فُرْصَةُ الْهَرَبِ
أَخِيرًا، فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ صَحِبَنِي سَيِّدِي أَنَا وَعَبْدًا آخَرَ، يُدْعَى إِسْمَاعِيلَ، لِصَيْدِ السَّمَكِ مَعَهُ، لَكِنَّ الْجَوَّ تَغَيَّرَ سَرِيعًا فِي غَيْرِ صَالِحِنَا، فَعَلِقْنَا فِي ضَبَابٍ كَثِيفٍ، وَعِنْدَمَا تَمَكَّنَّا مِنَ الرُّؤْيَةِ بِوُضُوحٍ، أَبْحَرْتُ أَنَا وَإِسْمَاعِيلُ بَعِيدًا بَدَلًا مِنَ الْعَوْدَةِ لِلْمَنْزِلِ. وَبَعْدَمَا لَاقَيْنَا بَعْضَ الْمَشَقَّةِ، جَدَّفْنَا بِأَمَانٍ عَائِدَيْنِ إِلَى الشَّاَطئِ.ِ
حَدَثَ أَمْرَانِ بَعْدَ ذَلِكَ جَعَلَانِي أُفَكِّرُ فِي كَيْفِيَّةِ الْهُرُوبِ؛ الْأَوَّلُ: كَانَ سَيِّدِي قَدِ اسْتَعَانَ بِنَجَّارٍ لِإِصْلَاحِ قَارِبِ الصَّيْدِ، فَأَصْبَحَ حِينَئِذٍ أَكْثَرَ اسْتِعْدَادًا لِخَوْضِ الْبِحَارِ فِي رِحْلَاتٍ أَطْوَلَ.
وَجَالَتْ بِخَاطِرِي الْفِكْرَةُ: «إِنَّ الْقَارِبَ الْجَدِيدَ مَتِينٌ، وَيُمْكِنُنِي الِابْتِعَادُ عَلَى مَتْنِهِ عَنْ مِينَاءِ سلا إِذَا أُتِيحَتْ لِيَ الْفُرْصَةُ!» يَا لَلْحَظِّ الْحَسَنِ الَّذِي جَعَلَ حَادِثَتَنَا تُخِيفُ سَيِّدِي!
بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأُسْبُوعِ نَفْسِهِ، خَطَّطَ سَيِّدِي لِإِقَامَةِ أُمْسِيَّةٍ مُمْتِعَةٍ عَلَى الْقَارِبِ لِبَعْضِ الْأَصْدِقَاءِ، وَكَانَ هَذَا هُوَ الْأَمْرَ الثَّانِيَ الَّذِي تَصَادَفَ وُقُوعُهُ لِمُسَاعَدَتِي فِي الْهَرَبِ. وَأَمَرَنِي بِتَخْزِينِ كَمِّيَّاتٍ مِنَ الْمُؤَنِ، وَكَذَلِكَ كَانَ عَلَيَّ تَلْمِيعُ الْقَارِبِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ، وَتَزْيِينُهُ مِنْ أَجْلِ الْحَفْلِ.
وَفِي الْيَوْمِ اللَّاحِقِ، وَقَبْلَ عَشْرِ دَقَائِقَ فَقَطْ مِنَ الْمَوْعِدِ الْمُحَدَّدِ لِمُغَادَرَتِنَا، جَاءَ السَّيِّدُ وَصَعِدَ إِلَى الْمَرْكَبِ بِخُطُوَاتٍ ثَقِيلَةٍ. وَكَانَ غَاضِبًا! وَبَدَا لِي أَنَّ أَصْدِقَاءَهُ عَزَفُوا عَنْ قَضَاءِ الْيَوْمِ فِي الْبَحْرِ، فَأَمَرَنِي بِاصْطِحَابِ إِسْمَاعِيلَ وقَصُوري، وَهُوَ عَبْدٌ آخَرُ، لِلصَّيْدِ. فَحَتَّى لَوْ لَمْ يَذْهَبُوا لِلْبَحْرِ، فَلَا يَزَالُ السَّيِّدُ يُرِيدُ أَنْ يُطْعِمَ أَصْدِقَاءَهُ سَمَكًا طَازَجًا فِي الْعَشَاءِ الْخَاصِّ.
فَكَّرْتُ بِحَمَاسٍ: «تِلْكَ هِيَ فُرْصَتِي! يُمْكِنُنِي الْهَرَبُ!» لَكِنْ كَيْفَ؟ أَقْنَعْتُ إِسْمَاعِيلَ أَنَّنَا يَجِبُ أَلَّا نَأْكُلَ طَعَامَ السَّيِّدِ، لِذَا اخْتَزَنَ فِي الْقَارِبِ مُؤَنًا أَكْثَرَ.
وَبَيْنَمَا كَانَ هُوَ بَعِيدًا يُعِدُّ لَنَا الْأَغْرَاضَ، أَسْرَعْتُ فِي إِحْضَارِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الْأُخْرَى الَّتِي قَدْ نَحْتَاجُ إِلَيْهَا: شُمُوعٍ وَمِنْشَارٍ وَمِطْرَقَةٍ وَبَعْضِ خُيُوطِ القُنَّبِ وَفَأْسٍ.
وَبَعْدَهَا، تَحَايَلْتُ عَلَى قَصُوري لِيَجِدَ لَنَا بَعْضَ الْبَارُودِ، فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّنَا يُمْكِنُنَا صَيْدُ بَعْضِ الطُّيُورِ الْبَرِّيَّةِ لِنَتَعَشَّى بِهَا. فَقَالَ لِي مُبْتَسِمًا: «نَعَمْ، يَا لَهَا مِنْ فِكْرَةٍ رَائِعَةٍ بِالْفِعْلِ!»
