الْحَيَاةُ مَعَ صَدِيقٍ
قَضَيْتُ أَنَا وجمعة الثَّلَاثَ سَنَوَاتٍ التَّالِيَةَ نَحْيَا وَنَعْمَلُ مَعًا، وَاتَّبَعْنَا رُوتِينًا مُرِيحًا جِدًّا؛ فَفِي أَوْقَاتِ الصَّبَاحِ نَسْتَطْلِعُ الْجَزِيرَةَ لِلتَّأَكُّدِ أَنَّ أَهْلَهَا لَمْ يَعُودُوا، وَفِي أَوْقَاتِ الظَّهِيرَةِ، نَعْمَلُ فِي الْمَزْرَعَةِ أَوْ نَعْتَنِي بِالْمَحَاصِيلِ أَوْ نَحْلِبُ الْمَاعِزَ أَو نَقْطِفُ الْفَاكِهَةَ. أَمَّا فِي أَوْقَاتِ الْمَسَاءِ، فَنُعِدُّ عَشَاءَنَا وَأُعَلِّمُ جمعة اللُّغَةَ الَّتِي أَتَحَدَّثُهَا. وَوَثِقْتُ فِيهِ ثِقَةً عَمْيَاءَ.
فَهَا هُوَ الْقَدَرُ قَدِ اسْتَجَابَ لِابْتِهَالَاتِي، وَلَمْ أَعُدْ وَحِيدًا. فَوُجُودُ جمعة مَعِي فَحَسْبُ كَانَ كَفِيلًا بِالتَّخْفِيفِ مِنْ خَوْفِي مِنْ أَنْ يَجِدَنِي أَحَدٌ. وَبِالتَّأْكِيدِ وُجُودُنَا نَحْنُ الِاثْنَيْنِ مَعًا كَانَ يُعَزِّزُ مِنْ فُرْصَتِنَا لِحِمَايَةِ أَنْفُسِنَا مِنْ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ، مِمَّا جَعَلَنِي أَيْضًا أُفَكِّرُ أَكْثَرَ وَأَكْثَرَ فِي الْهُرُوبِ. سَأَلْتُ جمعة أَسْئِلَةً كَثِيرَةً خِلَالَ هَذَا الْوَقْتِ: أَيْنَ نَحْنُ؟ وَمَنْ هُمْ قَوْمُهُ؟ وَمَا الْجُزُرُ الْقَرِيبَةُ مِنَّا؟ وَهَلْ يَشْتَاقُ إِلَى عَائِلَتِهِ؟ وَهَلْ تَبْحَثُ عَائِلَتُهُ عَنْهُ؟
وَفِي الْأَغْلَبِ، كَانَتْ إِجَابَتُهُ عَلَيَّ فِي ابْتِسَامَةٍ وَإِيمَاءَةٍ، حَتَّى تَعَلَّمَ لُغَتِي وَاسْتَطَاعَ إِجَابَتِي.
فَسَأَلْتُهُ: «كَيْفَ لَا تُرِيدُ الذَّهَابَ لِوَطَنِكَ، لِجَزِيرَتِكَ؟»
– «مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيدٍ، تَرَكْتُ مَنْزِلِي، فَرَغِبْتُ أَنْ أَرَى الْعَالَمَ. لَكِنَّ أَبِي غَضِبَ مِنِّي بِشِدَّةٍ، وَلَمْ يُرِدِ لِيَ الذَّهَابَ، وَكُنْتُ فِي طَرِيقِي لِأَحْظَى بِرِحْلَةٍ بَحْرِيَّةٍ عَظِيمَةٍ حِينَ أَمْسَكَ بِي أَهْلُ الْجَزِيرَةِ، ثُمَّ أَنْقَذْتَ أَنْتَ حَيَاتِي.»
– «هَلْ تَفْتَقِدُ وَالِدَكَ؟»
فَكَّرَ جمعة لِدَقِيقَةٍ ثُمَّ قَالَ: «نَعَمْ، أَفْتَقِدُهُ بِالْفِعْلِ، وَأَفْتَقِدُ جَزِيرَتِي. لَكِنَّنِي أُحِبُّ الْوَضْعَ هَا هُنَا، وَأُحِبُّ الْعَيْشَ هَا هُنَا، وَأُحِبُّ الْعَمَلَ فِي الْمَزْرَعَةِ. فَالْأَمْرُ مُخْتَلِفٌ جِدًّا.»
ابْتَسَمْتُ لَهُ قَائِلًا: «إِذَنْ فَأَنْتَ تُرِيدُ الْبَقَاءَ؟»
وَانْفَغَرَ فَمُهُ عَنِ ابْتِسَامَةٍ عَرِيضَةٍ وَقَالَ: «بِالطَّبْعِ أَوَدُّ ذَلِكَ! فَهَذِهِ فُرْصَةُ الْعُمْرِ، أَنْ أَحْظَى بِهَذِهِ الْمُغَامَرَةِ!»
