لَا دُخَانٌ وَلَا نَارٌ
مَرَّتْ سِنُونَ وَسِنُونَ، وَلَمْ يَتَغَيَّرِ الْكَثِيرُ عَلَى جَزِيرَتِي؛ فَالْأَمْطَارُ تَحِلُّ وَتَذْهَبُ، وَالشَّمْسُ تُشْرِقُ، وَاسْتَمَرَّتْ أَيَّامِي كَمَا انْقَضَتْ عَلَى مَدَى الْكَثِيرِ وَالْكَثِيرِ مِنَ الشُّهُورِ، وَأَصْبَحْتُ أَهْوَى جَوْلَاتِي الصَّبَاحِيَّةَ الْبَاكِرَةَ، وَلَا يُسْعِدُنِي شَيْءٌ أَكْثَرُ مِنْ ذَهَابِي إِلَى مَنْزِلِي الصَّيْفِيِّ، لِأَرَى مَاعِزِي، وَأُلْقِيَ نَظْرَةً عَلَى مَحَاصِيلِي.
وَبِنَفْسِ سُرْعَةِ هُطُولِ الْمَطَرِ، تَحَوَّلَ كُلُّ شَيْءٍ فِي لَحْظَةٍ؛ فَكُنْتُ أَسِيرُ نَحْوَ الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنَ الْجَزِيرَةِ ذَاتَ صَبَاحٍ عِنْدَمَا رَأَيْتُهُمْ؛ أَهْلَ الْجَزِيرَةِ! وَكَانَ هُنَاكَ أَعْدَادٌ هَائِلَةٌ مِنْ زَوَارِقِهِمْ عَلَى الشَّاطِئِ، وَكَانُوا مُنْشَغِلِينَ بِإِشْعَالِ نَارٍ عَظِيمَةٍ. اخْتَبَأْتُ وَتَابَعْتُهُمْ، وَتَسَاءَلْتُ مَاذَا أَفْعَلُ. وَبَدَلًا مِنَ الْهُرُوبِ عَائِدًا إِلَى الْمُخَيَّمِ، جَلَسْتُ وَفَكَّرْتُ فِي الْأَمْرِ بِعَقْلَانِيَّةٍ.
«لَقَدْ ظَلَلْتُ هُنَا مَا يُقَارِبُ الْعِشْرِينَ عَامًا، وَهُمْ لَمْ يَعْثُرُوا عَلَيَّ قَطُّ، بَلْ لَمْ يَرَوْنِي. فَإِذَا بَقِيتُ مُخْتَبِئًا، فَرُبَّمَا لَنْ يَجِدُونِي أَبَدًا.»
انْصَرَفْتُ خِلْسَةً مِنَ الشَّاطِئِ وَذَهَبْتُ لِلْبَيْتِ. وَأَرَدْتُ أَنْ أُكْمِلَ حَيَاتِي، لَكِنَّنِي عَرَفْتُ أَنَّ الْأُمُورَ لَنْ تَظَلَّ أَبَدًا عَلَى حَالِهَا.
اشْتَمَلَتْ طُقُوسِي الصَّبَاحِيَّةُ بِدَايَةً مِنْ هَذَا الْيَوْمِ فَصَاعِدًا عَلَى اتِّخَاذِ إِجْرَاءَاتٍ أَمْنِيَّةٍ، فَكُنْتُ أَصْعَدُ إِلَى قِمَّةِ التَّلِّ الْعَالِي وَمَعِي مِنْظَارِي الْقَدِيمُ لِأَنْظُرَ فِي الْأَرْجَاءِ. وَبَدَلًا مِنْ تَرَقُّبِ السُّفُنِ، كُنْتُ أَبْحَثُ عَنِ الزَّوَارِقِ. وَمَرَّتْ أَسَابِيعُ ثُمَّ شُهُورٌ، وَتَوَصَّلْتُ إِلَى أَنَّ جَزِيرَتِي هِيَ حَتْمًا بُقْعَةٌ لَا يَقْصِدُونَهَا غَالِبًا، وَرُبَّمَا تَمُرُّ سَنَوَاتٌ أُخْرَى قَبْلَ أَنْ يَرْجِعُوا، وَرُبَّمَا لَا يَرْجِعُونَ أَبَدًا.
