وقوع البلاء ولا انتظاره
«تمثل مشكلة القلق نقطة عُقدية تنبع عندها أهم التساؤلات وأكثرها تنوعًا واختلافًا، وتمثل لغزًا نرى أن حله حري بأن يلقي فيضًا من الضوء على وجودنا العقلي بأسره.»
القلق
ليس القلق انفعالًا شائعًا يعرفه جميع البشر فحسب، بل إننا نعتبره علامة على إنسانية الإنسان. فمن ذا الذي لم تمسَّه الشفرة الحادة للرعب إثر تعرض شيء عزيز لديه لخطر مفاجئ؟ ومن ذا الذي لم تتقاذفه موجات لا تنقطع من الضيق والكرب وهو بانتظار مواجهة عصيبة؟ لقد أكد فرويد (١٩١٥–١٩١٧م)، الذي أثار الاهتمام بظاهرة القلق كما لم يثره أي كاتب آخر، عمومية هذه الظاهرة إذ يقول:
«لست بحاجة إلى أن أعرفكم بالقلق. فكل منا قد عانى مرةً هذا الإحساس، أو على الأصح هذه الحالة الانفعالية، بطريقته الخاصة. غير أني أعتقد أن السؤال الذي لم يطرح كما ينبغي هو: لماذا يعاني العصابيون على الأخص قلقًا أكثر وأشد بكثير من بقية الناس؟»
وظيفة القلق
هناك جمع كبير من الرأي يؤيد ما ذهب إليه فرويد من أن القلق هو نذير بخطر. يرى فرويد (١٩٢٦م) أن القلق تحذير إما من خطر خارجي أو خطر داخلي (مثل انطلاق وشيك لرغبة محرَّمة). ويستجيب الفرد لهذا التحذير بأن يتهيأ للفعل الكفيل بمغالبة الخطر الخارجي، أو بأن يحرك دفاعات نفسية يحتمي بها من الخطر الداخلي.
غير أن هذا التصور للقلق بحاجة إلى إعادة نظر. فهل صحيح أن القلق هو منبه هام لتهيئة الفرد جسديًّا ونفسيًّا لمواجهة تهديدٍ ما؟ وما هو دليلنا على أن القلق شرط ضروري لاستجابات الطوارئ وليس تشتيتًا بغيضًا؟ وفيم كل هذه الثقة بأن القلق دعامة للبقاء وظهير؟ إن بإمكاننا بالتأكيد أن نتصور حالات كثيرة يستطيع فيها المرء أن يتهيأ للفعل المباشر دون أن يشحن نفسه بالقلق ابتداءً. فيستطيع الرياضي مثلًا أن يستنفر إمكاناته للتو ليأتي بحركة خاطفة، كأن يسدد لاعب الكرة ركلة نهائية في المرمى أو يدرك العدَّاء خط النهاية بدفعة أخيرة. إن حافز الموقف التنافسي كافٍ وحده، دون استعانة بالقلق، لأن ينشِّط الرياضي جهازه العصبي المركزي بسرعة ويحرك جسمه بالتالي حركة توافقية. فإذا كان المرء قادرًا على استجابات الطوارئ دون قلق (أو غضب) فما الذي يدعونا إلى توقع القلق أو استلزامه كي يدفعه إلى الفعل الملائم في موقف الخطر؟
إن القلق من هذا المنظور هو شعور يأتي بعد تقدير الخطر. وهو يصاحب السلوك التكيُّفي ولا يسبقه. أي أنه لا يسهم في التعاقب التكيُّفي. وحين يتأتى للقلق أن يزاحم السلوك التكيُّفي ويتعدى عليه فمن الأرجح أن يؤدي إلى تأثير ضار أو معطَّل. ألم يأنِ للذين يعزون إلى القلق وظيفةً مفيدةً أن يقولوا قولًا سديدًا وأن يبحثوا عن حجج أكثر تماسكًا وإقناعًا يدعمون بها موقفهم؟
تثير فكرة غرضية القلق (بوصفه حافزًا لاستجابات الطوارئ ومحركًا لجهاز البقاء) أسئلة أخرى. لماذا ننسب مثل هذه الوظائف التكيُّفية المحورية لأحد الانفعالات (القلق) دون غيره من الانفعالات كالحزن أو الحرج أو السرور؟ صحيح أن كل الانفعالات تضيف أبعادًا للخبرة البشرية، غير أننا في حالتنا المعرفية الراهنة نرى أن من يسبغ على القلق وظائف صحية هو أشبه بمن يجعل من المحنة فضيلة.
