السَّفِينَةُ الْإِنْجِلِيزِيَّةُ
مَرَّتْ عَشْرَةُ أَيَّامٍ أُخْرَى قَبْلَ أَنْ نُصَادِفَ إِنْسَانًا غَيْرَنَا. أما عمن قَابَلْنَا مِنَ النَّاسِ بَعْدَئِذٍ، فَكَانُوا وَدُودِينَ وَمُتَعَاوِنِينَ، وَكَانُوا يَرْتَدُونَ الْقَلِيلَ مِنَ الْمَلَابِسِ وَلَا يَتَكَلَّمُونَ بِنَفْسِ لُغَتِنَا، لَكِنَّهُمْ كَانُوا فِي غَايَةِ الْكَرَمِ؛ فَأَعْطَوْنَا الْغِذَاءَ وَالْمَاءَ مَعَ أَنَّنَا لَمْ نَمْلِكْ شَيْئًا لِنُعْطِيَهُمْ إِيَّاهُ فِي الْمُقَابِلِ.
وَمَعَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الغُرَبَاءَ كَانُوا فِي غَايَةِ اللُّطْفِ، كُنَا لَا نَزَالُ بِحَاجَةٍ إِلَى إِيجَادِ سَفِينَةٍ إِنْجِلِيزِيَّةٍ؛ فَقَارِبُنَا الصَّغِيرُ لَمْ يَكُنْ مُعَدًّا لِيَحْتَمِلَ كُلَّ هَذَا الْإِبْحَارِ، وَكَانَتْ فُرْصَتُنَا الْوَحِيدَةُ لِلنَّجَاةِ هِيَ أَنْ يُنْقِذَنَا أَحَدٌ. لَمْ أُخْبِرْ قَصُوري بِقَلَقِي عَلَيْنَا بِشَأْنِ اجْتِيَازِ هَذِهِ الْمِحْنَةِ؛ فَلَمْ أُرِدْ لَهُ الْخَوْفَ أَوِ الْإِحْبَاطِ.
ظَلَلْنَا نُبْحِرُ، وَمَرَّ أُسْبُوعٌ آخَرُ، وَأَخِيرًا مَرَرْنَا عَلَى بَعْضِ الْعَلَامَاتِ الَّتِي تَعَرَّفْتُ عَلَيْهَا. فَعَلَى مَسَافَةِ مَا يَقْرُبُ مِنْ ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ مِنَ السَّاحِلِ، تَمَكَّنْتُ مِنْ رُؤْيَةِ جُزُرِ الرَّأْسِ الأَخْضَرِ، فَأَطْلَقْتُ صَيْحَةَ فَرَحٍ!
سَأَلَنِي قَصُوري: «مَاذَا هُنَالِكَ يَا روبنسون؟»
أَشَرْتُ عَبْرَ الْمَنَاظِرِ الطَّبِيعِيَّةِ وَقُلْتُ لَهُ: «هَلْ ترى هَذِهِ الْجُزُرَ؟ مِنْ هُنَا سَنَصِلُ إِلَى إِنْجِلْتِرَا! أَصْبَحْنَا فِي أَمَانٍ، لَقَدْ نَجَوْنَا يَا قَصُوري! نَجَوْنَا!»
سَرِيعًا مَا تَحَوَّلَتِ ابْتِسَامَتِي إِلَى عُبُوُسٍ عِنْدَمَا أَمْعَنْتُ التَّفْكِيرَ فِي مَوْقِفِنَا، فَإِذَا انْطَلَقْنَا عَبْرَ الْبَحْرِ الْمُمْتَدِّ وَعَلِقْنَا فِي رِيَاحٍ مُعَاكِسَةٍ، سَنَنْجَرِفُ وَلَنْ يَبْقَى لَنَا أَيُّ أَثَرٍ. فَذَهَبْتُ لِلدَّاخِلِ لِلْجُلُوسِ فِي حُجَيْرَتِي الصَّغِيرَةِ — حُجَيْرَةِ الْقُبْطَانِ — لِلتَّفْكِيرِ فِي الْخَيَارَاتِ الْمُتَاحَةِ أَمَامَنَا.
سَمِعْتُ قَصُوري يُنَادِينِي مِنَ الْخَارِجِ: «يَا روبنسون! أَرَى سَفِينَةً! أَرَى سَفِينَةً!»
