مفارقات الاكتئاب
-
هذا أحد العلماء، ما كاد يتولى رئاسة رابطة علمية مرموقة حتى انحدر إلى الكآبة والغم. وأفضى إلى أحد أصدقائه أن لديه رغبة عارمة ملحة أن يهجر مهنته ويصبح من الهيبيين.
-
وهذه أمٌّ رءوم كانت دائمًا شديدة الحب لأطفالها؛ فبدأت تهملهم وتخطط جديًّا لتدميرهم وتدمير نفسها بعد ذلك.
-
وهذا رجل أبيقوري يستطيب لذة الطعام فوق كل لذة؛ فإذا به ينفر منه ولا يعود يأكل.
-
وهذه امرأة ما كادت تسمع بوفاة صديقة قريبة على غير توقع حتى ندَّت عنها أول ابتسامة لها منذ أسابيع طويلة.
كل هذه الأفعال الغريبة التي لا تتسق بحال مع المعهود من سلوك الشخص وقيمه هي تعبيرات مختلفة عن نفس الحالة الباطنة-الاكتئاب. فبأي انحراف وزيغ يصدم الاكتئاب توقعنا ويهزأ بأرسخ أفكارنا عن طبيعة الإنسان وبيولوجيته؟ فإذا بغريزة حفظ الذات وغرائز الأمومة تتبدد. وإذا بالدوافع البيولوجية الأساسية، كالجوع والجنس، تنطفئ. وإذا بالنوم، بلسم الكروب جميعًا، يتعطل ويعاق. وتتبخر الغرائز الاجتماعية كالتعلق بالآخرين والحب والعاطفة. وينقلب مبدأ اللذة ومبدأ الواقع رأسًا على عقب؛ فلا تصعيد للمتعة ولا تقليص للألم. إن ضحايا هذا المرض العجيب لا يفقدون قدرتهم على الاستمتاع فحسب، بل يبدون مدفوعين إلى ما يؤذيهم ويزيد معاناتهم. ويبدون عاجزين عن الابتهاج بما يبهج أو الغضب مما اعتادوا أن يغضبوا منه.
كان الناس ذات يوم يعزون هذا الداء الغريب إلى شياطين يزعمون أنها تتلبس بالضحية. غير أن مشكلة الاكتئاب ظلت باقية ولم تمدنا أي من النظريات التي قُدِّمت طوال هذه العصور بحل متماسك لها. وما يزال يرهقنا حتى اليوم هذا الاضطراب النفسي الذي يبدو مكذبًا لأشد مفاهيمنا عن الطبيعة البشرية ثباتًا واستقرارًا. على أننا يمكن أن نقول، رغم ما يبدو في قولنا من تناقض ظاهري، إن غرائب الاكتئاب وخصائصه الشاذة قد تمدنا هي ذاتها بمفاتيح لحل لغزه وقرائن لفهم هذه الحالة المرضية الغامضة.
إن الانقلاب التام الذي يعتري سلوك الاكتئابي يبدو لنا في بداية الأمر كأنه يتحدى كل فهم وتفسير. فشخصيته أثناء الاكتئاب تبدو أقرب لغيره من المكتئبين منها لشخصيته المعتادة. مشاعر المتعة والبهجة تتبدل بالحزن والتبلد. ينحسر نطاق الرغبة والمشاركة التلقائية ومجالها العريض لتحل محلها أمارات السلبية والهروب: دوافع المأكل والجنس تتحول إلى نفور منهما واشمئزاز. الاندماج في الأنشطة المعتادة يتحول إلى تجنب وانزواء. وأخيرًا، الرغبة في الحياة والعيش تنطفئ وتحل محلها الرغبة في الفناء والموت.
هل الانفعال المؤلم هو العامل الحفَّاز في مرض الاكتئاب؟ إذا صح أن الاكتئاب هو اضطراب وجداني في أساسه لأمكن بالضرورة رد بقية أعراضه إلى اضطراب الوجدان وتفسيرها على أساس الحالة الانفعالية. إلا أن الحالة الداخلية المؤلمة لا تبدو في حد ذاتها سببًا كافيًا لإثارة بقية الأعراض الاكتئابية. إن حالات المعاناة الداخلية الأخرى (كالألم الجسمي أو الغثيان أو الدوخة أو قصر النفس أو القلق) قلما تؤدي إلى الأعراض التي تسم الاكتئاب (مثل التخلي عن الغايات الكبرى في الحياة أو انطفاء مشاعر الحب أو الرغبة في الموت). فالحق أن الذين يصابون بألم جسمي هم على العكس يقدِّرون أكثر من أي وقت مضى تلك الجوانب من الحياة التي سبق أن وجدوها ذات معنى وقيمة. زِد على ذلك أن حالة الحزن أو الأسى ليس لها من الخصائص ما نتوقع له أن يولِّد ما يميز الاكتئاب من تأنيب النفس وتشوهات التفكير وفقدان الدافع إلى الإشباعات المختلفة.