حتى غرضية القلق الواقعي لم تكفِ نفسها عند هؤلاء فألحقوها بمفهوم القلق العصابي. يسلِّم فرويد (١٩٢٦م) بأن القلق العصابي يتسبب عن إدراك خطر (داخلي) ناجم من الدفعات اللاشعورية. وأن ما يثير القلق هو الخوف مما عساه أن يحدث لو أن قوى الكبت فشلت في صد المطالب الغريزية ومنعها من الانطلاق في فعل اندفاعي. فلو أفلت زمام الطاقات الغريزية المحرَّمة أو نشطت من عقالها فإن هذه الطاقات نفسها تؤدي عندئذ إلى القلق.
القلق والخوف
تؤكد هذه التعريفات أن الخوف يعني تقدير خطر فعلي أو ممكن. وبهذا المعنى فإن الخوف يمثل عملية معرفية – كمقابل للاستجابات الانفعالية. هذه العملية السيكولوجية الخاصة هي الدراية (أو الإدراك أو التوقع) بأن شيئًا ما غير مرغوب قد يقع.
عندما تبدأ العاصفة الرعدية بالفعل؛ فإن الخوف ينشط ويحدِّث الشخص نفسه «أخشى أن يصعقني البرق ويقتلني». هذه العبارة تكشف ماهية الخوف: «تقدير أذًى ممكن». ينبثق مفهوم الخوف إذَن من العواقب المحتملة للعاصفة الرعدية، وهي أن يُقتل المرء. عند هذه النقطة ينشط خوفه الذي كان من قبل كامنًا إبان الطقس الهادئ ويثور قلقه؛ فيشعر بالارتعاش والعصبية والتوتر، يتسارع نبضه ويدق قلبه ويغزر عرقه. الخوف إذَن هو «تقدير الخطر»، أما القلق فهو الحالة الشعورية غير السارة والاستجابة الفسيولوجية التي تحدث عندما يثار الخوف.
حين يقول شخصٌ ما إنه خائف من الجسور أو من المباني العالية أو من التليفونات فبمَ يخبرنا؟ من البيِّن أنه ليس خائفًا من الشيء المادي أو تجهيزاته، بل من مجموعة معينة من الظروف. إنه خائف من النتائج المحتملة لوجوده على الجسر أو لاتصاله بالهاتف أو تلقِّيه مكالمة أو لوجوده في مبنًى مرتفع أو بالقرب منه؛ فهو يتوقع أن وجوده في موقف معين يعرضه لخطر شخصي. فخوفه من الجسور مثلًا يعكس همه من احتمال إصابته أو غرقه، إما بسبب انهيار الجسر أو بسبب سقوطه منه أو قفزه من الحاجز. وخوفه من المباني العالية قائم على تصوره أنه قد يهوي من النافذة أو أن المبنى قد ينهار. أما العنصر الذميم في عمل اتصالات هاتفية فهو قابليته للانجراح بالصدمة الاجتماعية، كأن يبدو أحمق في نظر المتحدث على الطرف الآخر من الخط (سنعرض لمثل هذه الحالة في الفصل الخاص بالرهاب).
ينشط الخوف حين يقترب الشخص من الموقف المهدِّد. غير أنه قد ينشط أيضًا بمجرد أن يتحدث الشخص عن الموقف الخطر أو يفكر فيه أو يتخيله؛ فالإمعان في الخوف يجعل الموقف المهدد أكثر بروزًا ووشوكًا، أي أنه يستحضر الخطر البعيد إلى «هنا والآن»، فلا يعود الشخص يستشعر الخطر كشيء بعيد في المكان والزمان بل هو يُسقِط نفسه في الموقف الخطِر.
