حياته
وُلِد جون لوك في قرية سومرست في صيف عام ١٦٣٢، ووافَتْه المنية في المنزل الريفي لأصدقائه آل ماشام في أوتس بمدينة إسكس، في أواخر أكتوبر عام ١٧٠٤. وحتى منتصف العقد الرابع من عمره، عاش لوك حياة عادية للغاية، على الأقل كما بَدَا من مظاهرها الخارجية؛ لكن على مدار أكثر من ثلاثة عقود، بدءًا من عام ١٦٦٧، انخرَطَ عن كثب في تقلُّبات السياسة الداخلية الإنجليزية، وإذا به في أواخر الخمسينيات من عمره يصبح — على حين غرة ولأول مرة — رجلًا ذائع الصيت للغاية. ومنذ ذلك الحين فصاعدًا، كان كلُّ مراسليه تقريبًا يصفونه دون سخرية — مع الليدي ماري كالفرلي — بأنه ببساطة «أعظم رجل في العالم» (مراسلات جون لوك، المجلد الرابع). وعندما حان الوقت أخيرًا ليصير مشهورًا، ذاع صيته بوصفه فيلسوفًا، بدءًا من لحظة نشر مؤلَّفاته، ولا سيَّما عمله الرائع الصادر عام ١٦٨٩ تحت عنوان «مقال في الفهم البشري»، واستمرت هذه الشهرة — دون انقطاع — إلى يومنا هذا.
ببلوغه سن الأربعين، كان لوك قد ابتعد كثيرًا عن أصوله السومرستية؛ ومن المؤكَّد أن الفجوة الاجتماعية بينه وبين سائر أفراد عائلته أخذت تتسع باطرادٍ بعضَ الشيء بقيةَ حياته، لكن في بعض النواحي الجوهرية من حياته، ظلَّ ما اكتسبه خلال تنشئته الأولى (بغضِّ النظر عن النتيجة)، يؤثِّر على نحوٍ محوريٍّ في وجدانه وتوجُّهاته حتى يوم مماته. من النادر أن يتمكَّن المرءُ من تقييم آثار مستمرة كهذه بأي قدر من الثقة، لا سيما في حال رجل أو امرأة من القرن السابع عشر. لكن من مظاهر الغرابة في مزاج لوك إعراضه المُبالَغ فيه عن إلقاء أي ورقة كان قد كتب عليها، ولمَّا انحدرت إلينا — لحُسْن الحظ الشديد — معظمُ الأوراق التي ظلت باقيةً حتى مماته، استطعنا في حقيقة الأمر أن نعرف عنه أكثر مما نعرف عن جميع معاصريه وأسلافه، خلا عددٍ قليل منهم. ويتضح من هذه المخطوطات الهائلة أن لوك اعتنق خلال مرحلة نضجه نمطًا وجدانيًّا بيوريتانيًّا عميقًا، وهو نمط يرسِّخ الإحساس بالواجب ويجعله محور حياة الفرد. لم يكن لوك شخصًا كئيبًا أو بائسًا على الإطلاق، لكنه ألزمَ نفسه — بقدرِ ما ألزَمَ الآخَرين — بمتطلَّبات صارمة للغاية؛ وكان شديد التزمُّت الأخلاقي في ردود أفعاله في حال عدم الوفاء بتلك المتطلبات. ولم يكن ثمة ما هو بيوريتانيٌّ في معظم آرائه الفلسفية التي جعلته خالدَ الذكر حتى يومنا، بل إنَّ كثيرًا منها كان سيشكِّل صدمةً لأيِّ بيوريتاني على قيد الحياة عام ١٦٣٢، إلا أن الهوية الشخصية التي أضفَتْ على فِكره ككلٍّ قدرًا من التكامُل والعُمق الإنساني تعكس ذاتًا بيوريتانية حتى النخاع.
كان كلٌّ من والِد لوك ووالِدته ينحدر من عائلتين تجاريتين بيوريتانيتين؛ فعائلة الأب تعمل في مجال بيع الأقمشة، وعائلة الأم تعمل في مجال الدباغة، ولم يكن دَخْل والِده كمحامٍ وموظَّف في «هيئة قضاة الصلح» بسومرست كبيرًا، وكان يمتلك بالإضافة إلى ذلك قطعةَ أرض؛ لم تكن تكفي في حد ذاتها كي تمكِّنه هو أو ابنه من أن يحيا حياة النبلاء، لكنها كانت كافيةً لأن يمنح الابن نفسه في سنواتٍ لاحقة ذلك اللقبَ المكتوب على صفحات عناوين أعظم أعماله. لم تكن هذه البيئة في حد ذاتها لتضمن لِلوك مستقبلًا واعِدًا، لكن إنْ كان أفراد عائلته من الدرجة الأولى محدودي الاهتمامات وغير طموحين إلى حدٍّ ما في مساعيهم الدنيوية، فقد كان لهم معارف أكثر نفوذًا ونجاحًا، وكان أبرزهم ألكسندر بوفام. حاربَ بوفام — مثل والِد لوك — كضابط في سلاح الفروسية التابع للبرلمان بسومرست في المراحل الأولى من الحرب الأهلية، ثم مضى في طريقه ليصير عضوًا في البرلمان عن منطقة وست كانتري، وشخصيةً بارزة في السياسة الداخلية. وفي عام ١٦٤٧، بوصفه عضوًا في البرلمان عن مدينة باث، كان في منزلةٍ تُمكِّنه من أن يقدِّم لوالِد لوك — الذي كان محاميَه وضابِطًا زميلًا له — الفرصةَ كي يُلحِقَ ابنه الأكبر بمدرسة وستمنستر. وفي السنوات اللاحقة، ظلَّ والِد لوك يأمل في الحصول على رعاية حلفائه السياسيين أصحاب النفوذ، لكن يبدو أن آماله دائمًا ما كانت تخيب، ربما فيما خلا انتقال ابنه المصيري من مدرسة وستمنستر إلى كلية «كنيسة المسيح» بأكسفورد؛ حيث يتجلَّى مجددًا أن وجود راعٍ من ذوي النفوذ أمرٌ لا غنَى عنه. لكن إن كان لوالِد لوك أثر محدود على العالم في مجمله، فمن الواضح أن هذا الرجل الصارم — والساخط إلى حدٍّ ما في المراحل الأخيرة من حياته — قد ترك أثرًا عميقًا في ابنه البارز؛ فقد علَّمه استقلاليةَ الروح وقوةَ الانضباط الذاتي، اللتين ساهمتَا في تشكيل حياة لوك بأكملها.
من الأيسر أن ندرس حياة لوك في ضوء ثلاث مراحل أساسية، كان لكلٍّ منها تأثيرُه في إقصاء لوك عن أصوله السومرستية. شهدت المرحلة الأولى انتقال لوك إلى وستمنستر، ومنها إلى كلية كنيسة المسيح، وفيها بلغت الضغوط على الموارد المالية لأسرته وتوقُّعاتهم المعقولة منه ذروتها. كان من الممكن أن تؤهِّله هذه المرحلة بسهولة لِشَغل وظيفة كهنوتية، سواء داخل الجامعة أم خارجها، تلك الوظيفة التي لم تكن تتطلَّب إلا قدرًا معقولًا من الثروة والحصافة، والتي ربما كانت ستتناسب تمامًا مع قدراته الفكرية. (كتبَ ابن عمه جون ستراتشي عنه يقول: «إنه رجل نابغة. دعُوه يتعلَّم دون إذعان، فلا حاجة له بالترقي» (مراسلات جون لوك، المجلد الأول).) لكن حتى بوصفه شابًّا لديه فرص محدودة؛ فمن الواضح أن لوك لم يكن يرضى بالإذعان؛ وعلى ما يبدو لم تستهوِه فكرةُ الوظيفة الكهنوتية مطلقًا، وكان ثمة احتمالٌ ثانٍ أقل إمكانيةً وأضيَق نطاقًا في تطبيقه، لكنه أيضًا أكثر ملاءمةً؛ وهو أن يصير طبيبًا. في الواقع، سعى لوك نحو هذا الاحتمال بشيءٍ من الحماس؛ حيث عكف على دراسة الطب دراسةً منهجيةً على مدى بضعة عقود، وقدَّمَ نصائح طبية مستفيضة للأصدقاء والمعارف، وعمل عن كثب مع واحد من الأطباء العظماء في القرن السابع عشر، وهو دكتور توماس سيدنهام، أحد روَّاد علاج الأمراض الوبائية، وكان منهج سيدنهام في دراسة الأمراض يتَّسِم على نحوٍ غير مألوف بالوعي الذاتي والمنهجية، ولعلَّ مفهومَ لوك حول الكيفية التي عرف بها الإنسانُ العالَمَ الطبيعي، قد تأثَّرَ بنفس القدر بهذا التعاوُن. وجديرٌ بالذكر أيضًا أن اهتماماته الطبية — وليست خبرته كفيلسوف أو عالِم لاهوت — هي التي منحته أكبر فرصة في حياته.