أما حصر الأولوية في الأعراض الفسيولوجية كاضطراب النوم والشهية والجنس فلا يخلو من مآخذ ومشكلات. فمن الصعب أن نجد أي تسلسل مفهوم يصل هذه الاضطرابات الفسيولوجية بظواهر مختلفة عنها كل الاختلاف مثل انتقاد الذات والنظرة السلبية إلى العالم وفقد استجابات الغضب والمرح. إن من الواضح والمؤكد أن نفس الأعراض الفسيولوجية (كفقد الشهية والنوم) حين تنشأ عن مرض جسمي حاد لا تؤدي إلى المكونات الأخرى التي يتفرد بها الاكتئاب.
المفتاح: الشعور بالفقدان أو الخسارة
كيف يمكن أن نفرز ظواهر الاكتئاب ونسلكها في سياق مفهوم؟ أبسط الطرق هو أن نسأل المريض عما يحزنه وأن نشجعه على أن يعبر عن الأفكار التي تلح عليه وتعاوده. يقدم معظم الاكتئابيين معلومات أساسية بعبارات تلقائية من قبيل: «إني حزين لأني عديم القيمة،» «لم يَعُد لي مستقبل،» «لقد خسرت كل شيء،» «لقد انتهت أسرتي،» «ليس لي أحد،» «لم يَعُد لي شيء في الحياة.» ليس من العسير أن يقف المرء على التيمة الرئيسية في عبارات مرضى الاكتئاب المتوسطة أو الشديد؛ إن المريض يرى أنه يفتقر إلى عنصرٍ ما أو صفة يعتبرها ضرورية لسعادته: القدرة على تحقيق أهدافه، الجاذبية الشخصية، ود الأسرة والأصدقاء، الممتلكات المادية، الصحة الجيدة، المكانة، المركز. مثل هذه التقييمات الذاتية تعكس الطريقة التي يدرك بها الاكتئابي وضعه الحياتي.
تتعلق التقييمات المحرفة لدى مريض الاكتئاب بتقلص مجاله الشخصي وانكماشه وتؤدي إلى الحزن (الفصل الثالث). إن تصوره لصفاته وعلاقاته ومنجزاته وكل ما هو موضع تقدير فيه هو تصور مشبع بفكرة الفقدان — فقدان ماض وحاضر ومستقبل. فحين يتأمل وضعه الحالي يجد عالمًا قاحلًا مجدبًا. ويحس أن المطالب الخارجية ثقيلة الوطأة عليه، تعتصره وتستنفد وسائله الهزيلة وتحول بينه وبين تحقيق مراده.
حين نتأمل مفهوم الخسران يجب أن نتفطَّن للأهمية المحورية للمعاني والمتضمنات. فما يمثل خسارة موجعة لشخصٍ ما قد يُعَد لدى شخص آخر شيئًا هينًا لا يؤبه له. لا بد أن ندرك إذَن أن مريض الاكتئاب منشغل في الحقيقة بخسائر افتراضية وخسائر موهومة. وهو ما يكاد يفكر في خسارة محتملة حتى يعدها حقيقة قائمة. من ذلك أن أحد مرضى الاكتئاب كان رد فعله المميز كلما تأخرت زوجته عن موعد وصولها أن يفكر: «ربما تكون قد ماتت في الطريق.» ثم يئوِّل الفقدان الافتراضي كواقعة فعلية ويبتئس ابتئاسًا شديدًا.
الآن، مع التسليم بأن فكرة الفقدان تؤدي إلى مشاعر الحزن، كيف يتأتى لهذا الإحساس بالفقدان أن يولد بقية أعراض الاكتئاب: التشاؤم، انتقاد الذات، الهروب – التجنب – التخلي، الرغبات الانتحارية، الاضطرابات الفسيولوجية؟
تطور الاكتئاب
قد يتعرض الشخص المستهدف للاكتئاب في مسار نشأته لألوان معينة من الظروف الحياتية المعاكسة التي تجعله حساسًا بدرجة زائدة. ظروف من قبيل فقد أحد الوالدين أو الرفض الدائم للشخص من قبل قرنائه. كما أن هناك ظروفًا أخرى أقل حدةً ووضوحًا قد تؤدي بالمثل إلى القابلية أو الاستهداف للاكتئاب. من شأن هذه الخبرات الصادمة المبكرة أن تؤهل الشخص للاستجابة المفرطة كلما صادف ظروفًا شبيهة بها في حياته اللاحقة، وتجعله أميل إلى الأحكام المطلقة المتطرفة في مثل هذه الظروف، فيرى أيَّ خسارة يمنى بها خسارة نهائية لا تعوَّض وأي شخص لا يكترث به كأنما يرفضه رفضًا تامًّا.
وهناك صنف آخر من المستهدفين للاكتئاب تنحصر مشكلتهم في أنهم قد وضعوا لأنفسهم منذ الصغر غايات مفرطة في الكمال والصرامة، بحيث يتقوض عالمهم وينهار كلما واجهوا في حياتهم اللاحقة إحباطات يتعذر اجتنابها.