لا يختلف الكرب (القلق) الناجم من توقع معاناة جسدية (كأخذ حقنة) اختلافًا كيفيًّا عن ذلك الكرب الناجم من توقع صدمة نفسية اجتماعية (كالإذلال والمهانة). ومعظمنا يعرف التوتر السابق للامتحانات أو السابق لإلقاء كلمة أو التمثيل أمام مجموعة. تشمل أصناف الصدمات الجسمية الشائعة: الإصابة والمرض والموت. أما المخاوف الاجتماعية الشائعة فتدور حول احتمال الاستنكار، وفقدان علاقة هامة، والرفض.
ثمة فوائد معينة لهذا التمييز السيمانتي (الدلالي) بين الخوف والقلق؛ فهو يتحاشى البناءات السيمانتية (الدلالية) المتعثرة من مثل «القلق الواقعي»، «القلق الموضوعي»، «القلق المعقول واللامعقول». إن من الخلط أن ننعت انفعالًا أو حالة شعورية بنعوت لا تناسب غير أفكار أو مفاهيم. هل يصح على سبيل المثال أن نقول عن ألم بالبطن إنه «مغص غير عقلاني»؟!
بناءً على التعريفات التي اقترحناها يمكن أن ينعت خوفٌ ما بأنه موضوعي أو واقعي إذا كان هناك خطر حقيقي أي إذا كان من شأن أي ملاحظ نزيهٍ أن يسمي الموقف موقفًا خطيرًا بالفعل. بالمثل يمكن للخوف (وليس القلق) أن يسمى لا واقعيًّا. إن صفات مثل «معقول» أو «لا معقول» يمكن أن تستخدم على الرحب والسعة لتصف مفهوم الخوف: فيكون الخوف معقولًا إذا كان قائمًا على افتراضات معقولة، وعلى المنطق والاستدلال، ويكون لا معقولًا إذا تأسس على افتراضات خاطئة أو استدلال مغلوط.
التوجه المستقبلي للخوف
إذا سألت شخصًا ما عن أفكاره في الوقت الذي يشعر فيه بالقلق، يتضح لك أنها تنطوي على توقع حدث غير سارٍّ قد يحدث في المستقبل. فقد أدلى أحد المرضى على سبيل المثال بارتباط الأفكار التالية بفورات القلق التي عاناها على مدار أسبوع: دخل عليه رئيسه الحجرة فقال الشاب في نفسه «ربما ينوي هذا الرجل أن يخسف بي إلى وظيفة أدنى.» ولما جدَّ فيما كان يعمله وأجاد فيه خامره هذا الهاجس «إذا بالغت في إتقان ما أعمله فقد يغرقني هذا الرجل حقًّا في أعمال أخرى، ولن أستطيع عندئذٍ ملاحقتها.» فأثار فيه هذا الخاطر مزيدًا من القلق. وعندما ذهب إلى طبيبه لإجراء فحص روتيني كان يحدث نفسه «ربما يكتشف الطبيب عندي مرضًا خطيرًا لا أعلم به.» والنتيجة هي القلق مرة ثانية.
وهذا شاب آخر كان يفكر هل من المستحسن أن يطلب من إحدى الفتيات موعدًا، فتساوِره هذه الفكرة: «قد تكون سيئة الطبع فتصدني.» وقد لاحظ في نفسه فيما بعد صعوبةً ما في الحديث ففكر: «ربما أفقد صوتي تمامًا.» وحين كان يستعد لأحد الامتحانات كان يقول لنفسه: «قد أرسب حقًّا في هذا الامتحان.» كانت كل فكرة من هذه الأفكار متبوعة بالقلق. إن القاسم المشترك فيها جميعًا هو أن الحدث المحذور كان يُدرَك كحدث مستقبلي وشيك الوقوع ولكنه لم يقع بعد.
وبطبيعة الحال، يمكن لتوقع الأذى الجسدي أيضًا أن يثير القلق؛ كما يحدث لسائق يدرك أنه على شفا التصادم مع سيارة أخرى، ولمريض في انتظار عملية جراحية. وبعد أن يزول الخطر يتبدد القلق ويتلاشى.