وَبَعْدَ بِضْعِ دَقَائِقَ، كُنَّا مُسْتَعِدِّينَ، وَأَبْحَرَ ثَلَاثَتُنَا بِاتِّجَاهِ الْمِينَاءِ. وَتَغَلَّبْنَا عَلَى الصِّعَابِ لِفَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ، وَبَعْدَهَا نَكَّسْنَا أَشْرِعَتَنَا لِلصَّيْدِ. فِي هَذَا الْيَوْمِ، كُانَتِ الرِّيَاحُ تَهُبُّ مِنْ جِهَةِ الشَّمَالِ وَالشَّمَالِ الشَّرْقِيِّ، وَكُنْتُ أَرْجُو أَنْ تَأْتِيَ الرِّيَاحُ مِنَ الْجَنُوبِ؛ فَبِهَا، يُمْكِنُنِي الْإِبْحَارُ إِلَى إِسْبَانْيَا، لَكِنَّنِي لَمْ أَقْنَطْ؛ فَأَيُّ رِيَاحٍ كَانَتْ سَتَحْمِلُنِي بَعِيدًا عَنْ سِجْنِيَ الَّذِي أَقْبَعُ فِيهِ عَلَى هَذِهِ الْأَرَاضِي، فَكُنْتُ فَرِحًا لِمُجَرَّدِ التَّفْكِيرِ فِي الْهُرُوبِ إِلَى الْحُرِّيَّةِ.
وَكَانَ الْهُرُوبُ إِمَّا أَنْ يَحْدُثَ حِينَهَا أَوْ لَا يَحْدُثَ أَبَدًا.
قُلْتُ: «إِسْمَاعِيلُ، إِنَّ الْمِيَاهَ أَصْبَحَتْ بَارِدَةً هُنَا، فَأَنَا لَا أَصْطَادُ أَيَّ شَيْءٍ، دَعْنَا نُبْحِرُ أَبْعَدَ قَلِيلًا.»
أَوْمَأَ بِرَأْسِهِ مُوَافِقًا وَرَفَعَ الْأَشْرِعَةَ، وَسِرْنَا فَرْسَخًا آخَرَ فِي دَاخِلِ الْبَحْرِ. وَقَبْلَ أَنْ يُسْقِطَ الْمِرْسَاةَ مُبَاشَرَةً، اقْتَرَبْتُ مِنْهُ مِنَ الْخَلْفِ وَقَذَفْتُ بِهِ مِنْ فَوْقِ سَطْحِ الْمَرْكَبِ. فَصَرَخَ إِسْمَاعِيلُ وَصَاحَ: «دَعْنِي أَعُودُ إِلَى سَطْحِ الْمَرْكَبِ! مَاذَا تَفْعَلُ يَا روبنسون؟ سَوْفَ تَتَسَبَّبُ بِمَقْتَلِكَ!»
فَأَجَبْتُهُ صَائِحًا: «أَنْتَ سَبَّاحٌ مَاهِرٌ. عُدْ إِلَى الشَّاطِئِ يَا إِسْمَاعِيلُ، أَمَّا أَنَا فَسَأَهْرُبُ، وَلَا سَبِيلَ أَمَامَكَ لِإِيقَافِي!» فَأَوْمَأَ بِرَأْسِهِ، وَقَبِلَ مَصِيرَهُ، وَبَدَأَ يَسْبَحُ.
وَقَفَ قَصُوري عَلَى سَطْحِ الْمَرْكَبِ مُرْتَعِشًا، فَكَانَ خَائِفًا مِنْ أَنْ أَقْذِفَهُ مِنْ عَلَى سَطْحِ الْمَرْكَبِ هُوَ الْآخَرَ.
– «قَصُوري، لَا بُدَّ أَنْ تُقْسِمَ عَلَى مُسَاعَدَتِي، وَإِلَّا سَتَلْحَقُ بِإِسْمَاعِيلَ فِي الْبَحْرِ!» لَمْ يَكُنْ بِمَقْدُورِ قَصُوري أَنْ يَسْبَحَ بِهَذِهِ الْمَهَارَةِ، لِذَا قَبِلَ بِشُرُوطِي عَلَى الْفَوْرِ.
عَلَى مَدَى السَّاعَاتِ الْقَلِيلَةِ اللَّاحِقَةِ، أَبْحَرْتُ بِاتِّجَاهِ مَضِيقِ جَبَلِ طَارِقٍ، فَحَتْمًا سَيُخْبِرُ إِسْمَاعِيلُ سَيِّدَنَا أَيَّ اتِّجَاهٍ سَلَكْنَا؛ لِذَا أَرَدْتُهُ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّنِي ذَاهِبٌ إِلَى السَّاحِلِ الْإِسْبَانِيِّ، وَبِمُجَرَّدِ هُبُوطِ الْغَسَقِ، رَجَعْتُ بِالْقَارِبِ، فَكَانَ اتِّجَاهُنَا الْجَدِيدُ صَوْبَ الْجَنُوبِ. وَكَانَتْ مِنْطَقَةً مُخِيفَةً وَمَجْهُولَةً، لَكِنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ أَنْ يُدْرِكَنَا أَحَدٌ، وَلَمْ أُرِدْ أَبَدًا أَنْ أَعُودَ لِلْعُبُودِيَّةِ مِنْ جَدِيدٍ.