هَبَّتِ الرِّيَاحُ بِشِدَّةٍ، بَلْ وَجَرَفَتْنِي إِلَى مَكَانٍ أَبْعَدَ، وَاخْتَفَتْ جَزِيرَتِي الصَّغِيرَةُ مِنْ عَلَى بُعْدٍ.
صَرَخْتُ: «أَوَّاهُ! لِمَاذَا أَنَا؟ لِمَاذَا ثَانِيَةً! مَاذَا أَفْعَلُ؟ أَيْنَ سَأَذْهَبُ؟» لَاحَظَ شيبي فَزَعِي، فَنَبَحَ وَنَبَحَ. وَكُلُّ مَا أَرَدْتُهُ حِينَهَا هُوَ الْعَوْدَةُ لِلْبَيْتِ. فَكَانَ مُخَيَّمِي جَنَّةً مُقَارَنَةً بِتَحَطُّمِ قَارِبِي أَوْ شُعُورِي بِالضَّيَاعِ فِي الْبَحْرِ. فَأَنْزَلْتُ الصَّارِيَ وَالشِّرَاعَ لِأَرَى إِنْ كَانَ سَيُؤَثِّرُ، وَلَكِنَّ الْقَارِبَ كَانَ قَدْ عَلِقَ فِي التَّيَّارِ.
كَانَ الشَّيْءُ الْوَحِيدُ الَّذِي يَسَعُنِي عَمَلُهُ هُوَ الِانْتِظَارَ. فَتَوَقَّفْتُ عَنِ الْمُحَاوَلَةِ وَتَرَقَّبْتُ وَالشَّمْسُ تُلْقِي بِأَشِعَّتِهَا عَبْرَ جَزِيرَتِي. وَبَعْدَ الظَّهِيرَةِ، تَغَيَّرَتِ الرِّيَاحُ، وَبَدَأَتْ تَهُبُّ شَمَالًا، مِمَّا بَعَثَ فِيَّ شَيْئًا مِنَ الْأَمَلِ. فَأَعَدْتُ الصَّارِيَ وَالشِّرَاعَ بِسُرْعَةٍ إِلَى مَكَانِهِمَا لِأَعْلَى، وَلَا شَيْءَ سِوَى الْعَمَلِ الْمُضْنِي جَعَلَ الْقَارِبَ يَجْتَازُ التَّيَّارَ. فَلَمْ أُبْحِرْ قَطُّ بِهَذِهِ الصُّعُوبَةِ فِي حَيَاتِي. تَأَرْجَحَ الْقَارِبُ قَلِيلًا، لِلْخَلْفِ وَلِلْأَمَامِ، وَلِلْأَمَامِ وَلِلْخَلْفِ، ثُمَّ قَرَّرْتُ الْبَدْءَ فِي التَّجْدِيفِ. وَبَعْدَ مَا يَقْرُبُ مِنْ سَاعَةٍ، عَادَ الْقَارِبُ أَخِيرًا إِلَى مَسَارِهِ وَتَوَجَّهْتُ بِهِ عَائِدًا بِاتِّجَاهِ الْجَزِيرَةِ.
عِنْدَ عَوْدَتِي إِلَى جَانِبِ الْجَزِيرَةِ الَّذِي اعْتَدْتُهُ، كَانَتِ الشَّمْسُ تَمِيلُ لِلْغُرُوبِ. وَأَرَدْتُ الْعَوْدَةَ إِلَى الشَّاطِئِ قَبْلَ حُلُولِ الظَّلَامِ بِالْكَامِلِ. وَبَدَلًا مِنْ مُحَاوَلَتِي الْعَوْدَةَ إِلَى النَّهْرِ (حَيْثُ اسْتَخْدَمْتُ الطَّوْفَ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ وَعَلَيْهِ مُؤَنِي مِنَ السَّفِينَةِ)، قَرَّرْتُ التَّوَقُّفَ عِنْدَ خَلِيجٍ صَغِيرٍ قَبْلَ حُلُولِ الظَّلَامِ مُبَاشَرَةً. ولحسن الحظ أَنَّ الْمِيَاهَ كَانَتْ هَادِئَةً، وَجَدَّفْتُ بِقَارِبِي إِلَى الشَّاطِئِ.
وَحِينَئِذٍ، كَانَ الظَّلَامُ دَامِسًا، فَرَبَطْتُ الْقَارِبَ وَقَرَّرْتُ الْمَبِيتَ لِقَضَاءِ اللَّيْلِ، وَصَعِدْتُ إِلَى شَجَرَةٍ وَحَاوَلْتُ النَّوْمَ.
وَبَيْنَمَا كُنْتُ أُحَاوِلُ الْوُصُولَ إِلَى وَضْعِيَّةٍ مُرِيحَةٍ، غَمْغَمْتُ لِنَفْسِي مُتَذَمِّرًا: «أَفْتَقِدُ أُرْجُوحَتِي الشَّبَكِيَّةَ.»
وَفِي صَبَاحِ الْيَوْمِ التَّالِي، جَدَّفْتُ بِالْقَارِبِ بِحَذَرٍ شَدِيدٍ حَتَّى مَمَرٍّ مَائِيٍّ صَغِيرٍ قَرِيبٍ مِنْ مُخَيَّمِي. وَكُنْتُ فِي شِدَّةِ الْإِجْهَادِ حِينَ وَصَلْتُ لِلْبَيْتِ. آهٍ يَا جُدْرَانِيَ الْعَزِيزَةَ! آهٍ يَا سِيَاجِيَ الرَّائِعَ! لَمْ أَقُمْ حَتَّى بِنَزْعِ قُبَّعَتِي بَعْدَمَا دَخَلْتُ؛ قَفَزْتُ وَحَسْبُ مُبَاشَرَةً عَلَى أُرْجُوحَتِي الشَّبَكِيَّةِ وَغَرِقْتُ فِي النَّوْمِ. كَانَ ذِرَاعَايَ وَسَاقَايَ تئن مِنَ الْأَلَمِ، أَمَّا عَقْلِي فَكَانَ فِي غَايَةِ الْإِرْهَاقِ.
سَمِعْتُ صَوْتًا غَرِيبًا يُنَادِينِي فِي مَنَامِي: «روبنسون كروزو! روبنسون كروزو! أَيْنَ كُنْتَ؟ وَكَيْفَ وَصَلْتَ إِلَى هُنَا؟» فَتَعَجَّبْتُ: هَلْ نَجَوْتُ؟ هَلْ أَخِيرًا أَتَى أَحَدُهُمْ لِأَخْذِي؟ فَتَحْتُ عَيْنًا وَاحِدَةً وَرَأَيْتُ بول جَاثِمًا فَوْقَ صَدْرِي. لَقَدْ كَانَ الْبَبَّغَاءَ!
قُلْتُ وَأَنَا أَتَقَلَّبُ وَأَعُودُ لِلنَّوْمِ: «آهٍ يَا بول، مِنَ الرَّائِعِ أَنْ أَكُونَ فِي الْبَيْتِ.»
لَازَمَنِي إِحْسَاسُ الضَّيَاعِ فِي الْبَحْرِ عَلَى مَدَى الْأَيَّامِ الْقَلِيلَةِ التَّالِيَةِ. فَكُنْتُ فِي غَايَةِ الرُّعْبِ، فَكَانَ يُمْكِنُ أَنْ أَفْقِدَ كُلَّ شَيْءٍ. فَدَارَ فِي ذِهْنِي: «لَا، لَنْ أُبْحِرَ ثَانِيَةً. فَالْأَمْرُ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُخَاطَرَةَ.»