إن الضغوط الحياتية التي تتسبب في حدوث الاكتئاب في مرحلة الرشد هي تلك التي تمس من الفرد جوانب حساسيته واستهدافه الخاص. من الأحداث المرسبة (المعجِّلة) للاكتئاب، والتي يتفق عليها العديد من التقارير الإكلينيكية والبحثية: انفصام علاقة هامة، الفشل في تحقيق هدف حيوي، فقد وظيفة، النكسات المالية، العجز الجسمي المفاجئ، فقد المكانة الاجتماعية أو السمعة. قد يحدث أي من هذه الأحداث اكتئابًا إذا كان يُعَد في نظر الفرد نضوبًا نهائيًّا تامًّا لمجاله الشخصي.
ليست خبرات الاكتئابي قبيل حدوث الاكتئاب بأقسى من خبرات غيره في الأغلب الأعم. إنما يختلف الاكتئابيون عن غيرهم في الطريقة التي يئولون بها حرمانًا ما. إنهم يلصقون بالخسارة معاني مغرِقة في التعميم ودلالات مبالغًا فيها إلى حد بعيد.
هذه حالة توضيحية تبين الطريقة التي تؤدي بها الظروف الصادمة المتضمنة لخسارةٍ ما إلى مجموعة الأعراض الاكتئابية. إنها حالة رجل هجرته زوجته على غير توقع. إن أثر الهجر على أحد الأزواج هو شيء يصعب توقعه. فمن الجلي أنه ليس كل من هجرته زوجته يصبح مكتئبًا حتى لو كان الهجر موجعًا له. فقد يكون لديه مصادر أخرى للإشباع – أفراد الأسرة والأصدقاء – يمكنه بها أن يسد الفراغ؛ إذ لو كان الأمر مجرد ثغرة أو فجوة جديدة في حياته فإنه عسِيُّ أن يتمكن بمرور الأيام من تحمل هذا الفقدان دون أن يقع في اكتئاب مرضي. غير أننا نعلم أن بعض الأفراد المستهدفين يستجيبون لمثل هذا الفقدان باضطراب نفسي جسيم.
يتوقف تأثير الفقدان، على نوع المعاني المرتبطة بالشخص المفتقد وشدتها؛ فالزوجة في مثالنا الحالي كانت محور خبرات مشتركة وأحلام وآمال بالنسبة لزوجها الذي هجرته. لقد نسج حولها شبكةً من الأفكار الإيجابية مثل: «هي جزء مني،» «هي كل شيء بالنسبة لي،» «إنني أستمتع بالحياة بفضلها،» «إنها دعامتي الأساسية،» «إنها تواسيني في محنتي.» تتراوح هذه الارتباطات الإيجابية بين ما هو واقعي وما هو وهمي خيالي شديد البعد عن الواقع. وبقدر هذه المغالاة والتصلب في التصورات الإيجابية يكون تأثير الفقدان على مجال المرء.
وحين يبلغ التفاعل المتسلسل الصورة المكتملة للاكتئاب؛ فإن شكوكه بنفسه تتسع وتنبؤاته الكئيبة تتمدد وتغدو تعميمات سلبيةً عن نفسه وعن عالمه وعن مستقبله. فيبدأ في اعتبار نفسه محرومًا حرمانًا مستديمًا من الإشباعات العاطفية والمالية أيضًا. بل يهوِّل فضلًا عن ذلك من حجم معاناته بأن يمسرح الحدث مسرحةً زائدة: «إنه فوق احتمال البشر.» أو «إنه كارثة مريعة.» مثل هذه الأفكار خليقة أن تضعف قدرته ودافعيته لامتصاص الصدمة.
ويهجر الزوج أنشطته وأهدافه التي كانت من قبل تمنحه إشباعًا ورضا. ويتراجع عن تطلعاته المهنية «لأنها لا معنى لها بدون زوجتي.» ولا يجد دافعًا إلى العمل أو حتى إلى العناية بنفسه «لأنها لا تستحق الجهد.» ويتفاقم كربه بالمصاحبات الفسيولوجية للاكتئاب مثل فقدان الشهية واضطراب النوم. وأخيرًا يفكر في الانتحار كوسيلة للهروب «لأن الحياة مؤلمة للغاية.»
وكذلك الحال بإزاء الأعراض الجسمية فهو يحدِّث نفسه: «لن أعود قادرًا على الأكل أو النوم مرةً ثانية.» ويخلص إلى أنه في تدهور جسدي دائم. كذلك يلحظ المظاهر الاجتماعية لمرضه من نقص الإنتاجية وتجنب المسئولية والانزواء عن الناس؛ فيتزايد انتقاده لنفسه. ويفضي تأنيب الذات إلى مزيد من الحزن. الأمر كما نرى يتصل ويتمادى في حلقة مفرغة.
تُظهِرنا حكاية الرجل الذي تهجره زوجته على تأثير الفقدان وارتجاعاته لدى الشخص المستهدف للاكتئاب. وبوسعنا الآن أن ندع هذه الحالة الخاصة جانبًا لكي نؤسس تعميمات عن تطور الاكتئاب. فقد تقدح التفاعل الاكتئابي المتسلسل ضروب أخرى من الفقدان مثل الفشل في المدرسة أو في الوظيفة، أو ضروب أخرى من الحرمان الأكثر إزمانًا وتدرجًا مثل اضطراب العلاقات الشخصية المحورية في حياة المرء.