جاءت المرحلة الثانية عام ١٦٦٦؛ ففي هذا العام الْتَقَى لوك لأول مرة — عن طريق طبيب آخَر كان صديقًا له، وهو ديفيد توماس — باللورد أشلي، الذي سيصبح فيما بعدُ الإيرل الأول لشافتسبري، وهو إحدى الشخصيات السياسية البارزة في بلاط الملك تشارلز الثاني. جاء اللقاء بالمصادفة البحتة؛ فقد كان أشلي في زيارة لأكسفورد ليشرب من المياه المعدنية العلاجية في أستروب، لكن عواقب هذا اللقاء كانت على قدرٍ بالغ من الأهمية بالنسبة إلى لوك على الأقل؛ ففي غضون عام من هذا اللقاء الأول كان لوك قد انضمَّ إلى حاشية أشلي في لندن، ثم بعدها بعام — أيْ عام ١٦٦٨ — خضع أشلي، راعي لوك، لعملية جراحية كبيرة لاستئصال كيس متقيِّح على الكبد تحت إشراف لوك، ونجحت العملية على الرغم من صعوبتها البالغة. وعلى مدار الأربعة عشر عامًا التالية «تعلَّمَ الإذعان» لنزوات شافتسبري، وشارَكَ سيده أحواله المضطربة. كان الانتقال من عُزلة أكسفورد الهادئة والمضطربة أحيانًا خلال عصر «إعادة الملكية»، إلى حياة حاشية شافتسبري الثائرة؛ انتقالًا بالغ الأثر. لم يهجر لوك وظيفته في أكسفورد طواعيةً (ففي الواقع، طُرِد لوك من وظيفته بناءً على تعليماتٍ من الحكومة، بعد فراره إلى هولندا عام ١٦٨٣)، لكن جلَّ طاقاته وآماله ومخاوفه لبقية أيام حياته استقرت في منحًى آخَر؛ ومنذ ذلك الحين فصاعدًا، ارتبط علوُّ نجمه الشخصي وأفولُه بعلوِّ وأفولِ نجم سيده، وبعد وفاة شافتسبري عام ١٦٨٣، ارتبط بعلوِّ وأفولِ نجم التجمُّع السياسي الكبير الذي قاده.
في السنوات التي تخلَّلَتْ عامَيْ ١٦٦٧ و١٦٨٣ كان شافتسبري يمثِّل في مراحل مختلفةٍ الشخصيةَ السياسية الأكثر نفوذًا في بلاط تشارلز الثاني، وقائدَ إحدى المعارضات السياسية القومية لهذا البلاط، التي مثَّلَتْ في نهاية المطاف خطرًا عليه، بل ربما خطَّطت أيضًا لثورةٍ للإطاحة به. أثَّرَتْ كلٌّ من انتصاراته وإخفاقاته على نحوٍ بالغ في مخيِّلة لوك، وكان شافتسبري هو مَنْ علَّمه فهم المسئوليات الاقتصادية للدولة الإنجليزية في السوق المحلية وفي التجارة الخارجية، وكان هو مَنْ علَّمه أيضًا النظرَ إلى عوامل الازدهار الاقتصادي واحتمالاته، باعتبارهما موضعَ اهتمام رئيسيًّا لفن الحُكم وإدارة شئون الدولة، وعاملًا أساسيًّا في تقييم مؤهلات أيِّ مجتمعٍ وإمكاناته. ولو أن الآلية القاسية — والمفعمة بالحيوية في الوقت نفسه — للاقتصاد الإنجليزي في زمن لوك، قد سخَّرَتْ في النهاية طاقاتِ لوك الفكريةَ تسخيرًا سليمًا، فإن الفضل في ذلك يعود إلى شافتسبري؛ فثمة صلة مباشرة بين استمرار لوك في عمله في مجلس التجارة خلال الفترة التي كان فيها ضمن هيئة مستشاري شافتسبري عام ١٦٧٢، وبين عمله في لجنة الشئون التجارية أثناء حكومة ويليام في تسعينيات القرن السابع عشر. وبالمثل، ثمة صلة مباشِرة بين الفِكر الاقتصادي الذي استهلَّه في أول مؤلَّفاته الاقتصادية عام ١٦٦٨، وبين أعماله الرئيسية عن تنظيم سعر الفائدة، وعن استرداد العملة التي كتبها على سبيل إسداء النصح إلى حكومة ويليام. كما توجد صلة مباشِرة من حيث المحتوى — وإنْ لم يكن من حيث الدافع غالبًا — بين تعهُّد شافتسبري الراسخ بالتسامُح مع «المنشقِّين» ضد الأنجليكانية في عصر إعادة المَلكية، وبين حملة لوك النشطة التي قادها على المستويين العام والخاص في العقدين الأخيرين من حياته، وكانت تنادي بالتسامح وحرية الصحافة. وجليٌّ أيضًا الرابطُ بين إصرار شافتسبري المتأخر نوعًا ما أثناء «أزمة الإقصاء» المزعومة (الكفاح من أجل استبعاد جيمس — دوك يورك والأخ الكاثوليكي للملك تشارلز الثاني — من خلافة العرش) على الأساس النيابي للشرعية السياسية، وبين دفاع لوك الهائل في عمله «رسالتان في الحُكم» عن حقِّ الأفراد في ألَّا يُحكَموا إلا بالتراضي، وحقِّهم في التصدِّي للسلطة الجائرة ومناهضتها.
لا شك أن حجم هذا التأثير يرجع غالبًا إلى مجال الخبرة الذي انفتح عليه لوك جرَّاءَ عمله لدى شافتسبري، والرؤية العملية الجديدة تمامًا للحياة السياسية والاجتماعية التي أتاحتها له تلك الخبرة. لكن من الواضح أيضًا أن هذا التأثير كان شخصيًّا بدرجة كبيرة؛ فعلى مدار حياة لوك كان لديه العديد من الأصدقاء المقرَّبين، وعدد أكبر بكثيرٍ من الأصدقاء الذين رغم كونهم أقل قُربًا منه، فإنهم أيضًا كانوا رجالًا ونساءً ذوي نفوذ أو ثروة هائلَين أو شديدِي الذكاء للغاية؛ نبلاء سياسيين أمثال بيمبروك وسومرز، وعلماء أمثال روبرت بويل وإسحاق نيوتن، وعلماء لاهوت مثل ليمبورخ. ومع أن شافتسبري أحَبَّ لوك كثيرًا واحترمه كإنسان، فإنه كان بالطبع سيدًا بقدرِ ما كان صديقًا. ومع أنه كان جليًّا أن صداقتهما غير متكافئة، فإنها لم تكن قطُّ تفتقر إلى الطاقة الوجدانية؛ فعلى مدار الستة عشر عامًا تلك كان من الواضح أن شافتسبري — راعي لوك الأكبر — قد جعل منه رجلًا مختلفًا تمامًا.