وَكَانَ أَهَمُّ مَا شَغَلَ بَالِي أَنْ تَكُونَ حَيَاتِي عَلَى الْجَزِيرَةِ مُتَوَارِيَةً عَنِ الْأَنْظَارِ قَدْرَ الْإِمْكَانِ. وَأَكْبَرُ مُشْكِلَةٍ كَانَ عَلَيَّ حَلُّهَا هِيَ كَيْفِيَّةُ إِشْعَالِ نَارٍ بِدُونِ دُخَانٍ. فَلَمْ أَكُنْ أُرِيدُ إِشْعَالَ النَّارِ فِي كَهْفِ التَّخْزِينِ الْبَارِدِ؛ فَهَذَا كَفِيلٌ بِأَنْ يُظْهِرَ مُخَيَّمِي بِأَكْمَلِهِ لِلْعِيَانِ. لَا، عَلَيَّ أَنْ أَجِدَ كَهْفًا بَعِيدًا عَنْ مُخَيَّمِي، فَالدُّخَانُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الدَّلِيلُ الْوَحِيدُ عَلَى وُجُودِ إِنْسَانٍ آخَرَ يَعِيشُ عَلَى الْجَزِيرَةِ، وَبِدُونِ الدُّخَانِ رُبَّمَا لَا يَكْتَشِفُ أَهْلُ الْجَزِيرَةِ أَبَدًا مُخَيَّمِي أَوْ مَنْزِلِي الصَّيْفِيَّ.
اسْتَغْرَقْتُ بِضْعَةَ أَيَّامٍ لِأَجِدَ الْمَكَانَ الْمُنَاسِبَ لِإِشْعَالِ النَّارِ. فَكَانَ الْكَهْفُ كَبِيرًا بِالْفِعْلِ، وَحِينَ سِرْتُ أَكْثَرَ بِدَاخِلِهِ، تَبَيَّنَ لِي أَنِّي أَسْتَطِيعُ الْوُقُوفَ فِي مُنْتَصَفِهِ بِيُسْرٍ.
بَعْدَ ذَلِكَ، حَدَثَ مَا أَخَافَنِي وَأَرْعَدَ فَرَائِصِي! فَبَيْنَمَا كُنْتُ أَسْتَكْشِفُ الْكَهْفَ، انْعَطَفْتُ حَوْلَ زَاوِيَةٍ وَإِذْ بِي وَجْهًا لِوَجْهٍ أَمَامَ عَيْنَيْنِ بَرَّاقَتَيْنِ تُحْدِّقَانِ فِيَّ. يَا لَهَا مِنْ صَدْمَةٍ! وَبَعْدَمَا الْتَقَطْتُ نَفَسِي، نَظَرْتُ مِنْ قَرِيبٍ لِأَجِدَ تَيْسًا عَجُوزًا وَمَرِيضًا رَاقِدًا فَحَسْبُ، لَا يُرِيدُ التَّحَرُّكَ وَلَمْ أُرْغِمْهُ عَلَيْهِ، فَقَطْ أَعْطَيْتُهُ شَرْبَةً مِنَ الْمَاءِ وَتَرَكْتُهُ لِحَالِهِ.
عُدْتُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي إِلَى الْكَهْفِ وَمَعِي بَعْضُ الْمُعَدَّاتِ: شُمُوعٌ وَغَيْرُهَا مِنَ الْأَشْيَاءِ الْأُخْرَى. وَكَانَ فِي الْكَهْفِ دِهْلِيزٌ طَوِيلٌ وَضَيِّقٌ يَقُودُ إِلَى حُجْرَةٍ جَمِيلَةٍ، تَلْمَعُ فِي الضَّيِّ بِأَضْوَاءٍ بَهِيَّةٍ مُتَلَأْلِئَةٍ.
وَفَكَّرْتُ: «رُبَّمَا يَكُونُ مَاسًا!» لَكِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا هُوَ وَقْتَ التَّفْكِيرِ فِي التَّنْقِيبِ!
وَلِأَنَّ الْكَهْفَ كَانَ آمِنًا وَجَافًّا، قَرَّرْتُ تَخْزِينَ مَا تَبَقَّى مِنْ بَارُودِي هُنَاكَ، مَعَ بَنَادِقِي الزَّائِدَةِ، كَمَا طَهَوْتُ مُعْظَمَ طَعَامِي بِالدَّاخِلِ، حَيْثُ لَنْ يَسْتَطِيعَ أَحَدٌ أَنْ يَرَى الدُّخَانَ الْمُتَصَاعِدَ مِنَ النَّارِ.