هذا التوجه المستقبلي هو من طبيعة الخوف والقلق. وربما يزداد هذا الأمر وضوحًا حين نأخذ له مثالًا مألوفًا؛ فكل معلم يعلن طلابَه عن امتحان سوف يكون حاسمًا في تحديد درجات كل طالب، يعرف كيف يتراكم قلقهم ويزداد كلما اقترب ميعاد الامتحان. ويعرف كيف يزايلهم هذا القلق بعد انتهاء الامتحان وإعلان الدرجات (وإن أحس بالحزن كلُّ من قصَّر عن مستواه المعتاد وآماله الخاصة، وبالفرح كل من أجاد وفق أهدافه وتقديراته).
هناك بالطبع استثناءات واضحة لمبدأ التوجه المستقبلي للقلق. فمرضى عصاب الحرب، على سبيل المثال، يبقون في قبضة القلق طويلًا بعد إبعادهم عن منطقة الخطر. وتظل تُعاودهم خبرة أشبه «بنكوص الزمن» أو تراجعه، يعيشون أثناءها نفس الحدث الخطِر الذي مروا به من قبل.
عصاب القلق
كنا نتحدث حتى الآن عن القلق كانفعال عام يشمل جميع الناس في كل مكان. غير أننا ندرك أن القلق يبلغ من الشدة مبلغًا أكبر في حالة الاضطرابات النفسية من قبيل عصاب القلق الحاد، أو يساهم في حدوث أمراض نفسجسمية مثل قرحة المعدة (انظر الفصل الثامن). إن هذا يطرح السؤال التالي: كيف نميز الحالات المرضية للقلق عن القلق السوي؟
يعتبر القلق بصفة عامة قلقًا سويًّا حين يكون استجابة لخطر قائم، وحين يزول بزوال هذا الخطر. ويعتبر قلقًا مرضيًّا إذا تجاوز كثيرًا حجم الخطر الحقيقي أو إذا لم يكن ثَم خطر خارجي فعلي. غير أن وضع حد دقيق يفصل القلق السويِّ عن القلق المرضيِّ هو مهمة صعبة، وتعتمد إلى درجة كبيرة على المعايير الاجتماعية. فهل يُعَد الشخص غير سويٍّ إذا ما اعتراه قلق مزمن لأن أحد أعدائه، وفق خرافات مجتمعه، قد عمل له (عملًا)؟ وهل يحق لنا أن ننعت بالقلق المرضي جنديًّا «أخضر» يصيبه الهلع وهو يقوم بأولى المهام الحربية في حياته؟
مغالطة «القلق الهائم» (العائم/الطليق)
إن حدوث القلق في غياب أي خطر موضوعي قد أدى إلى نشوء فرضيات عديدة ترمي إلى تفسير نوبات القلق وكشف سرها؛ فقد اقترح فرويد يومًا ما (١٩١٥–١٩١٧م) أن الطاقة الجنسية الحبيسة تتحول «مثلما تتحول أشكال الطاقة» إلى قلق. ثم عاد في مرحلة تالية (١٩٢٦م)؛ فافترض أن ما يثير القلق هو تهديد دفعة لاشعورية محرَّمة بالانطلاق إلى الشعور (الوعي).
وحيث يبدو قلق المريض غير متناسب مطلقًا مع أي ضغوط ممكنة أو أي خطر مهدد للحياة؛ فإن الطبيب الفاحص يقع في الخطأ، ولا يلتفت إلى ما يغمغم به المريض عن خوفه من الموت. حتى الدليل التشخيصي للجمعية الأمريكية للطب النفسي (١٩٦٨م) ينص على أن المخاوف هي تبرير أو إزاحة من خوف «فعلي»، أو هي ببساطة مظهر سطحي للقلق. إن هذا الميل نحو إقصاء المخاوف الظاهرة للمريض يلقي على بصر الطبيب غشاوة فلا يرى الاضطراب الفكري في حالات القلق الحاد، ويعجز بالتالي عن تبين أن المخاوف تبدو لعين المريض معقولة بالفعل. ذلك أن هذه المخاوف قائمة على المغالاة في تأويل المثيرات كدلائل خطر، وتحريف المثيرات الواردة، والاستدلالات الاعتسافية والتعميمات المفرطة (انظر الفصل الرابع).