تشكَّلَتْ حياة لوك في مرحلة النضج من شخصيتين مؤثرتين كوَّنَتَا معًا ثنائيًّا غريبًا؛ الأب غير البارع الذي يفشل فشلًا ذريعًا، ورجل البلاط اللامع غير الجدير بالثقة والمدهش إلى أبعد حدٍّ، الذي فشل فشلًا مريعًا في نهاية حياته، وهو ثنائي غريب لكنه كان مفيدًا إلى حدٍّ كبير؛ حيث ساعَدَ كلٌّ منهما على نحو رائع في تعويض النقائص الموجودة في مخيِّلة الآخَر: وساوِس الأب الكئيبة التي يتعذَّر محْوُها، وقوة شافتسبري ورعونته وعدم شعوره بالمسئولية. ومن واقع الصراع بين الشخصيتين — وبعد وفاة كليهما — تبلوَرَ الإطار الفِكري الاستثنائي لفلسفة لوك.
من المؤكَّد أن الانتقال إلى مرحلة الالتزام بالفهم الفلسفي، وهي ثالث مرحلة مؤثرة في حياة لوك، كان أكثر تدرُّجًا وأقل وضوحًا لغير المطَّلِعين بالمقارنة مع انتقاله إلى وستمنستر وأكسفورد، أو مع انضمامه إلى خدمة شافتسبري. ويعود انشغال لوك بالقضايا الفلسفية المتعلقة بالسلطة السياسية والتسامُح الديني، وتلك المتعلِّقة بعلم الأخلاق ونظرية المعرفة، إلى أواخر الخمسينيات من القرن السابع عشر على الأقل. وليس ثمة ما يدعو في حقيقة الأمر إلى افتراض أن لوك ما كان ليقدِّم هذا الكمَّ المستفيض من المؤلَّفات الفلسفية والفِكر الفلسفي لو كان دَخَلَ سلك الرهبنة ولم يلتقِ شافتسبري قطُّ وظلَّ في أكسفورد لبقية حياته؛ أو أنه ما كان لينجح قطُّ — إلى أن يصبح طاعنًا في السن ويصيبه المرض — في تحرير نفسه من المسئوليات السياسية والعامة التي أغرقَتْه فيها خدمةُ شافتسبري منذ البداية. لكنْ رغم استمرار الفلسفة والسياسة في تنافسهما على الاستحواذ على طاقاته واهتمامه منذ عام ١٦٦٧ وحتى قُبَيْل وفاته، فإن التوازن بينهما تحقَّقَ بدرجات متفاوتة للغاية في مختلف مراحل حياته.
تنشأ المعرفة الحقيقية في العالم عن طريق التجربة والملاحظة العقلانية في البداية، لكنَّ الإنسان الطموح الذي لا يكتفي بالمعرفة التي هو مؤهَّل لها، والتي كانت نافعةً له، سيحتاج إلى أن يتغلغل في الأسباب الكامنة وراء الأشياء، وأن يؤسِّس المبادئ، وأن يضع لنفسه مسلَّماتٍ وثوابتَ حول عمليات الطبيعة وآلياتها؛ ومن ثَمَّ يظن عبثًا أن الطبيعة — أو في الحقيقة الإله — ينبغي أن تسير طبقًا للقوانين الواردة في مسلَّماته وثوابته تلك.
كانت هذه الخلفية من البحث العلمي التجريبي هي ما تأثَّرَ به لوك أثناء قراءته للفيلسوفَين الأوروبيين العظيمين للثورة العلمية المبكرة؛ رينيه ديكارت وبيير جاسندي، اللذين أثَّرت آراؤهما فيه تأثيرًا عميقًا في أواخر الستينيات من القرن السابع عشر. كانت آراء لوك الناضجة أقرب في نواحٍ عدَّة وعلى نحو ملحوظ إلى آراء جاسندي منه إلى آراء ديكارت، لكن — كما أخبر الليدي ماشام — كانت آراء ديكارت هي أول ما جذبه بقوة إلى مجال الفلسفة، وإلى محاولة فهم ماهية المعرفة التي يكون الإنسان «مؤهَّلًا لها» على أُسُس دقيقة ومنهجية. كان عمله الصادر تحت عنوان «مقال في الفهم البشري» في حد ذاته، كما ذكر لوك في «رسالة إلى القارئ»، محاولةً ﻟ «اختبار قدراتنا، ومعرفة الأشياء التي كان فهمُنا مؤهَّلًا أو غير مؤهَّل للتعامُل معها.» وفي الحقيقة، لم يكن معظم المقال قد كُتِب حتى أواخر الثمانينيات من القرن السابع عشر، إلا أن ثمة مسوَّدات مطوَّلة حول كثير من الحجج الرئيسية كُتِبت في وقت مبكر من عام ١٦٧١ تقريبًا. وبالإضافة إلى هذه المسوَّدات الأولى للمقال، كتب لوك أيضًا أعمالًا أخرى مهمة في هذه الفترة؛ فقد كتب عام ١٦٦٨ مخطوطةً مطوَّلة حول عدم جدوى جهود الحكومة لتنظيم أسعار الفائدة، وكتبَ عام ١٦٦٧ مقالًا عن التسامح، تَغْلب عليه روحُ سياسات شافتسبري في هذا الصدد، ويتنافى على نحوٍ قاطعٍ مع آرائه الأكثر سلطويةً التي كان يعتنقها في مطلع الستينيات من القرن السابع عشر. بَيْدَ أنه في المُجمَل كان منهمكًا للغاية إبَّان هذه السنوات في الأعمال الإدارية لشئون شافتسبري العامة أو الخاصة، بوصفه صاحبَ مستعمرةٍ ومالِكَ أراضٍ عظيمًا ووزيرًا للملك، حتى إن تلك الأعمال لم تكن تَدَع له متَّسعًا من الوقت للاستغراق في عمل فلسفي ممتد. وبحلول عام ١٦٧٥، كانت خصومة شافتسبري لحكومة الملك تحت رئاسة دانبي قد بلغت حدَّ المعارَضة الصارمة، وكان لوك نفسه معتلَّ الصحة للغاية. وعلى مدار السنوات الثلاث والنصف التي أعقبت ذلك — وهي الفترة التي كان فيها شافتسبري معرَّضًا لخطر كبير — سافَرَ لوك إلى فرنسا، وكان ما ينشده من ذلك غالبًا هو مرافَقة كالب بانكس، وهو ابن أحد أغنى معاوني شافتسبري السياسيين. وخلال سفرياته التقى لوك العديدَ من الأطباء والعلماء ورجال اللاهوت الفرنسيين، وكوَّنَ صداقاتٍ حميمةً مع العديد منهم، كما ترجَمَ بعضًا من المقالات الأخلاقية لبيير نيكول الجنسيني، لكنه فيما يبدو لم يشرع في العمل على أيٍّ من مؤلَّفاته الأصلية الخاصة.
