روبنسون يُقَابِلُ «جمعة»
مَرَّتْ شُهُورٌ كَثِيرَةٌ قَبْلَ أَنْ يُجِيبَ الْقَدَرُ عَنْ أَسْئِلَتِي؛ فَذَاتَ صَبَاحٍ، لَمْ يَطُلْ مُكْثِي فِي الْخَارِجِ قَبْلَ أَنْ أَكْتَشِفَ الزَّوَارِقَ. لَقَدْ عَادَ أَهْلُ الْجَزِيرَةِ! وَكَانُوا يُخَيِّمُونَ فِي ذَاتِ الْمَكَانِ كَمَا فَعَلُوا مُنْذُ بِضْعِ سِنِينَ. اخْتَبَأْتُ تَارَةً أُخْرَى مِنْهُمْ وَشَاهَدْتُهُمْ مِنْ عَلَى بُعْدٍ.
وَكَانَ مَعَهُمْ سَجِينَانِ مِسْكِينَانِ مُقَيَّدَانِ بِحِبَالٍ مَصْنُوعَةٍ مِنْ نَبَاتِ الْكَرْمَةِ، وَبَدَا عَلَيْهِمَا الرُّعْبُ الشَّدِيدُ. أَدْرَكْتُ حِينَهَا أَنَّهُ لَا أَمَلَ فِي إِقَامَةِ صَدَاقَاتٍ مَعَ هَؤُلَاءِ الرِّجَالِ الْمُخِيفِينَ. وَكَانَ هُنَاكَ عَلَى الْأَقَلِّ ثَلَاثُونَ رَجُلًا مِنْهُمْ! وَكَانُوا يُصْدِرُونَ الْكَثِيرَ مِنَ الْأَصْوَاتِ الْغَرِيبَةِ. وَقَامَ رَجُلٌ ضَخْمُ الْجُثَّةِ بِطَرْحِ أَحَدِ السَّجِينَيْنِ أَرْضًا بِيَدَيْهِ. وَبَعْدَمَا رَآهُ رَفِيقُهُ وَهُوَ يَتَلَقَّى الضَّرْبَ، انْتَهَزَ فُرْصَةَ عُمْرِهِ وَأَسْرَعَ مُبْتَعِدًا. كَانَ يَرْكُضُ أَسْرَعَ مِنْ أَيِّ رَجُلٍ رَأَيْتُهُ يَرْكُضُ مِنْ قَبْلُ فِي حَيَاتِي! وَقَبْلَ أَنْ أُدْرِكَ مَا يَحْدُثُ، حَوَّلَ الرَّجُلُ اتِّجَاهَهُ رَاكِضًا نَحْوِي.
كَادَ قَلْبِي يَتَوَقَّفُ، وَدَارَ فِي عَقْلِي: «هَذِهِ هِيَ النِّهَايَةُ، سَوْفَ يَجِدُونَنِي الْآنَ، وَسَيُؤْذُونَنِي.»
طَارَدَ رَجُلَانِ آخَرَانِ السَّجِينَ، وَاقْتَرَبُوا كُلُّهُمْ مِنِّي أَكْثَرَ وَأَكْثَرَ. وَفِي غَمْضَةِ عَيْنٍ، حَسَمْتُ أَمْرِي بِمُسَاعَدَةِ الرَّجُلِ الْمِسْكِينِ. وَتَرَبَّصْتُ فِي الْأَجَمَةِ وَانْتَظَرْتُ إِلَى أَنْ جَاءَتِ اللَّحْظَةُ الْمُنَاسِبَةُ. جَرَى السَّجِينُ بِجِوَارِي، ثُمَّ تَقَدَّمْتُ بِخِفَّةٍ وَأَوْقَعْتُ أَحَدَ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ يُطَارِدَانِهِ، بَيْنَمَا حَاوَلَ الرَّجُلُ الثَّانِي الْإِمْسَاكَ بِي، لَكِنَّنِي اسْتَطَعْتُ أَنْ أُفْقِدَهُ الْوَعْيَ. وَاسْتَدَارَ السَّجِينُ وَرَآنِي هُنَاكَ.
قُلْتُ لَهُ، مَعَ عِلْمِي بِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَفْهَمُنِي: «لَا تَقْلَقْ! سَوْفَ أُسَاعِدُكَ!»