هذا رجل في الأربعين من عمره جِيء به إلى غرفة الطوارئ بأحد المستشفيات العامة بمدينة دينفر في حالة كرب حادة. قال هذا الرجل إنه منذ ساعات قليلة صعد إلى قمة مصعد التزحلق بالجبال فلاحظ أن تنفسه يضيق. بعدها أحس بوهن شديد وأخذ يتصبب عرقًا وتستحوذ عليه فكرة أنه يفقد وعيه. لم يكشف الفحص الطبي الذي أُجري ورسم القلب الذي تم عمله بالمستشفى أي علامة تشير إلى خلل جسماني. وقيل للمريض إنه يعاني «نوبة قلق حاد» وأُعطي فينوباربيتال للتهدئة.
غير أن قلقه الشديد استمر. وعاد إلى بيته في فيلادلفيا. وعندما جاء لاستشارتي في اليوم التالي كان غامضًا في البداية وهو يحاول تحديد مصدر قلقه. إلا أنه حين بدأ يراجع الوقائع الحديثة التي جرت له كان من السهل نسبيًّا ضم المعلومات ذات الصلة وتجميع أجزاء الصورة. ذكر الرجل أنه حين ارتقى إلى أعلى مصعد التزحلق لاحظ أن تنفسه يضيق (ربما بسبب الجو المخلخل). وتذكَّر أنه راودته فكرة أن ضيق تنفسه قد يكون علامة على مرض القلب. وتذكر أخاه الذي أصابه مثل هذا ومات بانسداد تاجي منذ بضعة أشهر. وحين أجال في خاطره بجدية أكبر فكرة إصابته بانسداد تاجي ازداد قلقًا على قلق. عند هذه النقطة بدأ يحس بالوهن ويعرق بغزارة ويشعر بدوار. وقد فسر هذه الأعراض كدليل جديد على أنه أصيب بنوبة قلبية وأنه على مشارف الموت. عندما فحص هذا الرجل في غرفة الطوارئ لم يهدِّئ من روعه رسم القلب الطبيعي، لاعتقاده أن المرض ربما لم يكشف عن نفسه بعدُ في هذا الاختبار.
بعد أن استقر بنا الرأي أن الخوف من النوبة التاجية هي التي أثارت «القلق الهائم» وأدامته، كان باستطاعتنا أن نتناول المفاهيم الخاطئة للمريض. وقد شرحت له أن ضيق التنفس المبدئي كان استجابة فسيولوجية عامة للجو الرقيق (المخلخل) بالجبال. وأن ما نتج عنها من خوف من نوبة القلب قد أثار أعراض القلق … تلك الأعراض التي فسرها كعلامة على الموت الوشيك. تقبَّل المريض هذا التفسير وأطرفني برأي وجيه هو أن خوفه من نوبة القلب كان «إنذارًا كاذبًا». عقب هذا التفسير المعدَّل لخبرته اختفت أعراض القلق وأحس المريض بأن صحته رُدَّت إليه. لقد زالت الأعراض بسرعة بعد كشف السبب. فأمده هذا الزوال السريع بدليل إضافي على أنه لا يعاني من مرض عضوي.
إن المخاوف المؤدية إلى نوبة قلق حاد ليست مقصورة على هواجس المرض الجسمي. فقد تدور هذه المخاوف حول مصاعب ومحن نفسية-اجتماعية.
فهذا أستاذ جامعي حضر إلى غرفة الطوارئ بأحد المستشفيات لأن «به هلعًا شديدًا ولم يَعُد يحتمل ذلك لحظة واحدة.» وضع طبيب الخفارة تشخيص «قلق هائم» وحوله إلى استشارة طبنفسية عاجلة. حين شرح هذا الرجل سلسلة الأحداث السابقة للهلع مباشرة بزغت الصورة التالية: كان قبل ساعات قليلة يتهيأ لإلقاء أول محاضرة له على فصل كبير. فبدأ يشعر بقلق متزايد ويرى أنه سوف يرتبك ويبدو غير كفء أمام الطلاب. ومع تزايد القلق انصبت أفكاره على أنه ربما يعجز عن تحضير المحاضرة، بل قد يتعطل ذهنه ويعجز عن الكلام أمام الطلاب. وبدأ من هذه النقطة يستحضر في ذهنه سلسلة من العواقب الكارثية؛ فهو سوف يخسر وظيفته، وسوف يعجز عن كسب قوته، وينتهي به الأمر في شارع الساقطين منبوذًا من مجتمعه وعارًا لعائلته.