لكنه عاد إلى لندن في نهاية شهر أبريل عام ١٦٧٩، وشابَ حياتَه شيءٌ من الغموض خلال السنوات الأربع التي أعقبت ذلك، حتى أواخر صيف عام ١٦٨٣، عندما فرَّ هاربًا إلى روتردام. كان راعيه شافتسبري قد فقَدَ بالفعل نفوذَه السياسي في البلاط قُبَيْل الوقت الذي فرَّ فيه لوك إلى فرنسا عام ١٦٧٥. وحتى في تلك اللحظة، لم تكن خدمات لوك له «في مكتبته وحجرته الخاصة» تقتصر على «شئون وزير الدولة»؛ فقد كتبَ لوك، على سبيل المثال، خلال هذه الفترة مسوَّدةَ منشورٍ عام ١٦٧٥، تحت عنوان «خطاب من شخص رفيع الشأن إلى صديقه في البلاد»، الذي يعرض برنامج معارضة شافتسبري، وحاز هذا المنشور مكانةً مميَّزة بحرقه على يد منفِّذ حكم الإعدام العلني بالمُدانين. وبحلول عام ١٦٧٩ اشتدت معارضةُ شافتسبري لسياسات حكومة تشارلز الثاني، وخلال السنوات الأربع التالية لذلك، في خضم «أزمة الإقصاء»، نظَّمَ حركةً سياسية وطنية ضد الملك وقادها. رَمَتْ هذه الحركة إلى تعزيز القيود الدستورية على السلطة الملكية، وحماية حقوق مجلس العموم المُنتخَب، وإقصاء جيمس، الأخ الكاثوليكي لتشارلز الثاني، من خلافة العرش. كان هذا كفاحًا مريرًا وخطيرًا، يصعب فيه دائمًا تمييزُ الخط الفاصل بين ممارسة الحقوق السياسية المُعترَف بها قانونًا، وبين ارتكاب الخيانة العُظمى؛ لكن لم يكن هناك أدنى شك في رغبة تشارلز العارمة في رسم هذا الخط في أول مرحلة ممكنة. وبحلول عام ١٦٨٢، إنْ لم يكن قبل ذلك، كان شافتسبري نفسه وَلوك وَألجرنون سيدني وَلورد ويليام راسل وَإيرل مدينة إسكس يقامرون بحياتهم. نجح شافتسبري في خضم تلك الأحداث، على أقل تقدير، أن يُولِّيَ دُبُرَه إلى هولندا؛ حيث سرعان ما وافته المنية هناك. لكن في شهر يونيو من عام ١٦٨٣، بعد فشل «مؤامرة راي هاوس» في اختطاف تشارلز وجيمس في طريق عودتهما من سباقات نيوماركت، أُلقِي القبض على كلٍّ من سيدني وراسل وإسكس، بعدها انتحر إسكس في برج لندن، فيما أُعدم راسل وسيدني شنقًا. كان من ضمن الاتهامات التي وُجِّهت ضد سيدني أثناء محاكمته كتابةُ مخطوطات تحريضية؛ فقد شنَّ سيدني هجومًا مطوَّلًا على كتاب السير روبرت فيلمر المغالي في تأييد الحُكم الملكي بعنوان «السلطة الأبوية» (الذي يدافع فيه عن الحقوق الإلهية للملك)، ذلك العمل الهجومي الذي نُشِر لاحقًا بعد إعدام سيدني، بعنوان «محادثات عن الحكومة»؛ وبالطبع كان لوك أيضًا يخضع لرقابة شديدة من قِبَل الحكومة في أواخر صيف عام ١٦٨٣، مع أنه لم يكن غالبًا بالشخصية التي تحظى بالأهمية السياسية التي تضاهي أهمية كلٍّ من إسكس أو راسل أو حتى سيدني، لكن من المؤكَّد أيضًا — كما يتَّضِح الآن على ما يبدو — أنه كانت بحوزته في ذلك الحين مخطوطةٌ تحريضية للغاية، وهي «رسالتان في الحُكم»، هاجَمَ فيها النظريات السياسية لفيلمر، وقد أيَّدَتْ صراحةً حقَّ الشعب في الثورة ضد الملك حتى لو كان ملكًا شرعيًّا، متى أساءَ هذا الملك استخدامَ سلطاته على نحو سافِرٍ. وكما اتضح، تمكَّنَ لوك من الهروب إلى هولندا في سبتمبر عام ١٦٨٣؛ ومع أن مِنحته الجامعية في كلية كنيسة المسيح قد سُحِبت منه عام ١٦٨٤ بناءً على أوامر ملكية، وعلى الرغم من المحاولات الفاشلة التي قامت بها الحكومة البريطانية عام ١٦٨٥ لمطالبة الحكومة الهولندية بتسليمه هو وآخَرين من حزب الويج (الذي صار يُعرَف في القرن التاسع عشر بحزب الأحرار البريطاني)، ممَّن كانوا قد غادروا البلاد أيضًا، فإن الخطر الذي كان يتهدَّده صار أقلَّ وطأةً منذ ذلك الحين فصاعدًا.
لا يزال الوقتُ الفعلي الذي شرع فيه لوك في كتابة الرسالتين والغرضُ الذي دفعه إلى ذلك غير واضحين، ومن المحتمَل أن يظلَّا كذلك. كان التحريض عملًا خطيرًا في إنجلترا خلال القرن السابع عشر، وكان عمله «رسالتان في الحُكم»، الذي كُتِب في خضم أحداث أزمة الإقصاء، عملًا شديدَ التحريض. وبدءًا من عام ١٦٨٣ على الأقل فصاعدًا، أظهَرَ لوك قدرًا كبيرًا من الحيطة والتكتم، لكننا نعرف معلومةً أو معلومتين من تفاصيلِ ما كان يفعله لوك خلال تلك السنوات؛ ففي عام ١٦٨٠، على سبيل المثال، قضى لوك قدرًا لا بأسَ به من وقته في أوكلي؛ حيث يوجد المنزل الريفي لصديقه جيمس تايرل، الذي نشر هو نفسه عام ١٦٨١ هجومًا على النظرية السياسية لفيلمر بعنوان «لا سلطة أبوية للملوك». وفي الفترة ما بين عامَيْ ١٦٨٠ و١٦٨٢ تقريبًا، تعاوَنَ تايرل ولوك معًا في مخطوطة مطوَّلة (لم تُنشَر بعدُ)، يدافعان فيها عن مبادئ التسامح أمام أحد المدافعين الأنجليكانيين البارزين، وهو إدوارد ستيلينجفليت. ومن بين كثيرين، كان تايرل — كما أورد أحد جواسيس الحكومة — هو مَنْ أودع إليه لوك «كثيرًا من أوراقه» بينما كان يستعِدُّ لمغادرة أكسفورد في يوليو عام ١٦٨٣. وبالنسبة إلى أتباع شافتسبري السياسيين خلال تلك الأعوام، كانت مهمتَا الدفاع عن حقوق «المنشقِّين» السياسية والدينية، ونقد أقوى مُنظِّر إنجليزي في مجال الحُكم الملكي المطلق، تحظيان بقدر كبير من الأهمية.
عندما هرب لوك من البلاد في أواخر صيف عام ١٦٨٣ كان قد تجاوَزَ سن الخمسين، ولم يكن قد نُشِر بعدُ أيٌّ من أعماله المهمة. كان العمل الرئيسي الوحيد الذي ربما نكون مُوقنين أنه كُتِب بغرض النشر، «رسالتان في الحُكم»، يشكِّل في ذلك الحين مصدرَ خطرٍ أكثر منه مدعاةً للتفاخر والزهو بالنفس. من ناحية أخرى، مع أن المنفى كان بغيضًا وخطيرًا في بعض النواحي، فقد أتاح له عددًا من الفرص التي من بينها أنه كوَّن العديدَ من الصداقات، بعضها كان صداقات حميمة للغاية، وسط مجتمع التجار الإنجليز وعلماء اللاهوت الهولنديين، وبين اللاجئين الفرنسيين البروتستانت بعد إلغاء «مرسوم نانت» عام ١٦٨٥. ومن الفرص الأخرى التي أتاحها له المنفى، أنه وفَّرَ له الوقتَ الكافي للتفكير بأسلوب منهجي ومسهب، دون الخوض في الأحداث السياسية المباشرة المشتِّتة للانتباه. ربما لم يكن لوك يتمتَّع بصحة جيدة، ولم تكن احتمالاتُ نجاحه الدنيوية واعدةً، لكنه وجَدَ على الأقل الفرصةَ ليحشد طاقاته ويترك إرثًا قيِّمًا للأجيال القادمة؛ وفي غضون تلك السنوات كتبَ كلًّا من «مقال في الفهم البشري»، و«رسالة في التسامح».
في عام ١٦٨٨ تحسَّنَتِ احتمالاتُ نجاحه الدنيوية تحسُّنًا كبيرًا مع وفودِ البروتستانتي ويليام — أمير أورانج — إلى إنجلترا، وهروبِ الملك جيمس الثاني الذي كان ينتمي إلى طائفة الروم الكاثوليك. وفي مطلع عام ١٦٨٩، عاد لوك إلى إنجلترا، وطُبِعت خلال ذلك العام أعمالُه الثلاثة الكبرى؛ ظهر عملان منها بلا اسم؛ فقد نُشِر كتاب «رسالة في التسامح» باللغة اللاتينية أولًا في هولندا خلال شهر أبريل، ثم أُعِيد نشره باللغة الإنجليزية في لندن خلال شهر أكتوبر، كما نُشِر كتاب «رسالتان في الحُكم» في لندن في نهاية هذا العام. لكنْ صدر عمل واحد، هو «مقال في الفهم البشري»، في منتصف ديسمبر في مجلد كبير فخم يحمل اسم لوك بكل وضوح في صفحة العنوان، وكان هذا هو باكورة الأعمال البارزة المنشورة له.