تَرَدَّدَ الرَّجُلُ لِدَقِيقَةٍ، ثُمَّ هُرِعَ عَائِدًا إِلَيَّ. فَقُلْتُ لَهُ: «سَاعِدْنِي كَيْ أُقَيِّدَهُمَا، كَيْ لَا يَقْدِرَا عَلَى إِيذَائِكَ بَعْدَ الْآنَ.» فِي الْبِدَايَةِ لَمْ يَفْهَمْ، لَكِنْ بَعْدَمَا فَكَكْتُ قُيُودَ مِعْصَمَيْهِ مِنَ الْحِبَالِ وَأَشَرْتُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ، قَيَّدْنَاهُمَا مُسْتَخْدِمَيْنِ نَفْسَ نَوْعِ الْحِبَالِ، وَبِهَذَا لَنْ يَتَمَكَّنَا مِنَ الْحَرَكَةِ لِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ جِدًّا!
قُلْتُ لَهُ: «هَيَّا! عَلَيْنَا الْخُروجَ مِنْ هُنَا.»
أَحْضَرْتُ الرَّجُلَ إِلَى كَهْفِي. وَبَعْدَمَا اسْتَطَعْنَا أَنْ نَرْتَاحَ أَخِيرًا، أَعْطَيْتُهُ بَعْضَ الطَّعَامِ وَالْمَاءِ؛ فَكَانَ فِي غَايَةِ الْعَطَشِ وَالْجُوعِ.
وَسَأَلْتُهُ: «مَا اسْمُكَ؟»
فَأَجَابَنِي بِلُغَتِهِ.
قُلْتُ لَهُ: «سَوْفَ أَدْعُوكَ «جمعة»، لِأَنَّنِي أَنْقَذْتُكَ فِي هَذَا الْيَوْمِ، يَوْمِ الْجُمُعَةِ!»
ابْتَسَمَ الرَّجُلُ لِي وَأَوْمَأَ بِرَأْسِهِ. وَأَشَرْتُ إِلَى صَدْرِي قَائِلًا: «اسْمِي روبنسون، روبنسون كروزو.»
وَقَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ مَنْعِ نَفْسِهِ، أَطْلَقَ جمعة تَثَاؤُبًا كَبِيرًا وَهَائِلًا، فَضَحِكْتُ عَالِيًا وَقُلْتُ لَهُ: «لَا بُدَّ أَنَّكَ مُتْعَبٌ جِدًّا.» وَأَرَيْتُهُ حَصِيرَةَ نَوْمٍ مِنَ الْقَشِّ كُنْتُ أَتْرُكُهَا فِي الْكَهْفِ وَقُلْتُ لَهُ: «وَالْآنَ، لِمَ لَا تَغْفُو قَلِيلًا؟»
ابْتَسَمَ لِي جمعة، مُدْرِكًا تَمَامًا مَا قَصَدْتُهُ، فَسَارَ إِلَى الْحَصِيرَةِ وَغَرِقَ فِي النَّوْمِ مُبَاشَرَةً. وَجَلَسْتُ هُنَاكَ أُشَاهِدُهُ وَحَسْبُ لِبَعْضِ الْوَقْتِ، فَبِالرُّغْمِ مِنْ مَعْرِفَتِي مِنْ عَدَمِ فَهْمِهِ لِي وَعَدَمِ فَهْمِي لَهُ، إِلَّا أَنَّهُ مِنَ الرَّائِعِ أَنْ يَكُونَ مَعَكَ شَخْصٌ لِتَتَحَدَّثَ إِلَيْهِ. وَكَانَ جمعة رَجُلًا طَوِيلَ الْقَامَةِ لِلْغَايَةِ، وَكَانَ لَهُ شَعْرٌ طَوِيلٌ وَدَاكِنٌ يَنْسَابُ عَلَى ظَهْرِهِ، وَكَانَ يَرْتَدِي مَلَابِسَ مِنَ الْجِلْدِ هُوَ الْآخَرُ، لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرْتَدِي الْكَثِيرَ مِثْلِي.
وَفِي الْيَوْمِ التَّالِي، رَجَعْتُ إِلَى الْكَهْفِ الْمُخَصَّصِ لِلطَّهْيِ فَوَجَدْتُ جمعة مَا زَالَ هُنَاكَ. وَفِي الْحَقِيقَةِ، وَعَلَى مَرِّ الْأَيَّامِ الْقَلِيلَةِ التَّالِيَةِ، فُوجِئْتُ لِمَعْرِفَةِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرْغَبُ فِي الْعَوْدَةِ لِوَطَنِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. عَمِلْنَا بِجِدٍّ لِأَكْثَرَ مِنْ شَهْرَيْنِ جَنْبًا لِجَنْبٍ، وَتَوَافَقْنَا عَلَى نَحْوٍ جَيِّدٍ، حَتَّى وَلَوْ لَمْ نَكُنْ نَتَحَدَّثُ نَفْسَ اللُّغَةِ.