يمكننا أن نمُد مفهوم التفاعل الاكتئابي المتسلسل؛ بحيث يتسع للإجابة عن المسائل الآتية: لماذا يعاني مريض الاكتئاب من هذا النقص في اعتبار الذات؟ ولماذا يتملكه هذا التشاؤم المطبق؟ لماذا يوبخ نفسه بهذه القسوة؟ لماذا ينسحب من الحياة؟ لماذا يعتقد أن حالته ميئوس منها؟
نقص اعتبار الذات وانتقادها
حين يتفكر مريض الاكتئاب في المحن التي ألمت به (انفصال، رفض، هزيمة، خيبة أمل)؛ فإنه يشرع في تقييم نفسه في ضوء هذه الخبرات. فيعزو عسره وشدته إلى نقيصة شائنة فيه. فيستنتج الزوج المهجور مثلًا: «لقد خسرتها لأنني شخص كريه غير جدير بالحب.» ليس هذا الاستنتاج، بطبيعة الحال، غير واحد من عديد من التفسيرات الممكنة، مثل عدم انسجام الطبائع والشخصيات، أو مشاكل الزوجة ذاتها، أو رغبتها في مغامرة تتعلق بالتماس الإثارة أكثر مما تعني أي تغيير حقيقي في مشاعرها تجاه زوجها.
عندما يعزو المريض سبب الفقدان إلى نفسه، يتحول الصدع في مجاله الشخصي إلى هوة كبيرة: فلا يعود يعاني من الفقدان وحده، بل هو «يكتشف» نقصًا في نفسه. ويميل إلى تضخيم هذا النقص إلى حد بعيد. فتفكر المرأة التي هجرها حبيبها مثلًا: «لقد علت بي السنُّ وصرت دميمة الشكل. من المؤكد أن شكلي أصبح قبيحًا منفرًا». ويفكر الرجل الذي خسر وظيفته بسبب انهيار عام في الاقتصاد: «إنني غشيم أخرق، وأضعف من أن أكسب قوتًا».
ينشغل المريض بنقصه المزعوم ويتخذ انشغاله أشكالًا كثيرة. فهو يقيِّم كل خبرة من خبراته وفقًا لهذا النقص. وهو يئوِّل أي خبرة تحتمل أكثر من تفسير أو تحمل نبرة سلبية خفيفة كدليل على نقصه وقصوره. فهذه امرأة تعاني من اكتئاب خفيف تستنتج بعد مشادة مع أخيها «إنني غير قادرة على أن أكون محبوبةً أو أن أمنح حبًّا،» ولا يلبث اكتئابها أن يشتد، رغم أن لديها في الحقيقة العديد من الأصدقاء الأقربين ولديها زوجًا محبًّا وأطفالًا. وحين تكون إحدى صديقاتها مشغولةً بحيث تقصر معها الحديث على الهاتف تقول لنفسها «إنها لا تريد أن تتحدث معي بعد ذلك.» وحين يعود زوجها من مكتبه متأخرًا ترى أنه كان يقضي الوقت في مكانٍ ما ليتجنب البقاء إلى جانبها. وحين يتذمر أطفالها على المائدة تفكر: «لقد خذلتهم.» الحق أنه في جميع هذه الحالات كانت هناك تفسيرات أقرب إلى العقل والقبول، ولكن المريضة تجد صعوبة في الالتفات إليها أو إلى أية تفسيرات لا تنعكس عليها سلبًا.
إن ميل المرء إلى مقارنة نفسه بغيره قد ينال من اعتباره لذاته؛ بحيث يتحول كل لقاء له بشخص آخر إلى تقييم سلبي للنفس. هكذا يفكر مريض الاكتئاب عندما يتحدث مع الآخرين «لست متحدثًا جيدًا … لست جذابًا كبقية الناس.» وحين يتمشى بالطريق يفكر «هؤلاء الناس يبدون جذابين، ولكني لست كذلك.» «إن مشيتي رديئة ونفسي كريه.» وإذ يرى أمًّا مع طفلها يفكر «إنها والدة طيبة ولست والدًا طيبًا.» وحين يشاهد مريضًا آخر يعمل بجِد واجتهاد في المستشفى يفكر «إنه مجد مجتهد بينما أنا كسول عاجز.»
كثيرًا ما نجد حين نراجع التاريخ الشخصي للمكتئبين أن المريض كان يستند في حياته إلى هذه الصفة التي يحط الآن من قدرها. وأنه كان يعتمد عليها في مواجهة الضغوط الحياتية المعتادة والسيطرة على المشكلات الجديدة وبلوغ الأهداف الهامة. لذا فهو حين يستنتج (خطأً في الأغلب) أنه غير قادر على السيطرة على مشكلة خطيرة أو تحقيق هدفٍ ما أو تدارك خسارة؛ فإنه يبخس صفته المميزة ويغض من شأنها. وإذ تلوح له هذه الصفة كأنها تخبو وتتلاشى يداخله اعتقاد أنه لن يعود قادرًا على أن يجد في الحياة إشباعًا أو رضًا وأن كل ما يمكن أن يتوقعه منها هو الألم والمعاناة. بذلك يتقدم الاكتئابي من الإحباط إلى تأنيب الذات إلى التشاؤم.