في الأعوام الخمسة عشر الأخيرة في حياته، قبل وفاته في عام ١٧٠٤، ظلَّتِ التزاماته في تنوُّع مستمر كشأنها دائمًا، وبعضها كان سياسيًّا في أضيق مفهوم، مثل: تعزيز الموقف الدستوري والسياسي لويليام، وإعادة تنظيم العُملة الإنجليزية، وتأسيس نظامٍ ائتماني فعَّال للدولة الإنجليزية من خلال بنك إنجلترا الجديد، وتأسيس المعاهد التي تستطيع الحكومة من خلالها أن تمارس مسئولياتها على نحوٍ أكثر فاعليةً من أجل ازدهار التجارة الخارجية الإنجليزية. كان لِلوك نفسه دورٌ فاعل في كل عمل من تلك الأعمال؛ إذ كان منهمكًا في الأعمال الثلاثة الأخيرة بوصفه مستشارًا فكريًّا جديرًا بثقة رجال الدولة البارزين، وفي مجال التجارة الخارجية بوصفه موظفًا عموميًّا في «مجلس التجارة» الجديد يحصل على مكافآت باذخة. وكانت كلُّ مهمة من تلك المهام هي بقدرٍ ما تنفيذًا لبرنامج شافتسبري في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن السابع عشر، وهو برنامج للإمبريالية التجارية الممنهجة للغاية التي لم تكن تحظى باهتمام إنجليزي إلا في نطاق محدود. أما فيما يتعلَّق بالترتيبات القانونية والسياسية لتسوية مطالبات الثورة المجيدة، فقد لعب فيها لوك دورًا أكثر حصافةً وأقل تأثيرًا للغاية. يبدو أيضًا أن المحصلة النهائية في القضية المحورية المتعلِّقة بالإصلاح الدستوري وزيادة النفوذ السياسي للمجلس التشريعي المُنتخَب، كانت على الأرجح أبعدَ ما يكون عن أمنياته، على عكس الحال مع المحصلة النهائية للسياسة النقدية أو المالية أو الاقتصادية؛ وربما الأهم أنه من الجلي أيضًا أن الشكل السياسي لتسوية مطالَبات الثورة شغَلَ وجدانه ومعتقداته على نحوٍ فاقَ كثيرًا التفاصيلَ الفنية للسياسة الاقتصادية للحكومة، وأنه رأى أهميةَ الشكل السياسي لتسوية مطالبات الثورة في سياقٍ أوسع نطاقًا وأقل تعصُّبًا بكثير.
بدأ لوك يرى في خضم الجدل الدائر حول حركة الإقصاء — ولاحقًا في هولندا في الصُّحبة المتسامحة والمحنَّكة للتجار، وعلماء اللاهوت الأرمينيين الهولنديين، وبعض اللاجئين الهوجونوت الأصغر سنًّا — أن ثمة علاقة وطيدة تربط مصالحَ الحركة البروتستانتية الأوروبية بمصالح الحرية السياسية. وجاء الاستبداد الكاثوليكي للملك لويس الرابع عشر — بالتهديد العسكري المباشِر للدول البروتستانتية الباقية، والالتزام الشديد بالتوحيد الديني — ليجسِّد على الجانب السياسي كلَّ ما مَقَتَه لوك؛ الالتباس الشديد بين غرور البشر وطموحهم وفسادهم، وبين مقاصد الله. وما إن انضمَّ لوك إلى حاشية شافتسبري حتى تبدَّلَت آراؤه بشأن التسامُح مع «المُنشقِّين» عن الكنيسة الرسمية، لتصير توجُّهًا أقل صرامةً وأكثر عمليةً. وفي السنوات اللاحقة تراجَعَ الفَصْل والتمييز، وبدأ لوك يرى (والأهم أنه بدأ يشعر) أن التسامح لم يَعُدْ قضيةً تتعلَّق بسياسة الدولة، وإنما صار تدريجيًّا قضيةً تتعلَّق بحقوق الإنسان الفرد. وفي المنفى لاحظ لوك بخوفٍ متزايد على مدار ست سنوات تقريبًا، أن مستقبل أوروبا السياسي والثقافي — بل وربما مستقبلها الديني أيضًا — يسير نحو نتيجةٍ غير واضحة بينما انتقلت السلطة الملكية الإنجليزية إلى ملك كاثوليكي، وفيما هدَّدَ لويس الرابع عشر بالاستيلاء على آخِر المعاقل الكبرى للبروتستانتية الأوروبية في هولندا، وألغى مرسومَ نانت، وانشغل بسَحْق كنيسة الهوجونوت (المسيحيين الفرنسيين)، وإرغامِ أتباعها البائسين على اعتناق العقيدة الكاثوليكية بالمعنى الحرفي للإرغام (هذا الحدث الأخير كان مأساويًّا بدرجةٍ هائلة.) سطرَ لوك عمله «رسالة في التسامح» كردِّ فعلٍ على تلك الأحداث، لدَرْء خطر أوروبي لا خطرٍ إنجليزيٍّ فحسب، وقد نُشِر هذا العمل — على خلاف الكتب الأخرى التي نشرها إبَّان حياته — باللغة اللاتينية أولًا، وهي اللغة التي لم تكن تزال تُعتبَر اللغة العالمية للمفكرين الأوروبيين.
بحلول عام ١٦٨٩ حملت «الرياح البروتستانتية» ويليام أميرَ أورانج بسلامٍ عبر القنال الإنجليزي، وأخيرًا بدأت كفَّة الميزان المحبَّذة لدى لوك ترجح. تُرجِم كتاب «رسالة في التسامح» إلى الإنجليزية على يد ويليام بوبل، وهو تاجر من أنصار الحركة التوحيدية، وكما رأينا، فقد نُشِر في إنجلترا في وقت لاحق من العام نفسه الذي نُشِر فيه في هولندا. كان الكِتاب أكثر تطرُّفًا بكثيرٍ من حيث إصراره على أنَّ أية محاولة للتدخُّل البشري في المعتقدات أو العبادة الدينية هي اجتراءٌ سافِر يصل إلى حدِّ الكفر، مقارَنةً بحديثه عن الإعفاءات المتواضعة عن «المُنشقِّين»، التي ظنَّ ويليام وحكومته أن مِن الحكمة تقديمها. وفي أبريل من العام التالي، تعرَّضَ الكتاب لهجومٍ مسهب في عمل مطبوع كتبه جوناس بروست — أحد رجال الدين من أكسفورد — ليكون بذلك أولَ عمل من أعمال لوك يلقى هذا الشرف. وخلال السنوات القليلة التالية، نشر لوك عملين مفصَّلين ردًّا على بروست، وأعقب هذا ردٌّ آخَر من بروست نفسه.