وبكشف المحتوى الفكري الذي أنتج القلق، استطاع المريض أن يكون أكثر موضوعيةً في فهم مشكلته المباشرة. وبدأنا نطرح إجراءات بديلة ونمحصها: أن يفصح لرئيس القسم عن مصاعبه، أن يتولى عملًا آخر يقدر عليه حتى بافتراض فشله كمحاضر … إلخ. وإذ لم يعد المريض يركن إلى مخاوفه ويوليها تصديقًا كبيرًا، زايله القلق واستطاع أن يُعِد المحاضرة ويلقيها بنجاح. ومن طريف الأمر في هذه الحالة أن هذا المريض قد انتخب في العام التالي كأفضل محاضر بالكلية.
في كلتا الحالتين السابقتين لم يكن الطبيب الفاحص هو الذي يستخرج العوامل التي أسهمت في توليد القلق. لقد استطاع بأقل قدر من الأسئلة أن يتحقق من سلسلة الأحداث ومن المحتوى الفكري الذي أدى إلى «القلق الهائم». وفي كلتا الحالتين كان الخوف من كارثة (الموت في الحالة الأولى والفشل الإنساني التام في الثانية) هو المسئول عن توليد القلق. وحين أدرك كلٌّ من المريضين أن خوفه الزائد كان «إنذارًا كاذبًا» انحسر قلقه وتراجع.
التصاعد اللولبي للخوف والقلق
القلق الطاغي غير المروض شيء غير سار، وهو في حد ذاته خبرة مرهوبة. قد يستشعر المرء قلقًا، على سبيل المثال، قبيل إلقاء كلمة على الملأ أو قبيل أداء امتحانٍ ما. ويعود ذلك إلى تهديد الخزي والفشل. غير أن الأمر لا يقف عند هذا الحد. إنه يعلم من خبرته السابقة أنه يواجه خصمين لا خصمًا واحدًا. إنه لا يتبارى فقط مع الألم الناشئ من تعثر الأداء، بل عليه أيضًا أن يواجه فترة من القلق قبيل المحاولة وأثناءها. إن الرهبة من هذا القلق المبرح لا شك تضيف إلى معاناته الناجمة من الموقف المهدد ذاته.
قد تشتد حلقة القلق المستمر بطريقة أخرى. فهذا رجل أعمال أخبره أحد مساعديه أن الأحوال الاقتصادية لصناعته كانت تسير إلى الأسوأ. فجعلته هذه الملاحظة قلقًا متوجسًا من مصاعب خطيرة. وكلما أكبر من شأن المشكلات الممكنة وخطورتها قلت ثقته في قدرته على مواجهتها. وكلما انحسرت ثقته في قدراته الخاصة ازداد في تقديره حجم المشكلات. لقد نشأ تفاعل متبادل بين تصوره للمشكلة وتصوره لقدراته. وكانت كل خطوة في هذا التفاعل تؤدي إلى مزيد من القلق.
اضطراب التفكير في عصاب القلق
- (١)
أفكار متكررة عن الخطر. فمريض القلق هو دائمًا في قبضة أفكار لفظية وصورية تدور حول حدوث وقائع مؤذية (إنذارات كاذبة).
- (٢)
نقص القدرة على «مجادلة» الأفكار المخيفة. قد يشك المريض في معقولية هذه الأفكار، ولكن قدرته على التقدير الموضوعي وإعادة التقييم معاقة. ومهما بلغ هذا الشك؛ فإن الأرجحية عنده تظل في صف هذه الأفكار.