قد يفيدنا لتوضيح ميكانيزم تأنيب الذات أن نتأمل التسلسل الذي يجري حين يكون الشخص العادي بصدد تأنيب شخص آخر قد ضايقه وتعدى عليه. إنه في البدء يحاول أن يجد في هذا الشخص المتعدي سمة سيئة يفسر بها سلوكه البغيض — الجلافة … الأنانية … إلخ. عندئذٍ يعمم هذه النقيصة المميزة لتشمل صورة المتعدي بكاملها — «إنه شخص أناني،» «إنه كريه.» ثم يشرع بعد هذا الحكم الأخلاقي في تدبر طرق يعاقبه بها. إنه لا يكتفي بأن يزدريه ويحط من شأنه، بل يهاجم فيه، إن واتته الفرصة، نقطة ضعف يؤذيه بها ويصميه منها. وقد يشاء في النهاية أن يقطع علاقته بهذا الشخص الذي تعدى عليه وآلمه، وأن ينبذه نبذًا تامًّا.
بنفس الطريقة يتفاعل الاكتئابي المؤنب لذاته مع نقيصته المفترضة الخاصة ويجعل من نفسه هدفًا لهجومه. إنه يَعُد نفسه خاطئةً مذنبة جديرة باللوم. وهو يتجاوز في ذلك وصية الكتاب المقدس «إذا ساءتك عينك فاقلعها.» ويمد إدانته الأخلاقية من السمة المحددة المحصورة لتشمل شخصيته كلها وجماع مفهومه لذاته، مصحوبة في الأغلب بمشاعر الاشمئزاز من النفس والنفور منها.
لنتأمل الآن الآثار المترتبة على انتقاد الذات وإدانتها ورفضها. إن المريض ليتفاعل مع هجماته ذاتها كما لو كانت موجهة إليه من شخص آخر، فيشعر بالألم والحزن والخزي.
حين يقيِّم مريض الاكتئاب نفسه تقييمًا سلبيًّا؛ فإنه لا يستشعر غضبًا تجاهها لأنه ببساطة — في حدود إطاره المرجعي — يقيم حكمًا موضوعيًّا سديدًا. وهو بنفس القياس يستجيب استجابة الحزن (لا الغضب) حين يعتقد أن شخصًا آخر ينتقصه ويحط من قدره.
التشاؤم
يندفع التشاؤم مثل موجة عارمة إلى المحتوى الفكري لمرضى الاكتئاب. إننا جميعًا نميل بدرجة ما إلى أن «نعيش في المستقبل». وحين نكون حيال حدثٍ ما فنحن لا نفسر خبرتنا له وفق ما يعنيه هذا الحدث في لحظته الحاضرة فقط، بل وفق نتائجه المحتملة أيضًا. فحين يتلقى شاب إطراءً من رفيقته؛ فإنه يتطلع إلى مزيد من الإطراءات بأمل ولهفة. وقد يحدث نفسه: «إنها تحبني حقًّا.» ويتنبأ بأن علاقته بها ستزداد ودًّا وألفة. أما إذا خيبت ظنه أو رفضته فهو حقيق أن يتوقع تكرارًا لمثل هذه الخبرة الأليمة.
للاكتئابيين ولع خاص بتوقع كروب ومحن في المستقبل، والإحساس بهذه المحن والكروب كما لو أنها تحدث في الحاضر أو أنها حدثت بالفعل. كشأن رجل الأعمال الذي ألمت به انتكاسة بسيطة؛ فبدأ يفكر في إفلاسه النهائي. وإذ استغرق تفكيره في تيمة الإفلاس؛ فقد صار يَعُد نفسه مفلسًا، وبالتالي صار يحس بنفس الدرجة من الحزن كما لو كان الإفلاس قد حلَّ به حقًّا وفعلًا.
تنزع توقعات الاكتئابيين وتنبؤاتهم إلى الغلو والتطرف والإفراط في التعميم. وهم إذ يعتبرون المستقبل امتدادًا للحاضر يتوقعون للحرمان والهزيمة أن يمتدا إلى الأبد. فإذا ما أحس الاكتئابي بالتعاسة الآن؛ فذاك يعني عنده أنه سوف يبقى تعيسًا على الدوام. ويعبر عن هذا التشاؤم الكلي المطلق بعبارات مثل «لن ينصلح حالي أبدًا.» «الحياة لا معنى لها، ولا سبيل إلى تغيير هذه الحال التعسة.» يرى مريض الاكتئاب أنه ما دام لا يملك أن يحقق أحد أهدافه الكبرى الآن فهو لن يحققه أبدًا. ولا يكاد يرى إلى إمكان أن يستبدل به أهدافًا مجزية أخرى. وهو يفترض فوق ذلك أنه إذا بدت مشكلةً ما مستعصية الآن؛ فسوف تبقى كذلك ولن يكون بمقدوره أبدًا أن يجد حلًّا لها أو أن يتجاوزها بشكلٍ ما ويتخطاها.