لكنَّ لوك لم يصرَّ فقط على عدم إفشاء أمر تأليفه لكتابَيْه «رسالة في التسامح» و«رسالتان في الحُكم»، بل كان أيضًا يصاب بحالة هيستريا شديدة عندما كان أصدقاؤه يهدِّدونه — قصدًا أو سهوًا — بكشف أمره. حتى ليمبورخ الذي كان لوك وفيًّا له من صميم قلبه، تعرَّضَ لتوبيخٍ شديدٍ من لوك لاعترافه إلى أصدقاء مشتركين لهما في هولندا بأمرِ تأليف لوك لكتاب «رسالة في التسامح»، ونالَ تايرل التعيس، الذي كانت علاقةُ لوك به تزداد توترًا، حظَّه من التأنيب؛ حيث وبَّخه لوك بعنف بسبب نسبه المقالين إليه. وحتى وقت متأخر من عام ١٦٩٨، رفض لوك بعنادٍ (مع أنه كان يمرُّ حقًّا بظروف مضطربة للغاية على نحوٍ يتعذَّر إنكارُه)، أن يعترف كتابيًّا — ولو حتى لواحد من أقرب أصدقائه وأكثرهم ائتمانًا، وهو ويليام مولينيو — أنه فعلًا صاحب كتاب «رسالتان في الحُكم»، ومما لا شك فيه أنه بحلول ذلك الوقت كانت مسألةُ تأليفه هذين العَملين معروفةً للجميع. من الواضح — ليس فقط من منطلق شروط وصيته، لكن أيضًا من منطلق بعض مواقف الإطراء على الذات التي كانت تحدث على استحياءٍ ملحوظ (أعمال جون لوك، المجلد الرابع) — أنه استمر يجيز حتى مماته على الأقل الضروريات التي تقتضي مناقَشةَ حُججها؛ فضلًا عن ذلك، فقد أشرَفَ بعناية على طباعة طبعة ثانية من كتاب «رسالتان في الحُكم» عام ١٦٩٤، وعملَ باجتهاد وجدية على إصدار طبعة أخرى تضمُّ بعض الإضافات المهمة التي لم تظهر إلا بعد وفاته.
نشَرَ لوك أيضًا خلال تلك السنوات عددًا من الأعمال الأخرى ذات الأهمية؛ تناول اثنان منها — نُشِرَا عامَيْ ١٦٩١ و١٦٩٥ — موضوعَ نظام سكِّ العملة، وصدر عمل ثالث بعنوان «آراءٌ في التربية» عام ١٦٩٣، وطُبِعَت منه خلال السنوات القلائل التالية ثلاث طبعات. ظهر هذا العمل في الأساس في صورة سلسلة من الخطابات المفصَّلة إلى أحد الأصدقاء، وهو رجلٌ من طبقة النبلاء يُدعَى إدوارد كلارك من سومرست، وزوجته ماري، مقدِّمًا لهما النصيحةَ بشأن صحة أطفالهما وتنشئتهم، ويُعتبَر هذا العمل من أكثر أعمال لوك سهولةً واستساغةً، فهو يعرض وجهةَ نظر موضوعية على نحو ملحوظ حول التطوُّر النفسي للأطفال على المستويين الفكري والأخلاقي. وبالإضافة إلى ما يُلقيه هذا العمل من ضوءٍ على مفهوم لوك حول الكيفية التي يصير بها الإنسان كائنًا مفعمًا بالإنسانية (عن طريق تعلُّم التحكُّم في رغباته الأقل استحسانًا في الأساس)، فعلى ما يبدو أنه حظي أيضًا ببعض الأهمية التاريخية من خلال تصويره أساليب الإنجليز في تدريب أطفالهم على استخدام المِرحاض، على الأقل بين الطبقات المُثقفة. كان إعراض لوك عن الاعتراف بتأليفه تلك الأعمال أقل بالطبع، مع أنه في الواقع لم ينشر أيًّا منها باسمه في البداية، لكن في عمله الأخير «معقولية المسيحية» الذي ظهر عام ١٦٩٥، وهو عمل مهم بلا شك، عاد لوك بإصرارٍ إلى تكتُّمه الشديد؛ وكما اتضح لاحقًا، كان لديه سبب وجيه لذلك؛ حيث تبيَّن أن الكتاب كان مثارَ جدلٍ وخلاف على نحو بالغ، إذ هاجَمَه جون إدواردز مرتين خلال عامين، مدَّعيًا أنه ينتمي إلى فِكر الحركة «السوسينية»؛ وهي حركة غامضة من حركات الهرطقة الأوروبية تؤكِّد على سلطة العقل والكتاب المقدس، رفضت عقيدة «التثليث»، وجعلها إدواردز هي والإلحادَ على حدٍّ سواء. ردَّ لوك على هذين الهجومين في «دفاعين» لا يحملان اسمه، ويشوبهما الخداع إلى حدٍّ ما، وما زاد الأمورَ سوءًا أنه تعرَّضَ للهجوم مرةً أخرى عام ١٦٩٦ لأسباب مشابهة، لكن هذه المرة على يد خصم أكثر شراسةً، وهو إدوارد ستيلينجفليت شخصيًّا، المدافِع الأنجليكاني عن التعصُّب الديني، الذي تعاوَنَ لوك وتايرل معًا لدَحْض آرائه إبَّان الجدل الدائر خلال أزمة الإقصاء، والذي كان في ذلك الوقت أسقف ووستر.
كان لهذا الهجوم أثرٌ مدمِّر للغاية؛ ليس فقط لأنه كان من المنطقي جدًّا توجيهُ الاتهام باتباع الفِكر السوسيني (على عكس الاتهام بالإلحاد) بسبب توافقه مع أفكار لوك الدينية، لكن أيضًا لأن ستيلينجفليت اختار ألَّا يستند في هجومه هذا إلى كتاب «معقولية المسيحية»، ذلك الكتاب الذي لم يكن لوك على الأرجح ليعترف بتأليفه حتى هذه اللحظة، وإنما إلى كتاب «مقال في الفهم البشري»، الذي لم يكن باستطاعته غالبًا من حيث المبدأ أن يُنكِره نظرًا لأنه نُشِر باسمه، والذي كانت تساوره رغبةٌ شديدة في الدفاع عنه على أية حال. ردَّ لوك على ستيلينجفليت ردًّا وافيًا في ثلاثة أعمال أخرى عام ١٦٩٧، وبغض النظر عن تعديلات الطبعة الرابعة من كتابه «مقال في الفهم البشري» التي ظهرت عام ١٧٠٠، مثَّلت هذه الردودُ في الواقع آخِرَ ظهور فِكري معلَن له في حياته.
في هذه المرحلة من حياة لوك بدأ نطاق اهتماماته يضيق، وبات في مقدورنا أن نميِّز على نحوٍ أكثر وضوحًا استراتيجيةَ وأساليبَ حمايته لإرثه الفِكري وأساليبه في ذلك. وحريٌّ بنا أن نُرجِئ التقييم المُفصَّل لنطاق إنجازاته الفكرية وحدودها حتى الفصلين التاليين، لكن ربما يقتضي التوضيح أن نتناولَ باختصارٍ هنا بعضًا من الصراعات الأكثر تعميمًا في هذا الإرث الفِكري، والآثار العملية التي ترتَّبت عليها.
تحمَّلَ لوك أخيرًا عند موته المسئوليةَ الكاملة عن جميع أعماله المنشورة، لكنه ظلَّ حريصًا حتى ذلك الحين، كما رأينا، على فصل «مقال في الفهم البشري» — ذلك العمل الفلسفي الذي طالما أقرَّ أنه من تأليفه — عن كتاباته السياسية والدينية التي كان ينشرها دون أن تحمل اسمه. لا نعرف بوضوح سببَ حرصه الشديد على الفصل بينهما، بل ربما لم يكن هو نفسه يعرف السبب بوضوح؛ لكن أحد الأسباب المحتمَلة هو الاعتراف البسيط، الذي تأكَّدَ بدايةً من عام ١٦٩٠ فصاعدًا، بأن صعوبة السيطرة على الآراء المطروحة في أحد الأعمال، إنما تتجلَّى بقوة عند وضعها إلى جانب الآراء ذات الصلة بموضوعات أخرى، المطروحة في عمل واحد أو أكثر من الأعمال الأخرى. وكان الدفاع عن «مقال في الفهم البشري» أو تنقيحه مهمةً كبيرةً في حد ذاتها؛ وطالما كان لوك واثقًا أنه أعظم إنجازاته، ولديه سببٌ وجيهٌ لذلك.