وَكَانَتْ حَقِيقَةً، هُنَاكَ سَفِينَةٌ! وَبَدَتْ بُرْتُغَالِيَّةً. أَخَذْتُ الْمِنْظَارَ وَبَدَأْتُ أَنْظُرُ بِتَمَعُّنٍ لِأَرَى إِذَا كَانَتْ مُتَّجِهَةً إِلَى الشَّاطِئِ. يَا لَلْخَسَارَةِ، لَمْ نَكُنْ مَحْظُوظَيْنِ بِمَا يَكْفِي، فَالسَّفِينَةُ كَانَتْ تُبْحِرُ بَعِيدًا عَنَّا.
فَجَالَ فِي خَاطِرِي: «أَوَّاهُ، لَا! لَنْ أَدَعَهُمْ يَذْهَبُونَ دُونَ أَنْ أُحَاوِلَ عَلَى الْأَقَلِّ أَنْ أَجْذِبَ انْتِبَاهَهُمْ.»
قُلْتُ صَائِحًا: «هَيَّا، يَا قَصُوري! دَعْنَا نُحَاوِلُ وَنَلْحَقُ بِهِمْ.» وَرَفَعْنَا أَكْبَرَ قَدْرٍ مِنَ الْأَشْرِعَةِ يُمْكِنُ لِمَرْكَبِنَا الصَّغِيرِ أَنْ يَتَحَمَّلَهُ بِهِ، وَلَاحَقْنَا السَّفِينَةَ بِأَكْبَرِ سُرْعَةٍ مُمْكِنَةٍ، لَكِنْ سَرِيعًا مَا اتَّضَحَ أَنَّنَا لَنْ نَلْحَقَ بِهِمْ أَبَدًا.
وَتَسَاءَلَ قَصُوري: «مَاذَا نَفْعَلُ الْآنَ، يَا روبنسون؟»
قُلْتُ: «الْبَنَادِقُ! عَلَيْنَا أَنْ نُطْلِقَ النَّارَ مِنَ الْبَنَادِقِ وَنَأْمُلُ أَنْ يَسْمَعُونَا!»
هُرِعَ كُلٌّ مِنَّا إِلَى بَنَادِقِنَا وَبَدَأْنَا فِي إِطْلَاقِ النَّارِ، وَتَمَنَّيْتُ وَدَعَوْتُ أَنْ تَسْمَعَ السَّفِينَةُ الْأُخْرَى إِشَارَةَ الِاسْتِغَاثَةِ.
لَمْلَمَتِ السَّفِينَةُ الْأُخْرَى أَشْرِعَتَهَا وَأَبْطَأَتِ السَّيْرَ! فَابْتَسَمْتُ ابْتِسَامَةً عَرِيضَةً لِقَصُوري وَقُلْتُ: «لَقَدْ سَمِعُوا طَلَقَاتِنَا! سَوْفَ يَنْتَظِرُونَنَا. هَيَّا بِنَا، لِنَذْهَبْ!»
اسْتَغْرَقْنَا ثَلَاثَ سَاعَاتٍ لِنَلْحَقَ بِهِمْ، وَعِنْدَمَا وَصَلْنَا بِمُحَاذَاتِهِمْ، صَاحَ الرِّجَالُ مِنْ عَلَى سَطْحِ سَفِينَتِهِمْ يُكَلِّمُونَنَا بِلُغَاتٍ عَدِيدَةٍ مُخْتَلِفَةٍ؛ أَوَّلًا حَاوَلَوا بِالْبُرْتُغَالِيَّةِ، وَبعْدَهَا الْإِسْبَانِيَّةِ، ثُمَّ الْفَرَنْسِيَّةِ، لَكِنَّنَا لَمْ نَسْتَطِعْ فَهْمَ أَيٍّ مِنْهَا، وَأَخِيرًا تَكَلَّمَ بَحَّارٌ اسْكُتْلَنْدِيٌّ مِنْ عَلَى سَفِينَتِهِمْ صَائِحًا: «مَنْ أَنْتُمْ؟ وَمَاذَا حَدَثَ؟»
شَرَحْتُ لَهُ أَنَّنِي كُنْتُ بَحَّارًا إِنْجِلِيزِيًّا وَأَسَرَنِيَ الْقَرَاصِنَةُ، وَقُلْتُ لَهُ إِنَّنِي قَضَيْتُ السَّنَوَاتِ الْقَلِيلَةَ الْمَاضِيَةَ فِي الْأَسْرِ كَعَبْدٍ، وَانْبَهَرَ الْبَحَّارَةُ مِنْ تَمَكُّنِنَا مِنَ الْهَرَبِ، فَأَخَذُونِي أَنَا وَقَصُوري عَلَى سَطْحِ سَفِينَتِهِمْ، وَأَخِيرًا نَجَوْنَا!