قُلْتُ لَهُ: «التَّشَابُهُ بَيْنَنَا كَبِيرٌ، فَهَكَذَا انْتَهَى بِيَ الْمَطَافُ عَلَى الْجَزِيرَةِ أَنَا الْآخَرِ، فَقَدْ تَرَكْتُ وَطَنِي لِأَحْظَى بِمُغَامَرَةٍ كُبْرَى؛ وَاسْتَقْرَرْتُ هُنَا مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ عَامًا.»
قَضَيْتُ سَاعَاتٍ أَحْكِي فِيهَا لجمعة عَنْ حَيَاتِي قَبْلَ الْجَزِيرَةِ، وَعَنْ نَشْأَتِي فِي إِنْجِلْتِرَا، وَعَنْ مَزْرَعَتِي فِي الْبَرَازِيلِ. وَأَخْبَرَنِي هُوَ عَنْ حَيَاتِهِ، وَعَنْ عَائِلَتِهِ، وَعَنْ كَيْفَ كَانَتِ الْحَيَاةُ عَلَى الْجَزِيرَةِ الَّتِي قَدِمَ مِنْهَا. وَظَهَرَتْ بَيْنَنَا أَشْيَاءُ مُشْتَرَكَةٌ كَثِيرَةٌ، بِالرُّغْمِ مِنْ أَنَّ مَسْقَطَ رَأْسَيْنَا فِي أَمَاكِنَ شَدِيدَةِ الِاخْتِلَافِ. وَأَصْبَحْنَا أَفْضَلَ صَدِيقَيْنِ.
– «لَقَدْ كَانَ مُقَدَّرًا لَنَا أَنْ نَغْدُوَ صَدِيقَيْنِ حَمِيمَيْنِ يَا روبنسون! وَأَنَا لَسْتُ قَلِقًا، فَأَنَا وَاثِقٌ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ سَيَنْصَلِحُ.»
جَلَسْنَا صَامِتَيْنِ فِي خَيْمَتِنَا بَعْدَ ذَلِكَ لِفَتْرَةٍ، كُلٌّ مِنَّا يُفَكِّرُ كَيْفَ انْتَهَى بِهِ الْمَطَافُ هُنَا، وَغَرِقَ كُلٌّ مِنَّا فِي أَفْكَارِهِ عَنْ حَيَاةِ الْمُغَامِرِ.
وَسَأَلْتُ جمعة: «هَلْ حَدَثَ أَنِ انْجَرَفَ أَيٌّ مِنْ قَوْمِكَ فِي الْبَحْرِ بِقَوَارِبِهِمْ؟»
فَأَجَابَ: «لَا، لَا أَظُنُّ ذَلِكَ. فَنَحْنُ نُجَدِّفُ مَعَ الْمَدِّ، وَكُلُّ شَيْءٍ عَلَى مَا يُرَامُ، وَالنَّهْرُ يَجْرِي فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ.»
فِي الْبِدَايَةِ، لَمْ أَفْهَمْ مَقْصِدَهُ. أَيُّ نَهْرٍ؟ نَعَمْ بِالطَّبْعِ! أَدْرَكْتُ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنَّهُ يَقْصِدُ نَهْرَ أورينوكو الْعَظِيمَ، فَلَا بُدَّ أَنَّ جَزِيرَتِي قَرِيبَةٌ مِنْ ترينيداد.
أَشَرْتُ إِلَى لِحْيَتِي وَسَأَلْتُهُ: «هَلْ رَأَيْتَ رِجَالًا كَثِيرِينَ مِثْلِي مِنْ قَبْلُ؟»
فَكَّرَ جمعة فِي الْأَمْرِ لِدَقِيقَةٍ، ثُمَّ أَجَابَ: «فِي مَكَانٍ بَعِيدٍ كُلِّ الْبُعْدِ، يَبْعُدُ كَثِيرًا عَنْ قَوْمِي، وَيَبْعُدُ كَثِيرًا عَنْ هُنَا، يُوجَدُ رِجَالٌ بِلِحًى؛ رِجَالٌ بِلِحًى طَوِيلَةٍ وَوُجُوهٍ شَاحِبَةٍ، مِثْلُكَ بِالضَّبْطِ، أَجَلْ.»
أَشْعَلَتْ كَلِمَاتُ جمعة حَمَاسَتِي وَقُلْتُ لَهُ: «هَلْ تَظُنُّ أَنَّ بِمَقْدُورِنَا نَحْنُ أَنْ نُبْحِرَ مِنْ هُنَا إِلَى هُنَاكَ بِقَارِبِي الصَّغِيرِ؟»
هَزَّ رَأْسَهُ نفيًا، وَانْخَفَضَتْ مَعْنَوِيَّاتِي، وَقَالَ: «لَيْسَ فِي الْقَارِبِ الصَّغِيرِ، لَا، لَكِنْ يُمْكِنُنَا الْإِبْحَارُ فِي قَارِبٍ أَكْبَرَ؛ قَارِبٍ كَبِيرٍ، فِي حَجْمِ زَوْرَقَيْنِ.»