تثير نظرية المعرفة المطروحة في «مقال في الفهم البشري» الشكوكَ من عدة نواحٍ. كان لوك نفسه يرى أنها لم تشكِّك مطلقًا في صحة العقيدة المسيحية، لكن لم يكن معظمُ معاصريه يشاركونه غالبًا هذا القدرَ من الثقة، فلو كانت الحُجج التي وردت في مقال الفهم البشري صحيحةً، فلا بد أن التفاسير المحددة للمسيحية التي يؤمنون هم أنفسهم بها كانت حتمًا مزيفة. وللأسباب نفسها، ربما يكون رأيُ لوك المشكِّك في قدرة الإنسان على المعرفة، وتأكيدُه القوي على وجوب التسامح مع المعتقدات الدينية التي لا يؤمن بها المرء ولا يحبِّذها؛ هما مزيجًا طبيعيًّا في شخصٍ قناعاتُه الدينية واضحة وقوية، لكن بالنسبة إلى أي شخص آخَر قناعاته الدينية أقل رسوخًا، قد يبدو هذا المزيج اعتباطيًّا ومتزعزعًا على نحو مقلق. لو أن أسباب لوك للإصرار على التسامح الديني كانت أسبابًا دينية صريحة (وكذلك الأسباب التي قادته إلى رفض التسامح مع الكاثوليك والملحدين)، فإنَّ عواقب إصراره — إلى جانب التأثير اللاحق لمفهومه عن قدرة الإنسان على المعرفة — ربما تهدف ببساطةٍ إلى إضعاف القناعة الدينية لدى الآخَر (وهو ما نجحت فيه إلى حدٍّ كبير). كان هذا الخطر بالطبع هو ما عَمد ناقدوه منذ البداية إلى تسليط الضوء عليه — ليس فقط في شكل مجادلات إدواردز الانفعالية المتدنية، أو غطرسة ستيلينجفليت الكَنَسيَّة، لكن أيضًا في شكل التقييمات الفِكرية ذات الأهمية الحقيقية، مثل تقييم الفيلسوف الألماني العظيم لايبنتس. بخصوص مسألة التسامح تحديدًا، ربما كان لوك يرى بوضوح قبيل وفاته عدمَ الاستقرار السياسي الشديد لموقفه بين الأنجليكانية السلطوية (مثل أنجليكانية ستيلينجفليت)، التي كانت ببساطة ظلًّا شاحبًا للذرائع الاستبدادية لملك الشمس (لويس الرابع عشر)، وبين الربوبية المتحرِّرة على نحوٍ سافِر، التي كان يعتنقها رجالٌ أمثال جون تولاند الذي ادَّعَى بلا خجل أنه يتعقَّب النتائجَ المترتبة على نظرية لوك للمعرفة. والحرية الدينية كما أيَّدها لوك هي حرية المرء في أن يكون متدينًا بطريقته الخاصة، ولم تكن الحرية بكل تأكيد — حسبما رآها تولاند مبتهجًا — أن يضرب المرء بالاعتبارات الدينية عرض الحائط.
ظهرت إشكالية مشابهة عام ١٦٩٨ حول مفهوم الواجب السياسي الذي تناوله في عمله «رسالتان في الحُكم»؛ كان صديق لوك الحميم، ويليام مولينيو، عضوًا في البرلمان الأيرلندي الذي كان في ذلك الوقت معارِضًا لمجلس العموم الإنجليزي، فيما يخص أحقيته في التحكُّم في الاقتصاد الأيرلندي ومنع منتجاته من منافسة منتجات إنجلترا، وكان لوك نفسه معنيًّا عن كثب بصياغة سياسة الدولة الإنجليزية حول هذه المسألة، من خلال عضويته في مجلس التجارة. وفي عام ١٦٩٨ نشر مولينيو كتابًا حول تلك القضية بعنوان «قضية أيرلندا»، الذي أصبح فيما بعدُ واحدًا من النصوص الكلاسيكية التي يدور موضوعها حول القومية الأيرلندية. رأى مولينيو في كتابه أن قيام أحد البلدان بتشريع قوانين لبلد آخَر لا يتفق مع نظرية الحقوق السياسية الواردة في كتابه «رسالتان في الحُكم»، وتسبَّب الكتاب في إساءة كبيرة بما استدعى إحراقه بناءً على أمرٍ من «مجلس اللوردات»؛ وفي غضون أشهُر وفدَ مولينيو إلى إنجلترا ليلتقي للمرة الأولى بصديقه ويقيم معه. ومن سوء الحظ أنه ليس لدينا أدنى فكرة عمَّا دار بينهما بهذا الصدد، لكنَّ اللقاء كان على درجة كافية من الأهمية حتى مع عدم توافر أية معلوماتٍ لدينا عنه؛ ذلك لأن الحُجج التي ساقها مولينيو حول تداعيات النظرية السياسية لِلوك تشابَهَتْ كثيرًا مع حُجج المستعمرين الأمريكيين خلال فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الثامن عشر. وأيًّا كان ما اضطر لوك أن يقوله ردًّا عليه، فإنه كان سينطبق على نحو مباشِر نوعًا ما على الاستفادة التي كان يحقِّقها مؤلِّفو الكتيبات والمتحدثون الرسميون الأمريكيون — بدءًا من جيمس أوتيس إلى توماس جيفرسون — من كتابه. لكن يظل الأهم — كما أشار أحد نقَّاد مولينيو — أنه في حال أيرلندا، لم يكن ما تضمَّنته نظريةُ لوك (إنْ كانت طُبِّقت من الأساس) أن طبقة الأعيان البروتستانتية الإنجليزية في برلمان دبلن كان لها حقُّ التحكُّم في اقتصاد البلد القاطنة فيه، وإنما بالأحرى أن المواطن الكاثوليكي الأيرلندي المنشأ هو مَنْ كان له الحق في ذلك. من المستحيل أنَّ تفسيرًا كهذا كان سيروق إلى لوك على الإطلاق، بالنظر إلى مقته الشديد للكاثوليكية وإحساسه البالغ بالمخاطر الجغرافية والسياسية المُحدِقة بالبروتستانتية الأوروبية. (بحلول عام ١٦٩٨ كانت قد مرَّتْ ثماني سنوات فقط على معركة بوين؛ أهم اشتباك عسكري اضطر ويليام الثالث أن يواجِهَه لتعزيز قبضته على التاج الملكي الإنجليزي.) كانت الحرية السياسية التي سعى لوك إلى الدفاع عنها في عمله «رسالتان في الحُكم» حريةً من أجل البروتستانت المقيمين داخل الدولة البريطانية، وليس ثمة ما يدعو إلى الاعتقاد بأن لوك كان سيعترض على توسيع نطاقها بما يشمل الكاثوليك الأجانب في الدول الكاثوليكية الأجنبية، ولكن لم يكن مقصودًا بكل تأكيد أن تكون تحرُّرًا للكاثوليك الأيرلنديين من الحُكم الملكي البريطاني.