ثمة مجرى آخر يفضي بمريض الاكتئاب إلى التشاؤم. ينبع هذا المجرى من مفهومه السلبي للذات. وقد سبق أن لاحظنا أن ما يجعل صدمة الفقد مدمرة بشكل خاص هو أنها تُدخِل في روعه أن به خللًا ما. وحيث إنه يعتبر هذه النقيصة المفترضة جزءًا مدمجًا بذاته؛ فهو أميل إلى أن يعتبرها أبدية مستديمة. فلا أحد يستطيع أن يسترد له موهبة فقدها أو ميزة خبت فيه. بل إن نظرته التشاؤمية لَتفضي به إلى أن يتوقع أن عيبه هذا سوف يتفاقم باستمرار.
مثل هذا التشاؤم الاكتئابي حقيق أن يصدم أي شخص يتكئ على نفسه للوصول إلى أهدافه الحياتية الكبرى معتمدًا على قدراته ذاتها وعلى جاذبيته الشخصية ونشاطه وقوته. لدينا على سبيل المثال كاتب مكتئب لم ينَل أحد أعماله من الاستحسان والتقريظ ما كان يتوقعه. لقد أدى به فشله في أن يعيش وفق توقعاته إلى استنتاجين: الأول أن قدرته الكتابية في تدهور، والثاني مفاده أن القدرة الإبداعية شيء داخلي صميمي؛ أما وقد فقد هذه القدرة فلا أحد يملك أن يستعيدها له. لقد فقدها إذَن فقدًا نهائيًّا لا رجعة فيه.
وردت استجابة مماثلة لذلك عن طالب لم ينجح في إحدى المسابقات لنيل جائزة في الرياضيات، فكان يحدث نفسه «لقد فقدت قدرتي الرياضية، ولن أنجح بعد ذلك في أي موقف تنافسي.» وحيث إن عدم الفوز كان معادلًا عنده للفشل التام؛ فمعنى ذلك أن حياته بأسرها، بماضيها وحاضرها ومستقبلها، حياة فاشلة.
وهذه امرأة مهنية نشطة ألمَّ بها اضطراب مؤقت بالظَّهر وكان عليها أن تلازم الفراش؛ فأصابها الاكتئاب وخلصت إلى أنها ستظل طوال عمرها طريحة الفراش. لقد اعتبرت العجز المؤقت، دون وجه حق، عجزًا دائمًا لا شفاء منه.
وإذ يعم التشاؤم في نفس المريض ويغلف توجهه الانهزامي التام، يغدو تفكيره محكومًا بأفكار مثل «انتهت المباراة … ليس لديَّ فرصة ثانية. لقد فاتتني الحياة … ولم يَعُد هناك وقت لتدارك أي شيء.» إن خسائره تبدو له نهائية ومشكلاته لا حل لها.
هذا التشاؤم لا يلتهم المستقبل البعيد فحسب، بل يتغلغل إلى كل رغبة وكل مهمة يضطلع بها المريض. فربة البيت التي تعدِّد أشغالها المنزلية تتنبأ آليًّا قبل البدء في أي شغل جديد أنها لن تستطيع إتمامه. والطبيب المكتئب يتوقع قبل مناظرة أي مريض جديد أنه لن يستطيع الوصول إلى تشخيص.
هذه التوقعات السلبية هي من القوة والرسوخ؛ بحيث لا تزعزعها حتى الخبرات الناجحة. فحتى لو نجح المريض في مهمةٍ ما (وصول الطبيب إلى تشخيص مثلًا)؛ فهو يتوقع الفشل في المهمة التالية لها مباشرة. من الجليِّ أنه يتغاضى عن خبراته الناجحة أو يفشل في تمثِّلها؛ تلك الخبرات التي تناقض فكرته السلبية عن نفسه.
تضاعف الحزن والتبلد
رغم أن حدوث الاكتئاب قد يكون سريعًا مفاجئًا؛ فإن نموه الكامل يستغرق أيامًا أو أسابيع، يُحس المريض خلالها تزايدًا تدريجيًّا في شدة الحزن وغيره من الأعراض، إلى أن يبلغ الحضيض. فكل معاودة لفكرة الفقدان تأتي قوية شديدة؛ بحيث تمثل خبرة فقدان جديدة تضاف إلى المخزون السابق من خبرات الفقدان. ومع كل فَقدٍ جديد يتولد مزيد من الحزن.
وهو لا يغضب بسهولة لأنه يرى نفسه مسئولًا عن أي إهانات أو إساءات تلحق به من جانب الآخرين وجديرًا بها.
يميل الاكتئابي إلى أن يفكر بحدود مطلقة، وهذا مما يسهم في الإثارة التراكمية للحزن؛ فهو يمعن في الأفكار المتطرفة من قبيل: «الحياة لا معنى لها.» «لا أحد يحبني.» «إنني عاجز تمامًا.» «لم يبقَ لي من شيء.»
وينتقص الاكتئابي من مزاياه التي ارتبطت عنده بالرضا والإشباع. وهو بذلك ينزع الرضا عن نفسه ويقصيه؛ فحين ينتقص مريض من جاذبيته فهو في حقيقة الأمر يقول «لم يَعُد يسرني مظهري البدني ولا الإطراءات التي أنالها بفضله ولا الصداقات التي أعانني على تكوينها والاحتفاظ بها.» ولا شك أن فقد الإشباع يعمل على تشغيل آلية تعكس اتجاه الإثارة الوجدانية؛ من السعادة إلى الأسى، وأن طوفان التشاؤم السائد يعمل على استمرار حالة الحزن ودوامها.
