خاتمة
إنْ كان بمقدوري أن أُشبِّه العلاقةَ بين المناقشات والحُجج وفهمها بالعلاقة بين أنواع الطعام المتعددة والأذواق والرغبات المختلفة — بحيث إن ما يراه البعضُ كريهًا وضارًّا يراه البعض الآخَر لذيذًا ونافعًا — فلا بد ألَّا أفكِّرَ في الكتب والبحث مرةً ثانيةً، وحريٌّ بي أن أفكِّر في قضاء وقتي في لعبة مثل لعبة القبعة والدبابيس بدلًا من القراءة أو الكتابة. لكني على قناعة بالعكس؛ بأنني أعلمُ بوجود حقيقة عكس الزيف، وهي أمرٌ ربما يمكن للإنسان الوصول إليه إذا أرادَ، وأمر يستحق بالفعل أن يُسعى في طلبه، وهي ليست أثمن شيء في العالم فحسب، وإنما هي أيضًا أكثر الأشياء بهجةً (مراسلات جون لوك).
إن فكرة أنَّ الوصول إلى الحقيقة أمرٌ لا علاقةَ له برغبات الإنسان وأذواقه، وأن جزءًا منه على الأقل في متناول فهم الإنسان؛ قناعة بسيطة ومنتشرة، بَيْدَ أنها ليست بالقناعة التي من السهل تفسيرها وتبريرها بأي قدر من العُمق. ويرى لوك أن مهمة الفيلسوف أن يقدِّم مثل هذا التفسير والحُجة، وكثيرون من الفلاسفة المُحدثين يساورهم الشك فيما إذا كان من الممكن بناء أيٍّ من هذه الحُجج أم لا. وحتى بين الذين يؤمنون بإمكانية ذلك، قليلون هم مَنْ يرون أن محاولة لوك أحرزت نجاحًا استثنائيًّا.
ما من سبب للجدل حول هذا الرأي؛ فما يميِّز لوك اليومَ عن الأغلبية العظمى من الفلاسفة ليس قوةَ حُجةِ نقاشاته بوجهٍ عام، وإنَّما بالأحرى فهمُه العميق لتأثير الفلسفة في أن يكون لدى الإنسان سبب وجيه ليعيش حياته. إذا كانت الحقيقة في النهاية تعتمد على رغبة الإنسان، وإذا لم تكن لدى الإنسان غايةٌ إلا رغباته، فإن الحياة إذن، التي كان لوك نفسه يحياها، هي ممارسةٌ هزليةٌ لإنكار الذات. وبعد مرور ما يقرب من ثلاثة قرون، لا يزال من المحتمَل أن ينطبق هذا الرأي نفسه على العديد من جوانب حياتنا؛ ففكرة أن الحُكم على منطقية حياتنا من عدمها ربما يعتمد على مشاورات أقسام الفلسفة بالجامعات، هي فكرةٌ تبدو للوهلة الأولى هزليةً بعض الشيء، لكن هذه المزحة تنقلب علينا في النهاية حسبما يرى لوك؛ فحالما نفقد الضمانة الدينية بأن العقل الذي هو «نبراس الرَّب»، يعمل على نحوٍ فعَّالٍ بما يتفق مع جميع مقاصدنا، فما لدينا من سبب قاطع بعد ذلك لأنْ نتوقَّع أن يعمل العقل على نحوٍ فعَّال بما يتفق مع أي مقصد. وبمجرد أنْ نصير غير قادرين على رؤية مقاصدنا كما كُلِّفنا بها على نحوٍ جازمٍ من خارج ذواتنا، يصير من الصعب للغاية أن نحدِّد المقاصدَ التي لدينا سببٌ وجيهٌ للتفكير فيها باعتبارها مقاصدنا الخاصة (أو كي نجعلها كذلك).
وفي مواجهة هذين الخطرين المتمثِّلين في تذبذُب إيمان الإنسان بأبديته، وغموض الكيفية التي يمكن أن يوجد بها سبب وجيه لدى الإنسان ليعيش حياته، تُقدِّم لنا فلسفةُ لوك قدرًا أكبر من التنوير فيما يخصُّ القضيةَ الأولى عن الثانية. ليس هذا بالطبع ما كنَّا نتمناه، لكنه أمر من السهل تفسيره؛ فمن غير المستغرب أن كثيرين من الفلاسفة اليومَ يشاركونه اعتقادَه في أن الحقائق المتعلِّقة بالطبيعة وبالاختراعات المعقَّدة للعقل البشري مثل الرياضيات والمنطق، لا علاقةَ لها برغبة الإنسان؛ لكن لوك يرى أن الحقائق المحورية بشأن الكيفية التي يكون بها لدى الإنسان سببٌ وجيهٌ ليعيش حياته، تكون منفصلةً عمَّا يرغب فيه الإنسانُ عن وعي في وقت معين، وقليلون هم مَنْ يشاركونه هذا المعتقد اليومَ بأي قدر من الثقة؛ وربما لا توجد فكرةٌ اليومَ عن كيفية الدفاع عنه. لكن لا يزال البعض يعيشون (وعدد أكبر منهم يحاولون على نحوٍ متقطِّعٍ العيشَ) كما لو كان هذا المعتقد حقيقيًّا في الواقع، ووفقًا لما قاله كولريدج، ذلك الناقد الشرس لأخلاقيات لوك، منذ قرن وثلاثة أرباع قرن: «الجميع تقريبًا في الوقت الحاضر يتصرَّفون ويشعرون على نحوٍ أكثر نبلًا ممَّا يظنون.»
إنَّ الرأي القائل بأن لعبة القبعة والدبابيس (وهي لعبة كانت منتشرةً منذ القرن السادس عشر وحتى القرن التاسع عشر) مفيدةٌ مثل الشِّعر، ما دام الإنسان يستمتع بها؛ هو شعارُ أكثرِ النظريات الحديثة تأثيرًا فيما يتعلَّق بنفع البشر وصالحهم؛ أَلَا وهي نظرية النفعية لجيرمي بنثام؛ وما دفع لوك إلى رفضها ليس الزعمَ ذا النزعة النفعية المماثلة (وغير المقنِع إلى حدٍّ كبير) بأن الحقيقة هي أكثر شيء ممتع في العالم، وإنما القناعة الأهم بأن الحقيقة تختلف عن الزيف، وأنها يمكن الوصول إليها، وأنها تستحق السعي وراءها، وأنها عند الوصول إليها سوف تخبر الإنسانَ بكل وضوحٍ الكيفيةَ التي ينبغي أن يعيش وفقًا لها. كانت هذه هي القناعة التي وضع لوك ثقتَه فيها، وعاش حياته مدافعًا عنها، وبسببها لا يزال يقدِّم لنا عَبرَ القرون القدوةَ في الشجاعة الفكرية الدائمة. وربما جانَبَه الصوابُ كثيرًا عندما وثق فيها، وإنْ كان الأمر كذلك، فلا يمكننا الاعتماد على تفكيره لحسم جدالاتنا، لكنَّ الشيء الأكيد أننا أيضًا في أمَسِّ الحاجة إلى هذه الشجاعة الفكرية في كل منحًى من مناحي حياتنا مثله تمامًا.