يُعزَى ببساطةٍ بعضُ الأثر الذي خلَّفته كتاباتُ لوك إلى الحُجج التي احتوَتْ عليها تلك الكتاباتُ، وإنْ كان هذا ليس بالأثر الذي كان لوك سيرغب في تركه؛ فمن المُحتمَل أن كلَّ فِكر معقَّد عُرضة له. لكن يُعزَى أيضًا جزءٌ من هذا الأثر — ربما بالأخص في «مقال في الفهم البشري» — إلى الشكل الذي وصلَتْ به كتاباته إلى القُرَّاء، وإلى الفئة المعينة من القُرَّاء الذين وصلتهم تلك المؤلَّفات؛ ففي إنجلترا، ذاع صيت «مقال في الفهم البشري» بسرعة نوعًا ما، حتى إنه استحوذ على اهتمام الجامعات (التي كانت بوجه عام معاديةً للأفكار الجديدة، ولا سيَّما تلك الأفكار التي رأت أنها أفكار هدَّامة من الناحية اللاهوتية) إبَّان حياة لوك، لكنَّ القنوات التي وصل الكتاب من خلالها إلى العامة في أوروبا كانت أضيقَ نطاقًا وأكثرَ وضوحًا. كان أول جزء مطبوع من الكتاب في صورة مُلخَّص باللغة الفرنسية، صدرَ في أمستردام ككتيب منفصل في فبراير عام ١٦٨٨، لكنه كان مُعَدًّا في الأساس لدورية فكرية بارزة تُدعَى «ذا بيبليوتيك يونيفرسال»، وقد أُدرِجَ في هذه الدورية أيضًا. كما ظهرت مقالات نقدية مفصَّلة عن معظم أعمال لوك التالية لذلك، في دورية أو أخرى من مجموعة الدوريات الفكرية التي كانت تُنشَر في هولندا على مدار العقود القلائل التالية، وكان القائمون على تحريرها في سنواتها الأولى غالبًا من اللاجئين البروتستانت الفرنسيين، أمثال بيير بيل وجان لو كلير. ونظرًا لأن العديد من هذه الدوريات كان يحظى بانتشار واسع النطاق على نحو ملحوظ، فقد وصلت أعمال لوك إلى قطاع عريض من جمهور المفكِّرين، لا سيَّما في فرنسا، وبمعدل سريع نسبيًّا. ثمة قناة انتشار مهمة أخرى، كانت أيضًا نتاج علاقات لوك بالبروتستانتية الفرنسية، وكانت وليدةَ المصادفة، والطابعُ الشخصي فيها أوضح؛ إذ تبادَلَ جان باربيراك، أحد اللاجئين البروتستانت الفرنسيين، مراسلاتٍ مع لوك في السنوات الأخيرة من حياته. وفي أوائل القرن الثامن عشر، بدأ باربيراك سلسلته الرائعة من الترجمات والطبعات النقدية لجروتيوس وبوفندورف وغيرها من النصوص الأوروبية البارزة حول «قانون الطبيعة». وفي هذه الأعمال، قدَّم باربيراك للمرة الأولى مُلخَّصًا كاملًا ومقيَّمًا بعنايةٍ فائقة لِمَضَامِينِ فلسفةِ لوك وكتاباته السياسية حول القضايا المحورية في مجالَيِ الأخلاق والسياسة. وعلى مدار عدَّة عقود، كانت هذه النصوص تُقرَأ غالبًا في العديد من البلدان الأوروبية أكثرَ من المؤلَّفات الحديثة الأخرى في مجالَيِ الأخلاق والسياسة؛ إذ كانت تشكِّل موضوعَ فرعٍ رئيسيٍّ في تدريس القانون، في مجموعة كبيرة من الجامعات البريطانية والأوروبية. ومثلما كان ديكارت وجاسندي هما مصدر إلهام معظم الفِكر الفلسفي المهم لدى لوك في البداية، كانت دائرةُ خبراته وصداقاته الأوروبية هي الضمانة التي كفلت لأثره الفِكري النجاةَ من خطر الانحصار في الجزر البريطانية.
خلال الأعوام الخمسة عشر الأخيرة من حياته — حين كان لوك قد صار رجلًا طاعنًا في العمر ومعتلَّ الصحة وذائعَ الصيت على نحوٍ هائل — وجدَ لوك نفسه أخيرًا في وضعٍ يمكِّنه من أن يرى حياته ككلٍّ بوضوح، وأن يدرك حجمَ إنجازاته ومدلولها. ترجع أهم إنجازاته إلى تجربة منفاه ومشاقِّها؛ عندما كان لوك — الذراع اليمنى لشافتسبري — يُزاحِم من أجل أن يتبوَّأ المناصبَ العامة، ويصل إلى السلطة السياسية في بلاده، فعاشَ ما لم يكن مكيافيللي نفسه ليراه حياة من الفضيلة السياسية. وعندما عاد من المنفى عام ١٦٨٩، استمر في أداء مسئولياته السياسية، لكنه في المنفى اكتسبَ لأول مرة في حياته مسئولياتٍ أخرى أكثر إلحاحًا، نبعت تلك المسئوليات في الأساس من تغيُّر رأيه بشأن مسألة التسامح؛ فإذا كانت حريةُ الممارسة الدينية أو تقييدها هي ببساطةٍ مسألةً تخص سياسة الدولة، شأنها شأن التجارة الخارجية أو الدفاع، فإنه يستحيل أن يكون ثمة تعارُضٌ فعليًّا بين السياسة الدينية والفضيلة المدنية؛ لكن إذا كان حقُّ الإنسان في عبادة الله بطريقته الخاصة هو حقًّا فرديًّا يأتي في مقابل أي نفوذ ممكن للدولة، فمن المهم والمحيِّر إلى حدٍّ كبير أن تُترَك حدودُ السياسة الدينية لحُكم الفضيلة المدنية غير الناضج. وبالنظر إلى العملين الفكريين الكبيرين اللذين تمخَّضَا عن منفاه؛ «رسالة في التسامح» و«مقال في الفهم البشري»، فإن لوك صار لا يضع ثقته في القومية الإنجليزية والظروف السياسية التي تمرُّ بها الدولةُ الإنجليزية، وإنما في تطبيق ثقافة تقوم على النوايا الحسنة المشتركة على المستوى الديني، والترويج لها ونشرها لدى جموع البشر الآخَرين. ولا شك أن لوك استمر — بالرغم من الإعياء والمرض — في بذل قصارى جهده كي يجعل العالَمَ بوجه عام، وإنجلترا بوجه خاص، بيئةً أكثر أمانًا لاستيعاب هذه الثقافة؛ بَيْدَ أن طاقاته الأساسية كانت موجَّهة نحو تأسيس هذه الثقافة نفسها، والوصول إلى فهم شامل لها، كما كانت موجَّهة أيضًا نحو استكشاف الكيفية التي يمكن بها للقدرات البشرية أن تمكِّن الإنسان من العيش في تناغُم مع عالم الله، وإدراك كونه يعيش على هذا النحو. عوَّل لوك في مسعاه هذا تعويلًا كبيرًا على الدعم الوجداني الذي كان يلقاه من صديقَيْه ليمبورخ وويليام مولينيو، وعلى رجال أصغر سنًّا أمثال أنتوني كولينز — أحد أتباع مذهب الربوبية — وبيتر كينج الذي صار رئيسَ مجلس اللوردات فيما بعدُ. كان الوثوق في النوايا الحسنة الدينية المشتركة أيسرَ من الوثوق في مجرد آمال شخصية؛ بَيْدَ أنه عوَّل أيضًا — بل كان أيضًا في حاجةٍ إلى أن يعوِّل — على أمل واحد على الأقل ذي طابع شخصي صِرف؛ وهو الأمل في أنه كلما كان من الممكن فهم هذه الثقافة على نحو أفضل، صار من الأيسر الإيمانُ بها والعيش وفقًا لها. وظلَّ أمله العميق هو الإيمان بمستقبل للبشرية جمعاء، ليس مستقبل وحدة سياسية بعينها، وإنما مستقبل حضارة واعِدة مداها الجغرافي وفترتها التاريخية غير محدودين.
لا شك أن الحركات التاريخية العظيمة لا تكون أبدًا ثمرةَ مجهودات فردية، لكن من الإنصاف حقًّا النظر إلى حركة التنوير الأوروبية بوصفها الإرث الذي خلَّفه لوك، والذي يجمع كلًّا من انتصاراته ومآسيه على حدٍّ سواء. وكما اتضح لاحقًا، فإن الإيمان بتلك الثقافة التي كان لوك يروِّج لنشرها والعيش وفقًا لها لم يزدَدْ سهولةً بالوصول إلى فهم أفضل لها، وإنَّما ضعفت تلك الثقافة وانهارت على نحوٍ مثيرٍ للقلق؛ فتراجعت النوايا الحسنة المشتركة على المستوى الديني أمام النوايا الحسنة المشتركة على المستوى العلماني، كما تراجعت الأخيرة أمام الجدالات العنيفة واللاذعة حول تحديد النوايا العلمانية الحسنة حقًّا. وكلما اتضحت وجهةُ نظره بشأن ما يمكن للإنسان معرفته، صارت وجهة نظره حول الكيفية التي يكون بها لدى الإنسان سببٌ وجيهٌ لعيش الحياة أقل إقناعًا. وإذا كان التنوير هو الإرث الذي خلَّفه لوك حقًّا، فإنه — على أغلب الظن — لم يكن بالإرث الذي تمنَّى أن يتركه.
ونحن جميعًا نِتاج إخفاقه في هذا الصدد.