التغيرات الدافعية
من أغرب خصائص مريض الاكتئاب الشديد وأكثرها إلغازًا خاصية انعكاس الأهداف الكبرى في الحياة؛ فهو لا ينزع فقط إلى تجنب الخبرات التي كانت من قبل ترضيه أو تمثل التيار الرئيسي لحياته، بل ينحدر إلى حالة من السكون واللافعالية. وربما بلغ به الأمر حد الرغبة في الانسحاب الكامل من الحياة عن طريق الانتحار.
ولكي نفهم الصلة بين التغيرات التي طرأت على دافعية المريض وبين إدراكه للفقدان، من المفيد أن نتمعن في الطرق التي استسلم بها وتخلَّى. إنه لم يَعُد يحس بالانجذاب إلى ضروب المغامرات التي اعتاد من قبل أن يقوم بها تلقائيًّا. بل يجد في الحقيقة أن عليه أن يُكرِه نفسه بالقوة كي يزاول أنشطته المعتادة. إنه ليسوق نفسه لتأديتها لا لأنه يعتقد أنها واجبة الأداء عليه أو أنه «يصح أن يؤديها» أو يريد أن يؤديها، بل لأن الآخرين يضطرونه إلى ذلك. وهو يجد أن عليه أن يعمل ضد مقاومة داخلية كبيرة، كما لو كان يحاول قيادة سيارة «مفرملة» أو يسبح ضد التيار.
تكشف خبرات الحياة اليومية — وكذلك عدد من التجارب الجيدة التصميم — أن المرء حين يعتقد بعجزه عن تأدية مهمة ما فإنه يكون أميل إلى تركها. فهو يتبنى موقف «لا جدوى من المحاولة» ولا يجد أي دافع تلقائي للقيام بهذه المهمة. زد أن اعتقاده في عبث المهمة وعدم جدواها، حتى لو أنجزت بنجاح، من شأنه أن يخفض دافعيته إلى أدنى حد.
وما دام مريض الاكتئاب يتوقع نتائج سلبية؛ فهو لا يستشعر أي حافز داخلي لبذل أي جهد. ولا يرى أي طائل من المحاولة لأنه يعتقد أن الأهداف لا معنى لها؛ فإذا كانت القاعدة أن يتجنب الناس المواقف التي يتوقعون أنها مؤلمة؛ فإن مريض الاكتئاب الذي يرى معظم المواقف باطلة أو مملة أو مؤلمة، لا غرو يرغب في تجنب حتى الحاجات الأساسية وأسباب الراحة. وهذه الرغبات التجنبية عنده هي من القوة؛ بحيث تفوق أي ميول تجاه النشاط الهادف البناء.
إن بالاكتئابي رغبة شديدة في الركون إلى حالة سلبية. ويمكن توضيح الإطار الذي تمثل فيه هذه الرغبة بهذا التعاقب من الأفكار: «إنني منهك وحزين بحيث لا أستطيع عمل أي شيء. لو أني قمت بأي نشاط؛ فلن أصير إلا إلى أسوأ. ولكن لو ظللت راقدًا فربما أمكنني أن أدخر قوتي فتذهب عني المشاعر المؤلمة.» غير أن هذه المحاولة للهروب من المشاعر المؤلمة من طريق الركون السلبي لا تنجح للأسف ولا تؤدي إلى شيء، اللهم إلا المزيد من الكرب. وبدلًا من أن يحظى المريض بمهلةٍ ما أو انعتاقٍ من أفكاره ومشاعره المؤلمة؛ فإنه يرسف في قيدها ويصير أكثر انشغالًا بها.
السلوك الانتحاري
يمكن أن ننظر إلى الرغبات والمحاولات الانتحارية على أنها التعبير النهائي عن الرغبة في الهروب. فالاكتئابي يرى أن مستقبله مثقل بالألم والعناء، ولا يجد من سبيل لتخفيف عذابه وتحسين وضعه، ولا يعتقد أنه سوف يصير إلى الأفضل. وبناءً على هذه المقدمات يبدو الانتحار خطوة منطقية. فالانتحار لا يَعِده فقط بوضع نهاية لشقائه وبؤسه بل يفترض أيضًا أن يرفع عن أسرته عبئًا ثقيلًا. وما يكاد الاكتئابي يرى الموت أشهى إليه من الحياة حتى يشعر بانجذاب نحو الانتحار. وبقدر ما تبدو حياته أشد بؤسًا وألما يشتد توقه إلى وضع نهاية لها.
تتبين هذه الرغبة في وضع حد للحياة عن طريق الانتحار في تفجع هذه المكتئبة بعد أن نبذها حبيبها: «لا معنى للعيش … لم يعد لي شيء هنا. إنني بحاجة إلى الحب وقد فقدته إلى الأبد. لا يمكنني أن أكون سعيدة بدون حب. بل هي التعاسة التي تلازمني يومًا بعد يوم وتجعل استمرار الحياة لا معنى له ولا مبرر.»