انْفَغَرَ فَمِي عن ابْتِسَامَةٍ عَرِيضَةٍ، وَخَبَطْتُ جمعة عَلَى ظَهْرِهِ مِنْ فَرْطِ سَعَادَتِي، وَنَظَرَ إِلَيَّ كَمَا لَوْ كُنْتُ مَجْنُونًا، لَكِنَّنِي لَمْ أُبَالِ. فَلِأَوَّلِ مَرَّةٍ مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ عَامًا، بَاتَتْ لَدَيَّ فِكْرَةٌ عَنْ مَكَانِ إِقَامَتِي، وَلَدَيَّ فِكْرَةٌ عَنْ مَكَانِ جَزِيرَتِي مِنَ الْعَالَمِ. لَمْ أَكُنْ وَحِيدًا، وَكَانَ لَدَيَّ أَمَلٌ فِي الْعَوْدَةِ لِوَطَنِي.
وَفِي سَاعَةٍ هَادِئَةٍ بَعْدَ الظَّهِيرَةِ، خِلَالَ مَوْسِمِ الْجَفَافِ، سِرْتُ أَنَا وجمعة لِمَسَافَةٍ طَوِيلَةٍ نُزُولًا إِلَى الشَّاطِئِ حَيْثُ رَأَيْتُ ذَاتَ مَرَّةٍ أَثَرَ قَدَمٍ. أَرَدْتُ أَنْ أُرِيَهُ أَجْزَاءَ السَّفِينَةِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي فَكَكْتُهَا وَخَبَّأْتُهَا طَوَالَ تِلْكَ السَّنَوَاتِ الْمَاضِيَةِ.
تَفَحَّصَ جمعة حُطَامَ السَّفِينَةِ لِفَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ، وَأَخَذَ يُقَلِّبُ فِي الْأَجْزَاءِ لِيَرَى أَسْفَلَهَا، وَلَفَّ حَوْلَهَا لِأَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ. ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى ذَقْنِهِ وَقَالَ: «لَقَدْ رَأَيْتُ سَفِينَةً مِثْلَ هَذِهِ مِنْ قَبْلُ يَا روبنسون.»
انْدَهَشْتُ جِدًّا لِسَمَاعِ هَذَا الْكَلَامِ، فَسَأَلْتُهُ: «مَاذَا تَعْنِي؟»
نَظَرَ إِلَيَّ جمعة مُجِيبًا: «مُنْذُ أَرْبَعِ سَنَوَاتٍ. أَجَلْ، كَانَ ذَلِكَ مُنْذُ أَرْبَعِ سَنَوَاتٍ، هَبَطَ سَبْعَةَ عَشْرَ رَجُلًا عَلَى جَزِيرَتِي.» وَاسْتَمَرَّ جمعة فِي حَدِيثِهِ لِيُخْبِرَنِي أَنَّ هَؤُلَاءِ الرِّجَالَ لَا يَزَالُونَ هُنَاكَ، يَعِيشُونَ عَلَى جَزِيرَتِهِ، بِالْقُرْبِ مِنْ قَوْمِهِ.
قُلْتُ لَهُ: «لَا بُدَّ أَنَّهُمُ الرِّجَالُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى مَتْنِ السَّفِينَةِ الَّتِي شَهِدْتُهَا بَعْدَ تَحَطُّمِهَا!» ثم أَخْبَرْته كُلَّ شَيْءٍ عَنْ سَمَاعِي لِطَلَقَاتِ الْمِدْفَعِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، ثُمَّ طَلَقَاتِ النَّارِ، وَاسْتَطْرَدْتُ: «لَكِنْ عِنْدَ انْقِشَاعِ الضَّبَابِ وَنُزُولِي إِلَى الشَّاطِئِ، كُلُّ مَا وَجَدْتُهُ هُوَ سَفِينَةٌ أُخْرَى مُحَطَّمَةٌ! كَمْ مِنَ الرَّائِعِ أَنَّ كُلَّ هَؤُلَاءِ الرِّجَالِ لَمْ يَمُوتُوا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ كَمَا ظَنَنْتُ!»
وَبَدَأْنَا فِي السَّيْرِ عَائِدَيْنِ إِلَى الْمُخَيَّمِ، كِلَانَا مُسْتَغْرِقٌ فِي أَفْكَارِهِ. وَكَانَتْ مِشْيَةً هَادِئَةً، لَمْ أَقُلْ أَيَّ شَيْءٍ لِصَدِيقِي إِلَى مَا بَعْدَ الْعَشَاءِ.
وَقُلْتُ لجمعة قَاطِعًا أَمْرِي: «عَلَيْنَا الْعَوْدَةُ إِلَى جَزِيرَتِكَ يَا جمعة!»