كَانَ قُبْطَانُ السَّفِينَةِ طَيِّبًا جِدًّا، فَعِنْدَمَا عَرَضْتُ عَلَيْهِ كُلَّ مَا أَمْلِكُ مِنْ أَشْيَاءَ مُقَابِلَ رِحْلَةٍ آمِنَةٍ إِلَى الْبَرَازِيلِ، ابْتَسَمَ وَقَالَ: «سَآخُذُكُمْ مَعِي إِلَى الْبَرَازِيلِ، وَلَا دَاعِيَ لِدَفْعِ مُقَابِلٍ.»
شَكَرْتُهُ عَلَى طِيبَتِهِ، وَكَانَ الْقُبْطَانُ كَذَلِكَ رَحِيمًا جِدًّا مَعَ قَصُوري وَأَعْطَاهُ فِي الْحَالِ وَظِيفَةَ بَحَّارٍ عَلَى السَّفِينَةِ، مِمَّا أَسْعَدَ قَصُوري أَيَّمَا سَعَادَةٍ. وَعِنْدَمَا ظَنَنْتُ أَنَّ رَحْمَتَهُ لَنْ تَتَّسِعَ لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، عَرَضَ عَلَيْنَا شِرَاءَ مَرْكَبِنَا الصَّغِيرِ! فَوَافَقْتُ عَلَى عَرْضِهِ فِي الْحَالِ، وَإِضَافَةً إِلَى الْمَرْكَبِ، اشْتَرَى بَعْضَ عَتَادِنَا الْآخَرَ أَيْضًا.
حَظِينَا بِرِحْلَةٍ آمِنَةٍ وَسَعِيدَةٍ إِلَى الْبَرَازِيلِ، وَحَصَلْتُ عَلَى الْمَالِ مِنَ الْقُبْطَانِ الطَّيِّبِ، مِمَّا يَعْنِي أَنَّنِي لَمْ أَكْنُ مُفْلِسًا تَمَامًا عَلَى أَرْضٍ غَرِيبَةٍ لَمْ تَطَأْهَا قَدَمَايَ مِنْ قَبْلُ. وَأَقَمْتُ مَعَ أَحَدِ أَصْدِقَاءِ الْقُبْطَانِ، وَكَانَ يَمْتِلْكُ وَيُدِيرُ مَزْرَعَةً كَبِيرَةً لِلسُّكَّرِ، وَبَدَا عَمَلُ زِرَاعَةِ السُّكَّرِ شَائِقًا فِي رَأْيِي؛ لِذَا حَاوَلْتُ التَّعَلُّمَ قَدْرَ مَا اسْتَطَعْتُ.
اسْتَهْوَتْنِي حَيَاةُ الزِّرَاعَةِ، وَبِالْمَالِ الَّذِي أَخَذْتُهُ مِنَ الْقُبْطَانِ الطَّيِّبِ، اشْتَرَيْتُ قِطْعَةَ أَرْضٍ كَبِيرَةً وَجَيِّدَةً، وَخَطَّطْتُ لِإِقَامَةِ مَزْرَعَةِ سُكَّرٍ مِثْلِ الْمَزْرَعَةِ حَيْثُ كُنْتُ أُقِيمُ. وَكَانَتْ فُرَصِي عَظِيمَةً فِي الْبَرَازِيلِ، لَكِنْ لِكَيْ أَبْقَى كُنْتُ أَحْتَاجُ لِخَطَابِ تَجْنِيسٍ، وَكَمَا عَرَفْتُ لَمْ يَكُنْ الْحُصُولُ عَلَيْهِ عَسِيرًا.