إنها الرغبة في الهرب من العبث الظاهر للوجود، تتجلى أيضًا في هذا التيار من الفكر لمريض آخر: «الحياة تعني مكابدة يوم آخر ليس غير. إنها لا تؤدي إلى أي معنى، وليس بها شيء يمكن أن يمنحني أي رضا أو إشباع. لا مستقبل هناك، إنني لم أعُد أطيق الحياة. إن مجرد الاستمرار في العيش هو حماقة وغباء.»
وهناك مقدمة أخرى تبطِّن الرغبات الانتحارية، هي اعتقاد المريض بأن الجميع سيكونون بحال أفضل إذا هو مات. إنه يعتبر نفسه تافهًا لا نفع منه، ويعتبر نفسه همًّا وعبئًا. ومن ثَم فلا وجه لأن تتضرر أسرته من موته، وهل يتأذى من يضع عن نفسه عبئًا؟! كانت إحدى المريضات تتصور أنها حين تنتحر إنما تقدم معروفًا لوالديها وفضلًا، فهي بالانتحار لا تنهي أوجاعها فحسب، بل تريح والديها أيضًا من أعباء نفسية ومالية جسيمة: «إنني أستنفد مالهما وليس شأني غير ذلك، وبوسعهما حين أريحهما مني أن ينفقا هذا المال فيما هو أفضل، ولا يضطر والدي إلى أن يرهق نفسه في العمل كل هذا الإرهاق. يمكنهما أيضًا أن يسافرا حول العالم. أنا لست سعيدة بأخذ هذا المال الذي يمكن أن يتمتعا به ويسعدا.»
الدراسات التجريبية للاكتئاب
الأحلام وغيرها من ضروب المادة الفكرية
تتجلى تيمة الحرمان والخذلان في الأحلام النموذجية التالية لمرضى الاكتئاب: هذا مريض يحاول جاهدًا في الحلم أن يتصل هاتفيًّا بزوجته؛ فيضع قطعة العملة الوحيدة معه في التليفون (الذي يعمل بالعملة) لكنه يدير رقمًا خطأً، ومن ثم ضاعت عليه المكالمة ولم تَعُد لديه عملة ولم يتمكن من الاتصال بزوجته فقعد حزينًا يائسًا. وهذا مريض آخر يحلم أنه في شدة العطش فيطلب قدحًا من الجعة، لكنه يؤتى بشراب هو مزيج من الجعة و«السكوتش»! فيقعد محبطًا يائسًا.
من الطرق الأخرى للتحقق من أولوية الاتجاهات السلبية في الاكتئاب هو أن نحاول تصحيحها ثم نلاحظ النتائج ونسجل الفرق. فإذا قمنا بتعديل المفهوم السلبي غير الواقعي للمريض عن قدراته ومستقبله والتخفيف من حدته؛ فقد نتوقع عندئذٍ للأعراض الثانوية للاكتئاب (مثل هبوط المزاج وفقد الدافعية البنَّاءة) تحسنًا مناظرًا.
ركزت دراسة مماثلة لخمسة عشر مريضًا اكتئابيًّا نزيلًا بالمستشفى على الصعوبة التي يجدها مرضى الاكتئاب في التعبير اللفظي عن أنفسهم. فكانوا يعطون مجموعة من المهام تتدرج من الأبسط (قراءة فقرة بصوت عال) حتى الأشد صعوبة (أن يرتجل المريض كلمة قصيرة في موضوع مختار ويحاول إقناع الباحث بوجهة نظره). وقد تمكن الجميع من أداء هذه المهمة الصعبة باقتدار. وهنا أيضًا وجدنا أن إنجازهم لهذه المهام بنجاح قد أدى إلى تحسن كبير في تقييمهم العام لأنفسهم ولمستقبلهم. كذلك تحسن مزاجهم وارتفع.
نظرة إجمالية للاكتئاب
إن حزن المريض هو نتيجة محتومة لإحساسه بالحرمان ولتشاؤمه وانتقاده لذاته. أما التبلد فينتج عن انسحابه الكامل وتخليه وركونه. كذلك ينجم فقد التلقائية وتنجم الرغبات الهروبية والتجنبية والانتحارية من طريقته في تقييم حياته. ويؤدي به اليأس إلى فقد الدافعية؛ فحيث إنه يتوقع نتيجة سلبية لأي فعل يأتيه؛ فإنه يفقد الحافز الداخلي على الانخراط في أي نشاط بنَّاء. ويؤدي هذا التشاؤم في النهاية إلى الرغبة في الانتحار.
تمدنا الدراسات التجريبية للاكتئاب بمفاتيح للتدخل العلاجي؛ فحين يساعد المعالج مريضه على تبين تحريفاته الدائمة لخبراته فقد يخفف ذلك من انتقاده لذاته ومن تشاؤمه. وعندما تفك هذه الحلقات المحورية في السلسلة نكون قد قصمنا الدائرة العنيدة للاكتئاب؛ فتعود المشاعر والرغبات السوية للظهور من جديد. وكما سنرى في شرح بقية الاضطرابات الانفعالية؛ فإن الدفعة الكبرى تجاه الصحة والشفاء تتحقق بتصحيح الاعتقادات الخاطئة للمريض وإعادة تشكيلها.