هَلْ يُمْكِنُنا مُغَادَرَةُ الْجَزِيرَةِ؟
كُنَّا فِي حَاجَةٍ إِلَى قَارِبٍ لِنُغَادِرَ الْجَزِيرَةَ؛ فَالْقَارِبَانِ اللَّذَانِ صَنَعْتُهُمَا لَنْ يَكُونَا ذَوَيْ نَفْعٍ لِمِثْلِ هَذِهِ الرِّحْلَةِ الطَّوِيلَةِ (وَبِالنِّسْبَةِ لِقَارِبِي الْأَوَّلِ فَلَا يَزَالُ مَتْرُوكًا عَلَى الْيَابِسَةِ فِي مُنْتَصَفِ الْغَابَةِ).
سَأَلْتُ جمعة ذَاتَ صَبَاحٍ بَيْنَمَا نَتَنَاوَلُ إِفْطَارَنَا: «هَلْ تَظُنُّ أَنَّ بِإِمْكَانِكَ مُسَاعَدَتِي فِي صُنْعِ سَفِينَةٍ مِثْلِ الَّتِي رَأَيْتَهَا مُنْذُ أَرْبَعِ سَنَوَاتٍ؟»
وَأَجَابَ: «أَجَلْ، فَلَا أَرَى مَانِعًا. وَمَعَ أَنِّي غَيْرُ مُتَأَكِّدٍ كَيْفَ، لَكِنَّنِي مُتَأَكِّدٌ أَنَّكَ قَادِرٌ عَلَى تَعْلِيمِي؛ أَلَيْسَ كَذَلِكَ يَا روبنسون؟»
فَقُلْتُ: «بِالطَّبْعِ! فَبِتَعَاوُنِنَا مَعًا سَوْفَ نَسْتَطِيعُ بِنَاءَ قَارِبٍ جَيِّدٍ يَحْمِلُنَا لِنَعُودَ بِهِ إِلَى جَزِيرَتِكَ.
قَطَعْنَا الْأَشْجَارَ، وَنَحَتْنَا أَلْوَاحَ الْخَشَبِ، وَفَرَّغْنَا الْقَاعَ. عَمِلْنَا وَتَعِبْنَا. وَمَرَّتِ الشُّهُورُ وَبَدَأ مَرْكَبُنَا يَأْخُذُ شَكْلًا بِبُطْءٍ. وَعَمِلْنَا طَوَالَ مَوْسِمِ الْجَفَافِ كُلِّهِ بِلَا تَوَقُّفٍ وَلَوْ لِيَوْمٍ وَاحِدٍ. وَبِمُجَرَّدِ انْتِهَاءِ الْعَمَلِ فِي الْقَارِبِ، بَذَلْنَا كُلَّ جُهُودِنَا لِزَحْزَحَتِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا إِلَى الْمَاءِ. وَحَقًّا لَمْ نَرَ قَطُّ رَجُلَيْنِ أَسْعَدَ مِنَّا يَوْمَ أَنْ طَفَا الْقَارِبُ عَلَى صَفْحَةِ الْمَاءِ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ!
كَانَ جمعة وَاثِقًا أَنَّ بِاسْتِطَاعَتِنَا اسْتِخْدَامَ مَجَادِيفِنَا حَتَّى نَصِلَ إِلَى الْبَرِّ الرَّئِيسِيِّ، وَمَعَ ذَلِكَ فَكَانَ لَدَيَّ فِكْرَةٌ أَفْضَلُ؛ فَبَيْنَمَا قَطَعَ جمعة شَجَرَةَ أَرْزٍ كَبِيرَةً كَيْ نَسْتَخْدِمَهَا كَصَارٍ، جَلَسْتُ وَخِطْتُ جَمِيعَ أَجْزَاءِ الْخَيْمَةِ الَّتِي احْتَفَظْتُ بِهَا عَلَى مَدَى هَذِهِ السَّنَوَاتِ. وَوَضَعْنَا الصَّارِيَ وَأَقَمْنَا الشِّرَاعَ، وَأَصْبَحَ الْمَرْكَبُ الْآنَ جَاهِزًا لِجَوْلَةٍ لِلتَّجْرِبَةِ! أَبْحَرْتُ أَنَا وجمعة حَوْلَ الْمَرْفَأِ إِذْ عَلَّمْتُهُ كَيْفَ يُبْحِرُ. وَكَحَالِهِ مَعَ كُلِّ شَيْءٍ آخَرَ أَرَيْتُهُ كَيْفَ يَقُومُ بِهِ، وَجَدْتُهُ سَرِيعَ التَّعَلُّمِ، حَتَّى عَرَفَ جمعة سَرِيعًا كَيْفَ يَتَحَكَّمُ فِي الْمَرْكَبِ تَقْرِيبًا بِنَفْسِ جَوْدَةِ تَحَكُّمِي فِيهِ.
بَعْدَ ذَلِكَ اضْطُرِرْنَا إِلَى أَنْ نَظَلَّ فِي مَنْزِلِنَا فِي الْمَوْسِمِ المُمْطِرِ، وَأَرْدَنَا حِمَايَةَ الْمَرْكَبِ مِنْ ظُرُوفِ الطَّقْسِ. فَحَفَرْنَا حَوْضًا صَغِيرًا لِلْمَرْكَبِ مِنَ الْيَابِسَةِ بِالْقُرْبِ مِنَ الْجَدْوَلِ، ثُمَّ حَرَصْنَا عَلَى بَقَائِهِ جَافًّا عَبْرَ بِنَاءِ سَدٍّ حَوْلَهُ وَتَغْطِيَةِ قِمَّتِهِ بِأَغْصَانٍ كَبِيرَةٍ كَامِلَةٍ لِتَكُونَ بِمَنْزِلَةِ سَقْفٍ. وَالْآنَ كُلُّ مَا تَبَقَّى لَنَا فَعْلُهُ هُوَ انْتِظَارُ تَحَسُّنِ الطَّقْسِ.
مَرَّ إِجْمَالِيُّ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ عَامًا مُنْذُ أَنْ تَحَطَّمَ قَارِبِي وَأُلْقِيتُ عَلَى الْجَزِيرَةِ، فَكَمْ هُوَ صَعْبٌ أَنْ أُصَدِّقَ مُرُورَ كُلِّ هَذَا الْوَقْتِ. جَلَسْتُ لِفَتَرَاتٍ طِوَالٍ مُتَسَائِلًا كَمْ تَغَيَّرَتِ الْحَيَاةُ يَا تُرَى فِي وَطَنِي، هَلْ لَا تَزَالُ مَزْرَعَتِي مَوْجُودَةً؟ هَلْ لَا يَزَالُ أَهْلِي عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ؟ هَلْ عَادَ أَخِي لِلْوَطَنِ؟ تَسَابَقَتْ هَذِهِ الْأَفْكَارُ بَيْنَ جَنَبَاتِ عَقْلِي مِثْلَ قَطَرَاتِ الْمَطَرِ، لَا يُوقِفُهَا شَيْءٌ سِوَى سُطُوعِ الشَّمْسِ.