- (٣) تعميم المثير (المنبه) stimulus generalization: يتسع مجال المنبهات المثيرة للقلق بحيث يمكن لأي صوت أو حركة أو تغير بيئي أن يُدرَك بوصفه خطرًا. من ذلك أن امرأة في نوبة قلق حاد سمعت بوق سيارة الإطفاء فحدَّثت نفسها «ربما شبَّ حريق في بيتي.» وتخيلت أسرتها محاصرة بالنيران. عندئذٍ سمعت طائرة تحلق فوقها فتخيلت نفسها داخل الطائرة وهي تتحطم. وحين أمعنت في تخيل الحطام تخطَّفها القلق.
قد تُفسَّر بعض خصائص القلق، مثل تعثر الكلام وتعطل استدعاء الأحداث القريبة، تفسيرًا سطحيًّا. فيقال إنها ناتجة من انهيار التحكم الإرادي في تركيز الانتباه. فإذا وجد مريض القلق صعوبة في التركيز على مهمة مباشرة (أداء اختبار أو إلقاء كلمة … إلخ) قد يبتدر إلى الحدس أن انتباه هذا المريض هو من التبعثر؛ بحيث لا يمكنه أن يبقى لصيقًا بشيء أو موضوع معين لفترة طويلة. كذلك يسارع البعض إلى تفسير تشتت انتباه المريض تجاه أية مثيرات طفيلية، فيعزوه إلى الطبيعة الشاذة لهذا الانتباه.
غير أننا حين نمعن في الاستقصاء تبرُز لنا سبيل أكثر دقة في فهم هذه الظواهر. إن مشكلة المريض لا تنجم من الطبيعة «المتقلقلة» لانتباهه بقدر ما تنجم من «التثبيت» اللاإرادي لهذا الانتباه. فالجزء الأكبر من انتباه المريض ما برح موقوفًا على تصور الخطر وإدراك «إشارات الخطر». يتجلى هذا الانتباه الموثوق في انشغاله اللاإرادي بالخطر، وفي يقظته الزائدة تجاه المثيرات المتصلة بالخطر، وتفحُّصه الزائد في شعوره الذاتي. كل ذلك يستهلك انتباهه فلا يبقى منه للتركيز على المهام وللتذكر والتفكر إلا النزر اليسير. وبعبارة أخرى يمكننا القول إن مريض القلق، بسبب تثبيت معظم انتباهه على تصورات الخطر ومثيراته، يفقد الجانب الأكبر من قدرته على الالتفات الإرادي إلى العمليات الداخلية والمثيرات الخارجية الأخرى. هذا العجز عن التحكم الإرادي في التركيز والتذكر والاستدلال قد يحمل المريض على الظن أنه يفقد عقله. وهي ظاهرة تعزز القلق بدورها وتدعمه.
في مرضى الصدمة، أولئك الذين يعيدون معايشة موقف صدمي معين، تتبدى بوضوح شديد ظاهرة تزايد عدد المثيرات القادرة على إثارة الأفكار المخيفة. شأن ذلك المحارب القديم المريض بالقلق المزمن، والذي شخصت حالته «عصاب حرب». كان هذا الرجل تتراءى له تخيلات بصرية منغَّصة كلما تعرض لمثير مرتبط بخبراته في الحرب. مثال ذلك أن صوت فرقعة (باك فاير) لإحدى السيارات، أو أية حركة مفاجئة أو تلميح إلى معركة يقرأ عنه أو يسمع به، كان أي شيء من ذلك كفيلًا بأن يثير فيه خيالات متكررة. في هذه الخيالات كان يتصور نفسه راقدًا على الأرض متعرضًا لقصف طائرات العدو. وكان الخيال نسخة من الخبرة الفعلية التي مرت به أثناء الحرب.
شبيه بذلك ما وقع لرجل كان يعمل سائسًا بأحد مواقف السيارات المتعددة الطوابق. فقد عانى هذا الرجل من خيالات متكررة جعلت تنتابه بعد حادث أليم. فبينما كان يرجع إحدى السيارات إلى الوراء في أحد الطوابق العليا من الموقف أفلتت مكابح (فرامل) السيارة فاخترقت حاجز «درابزين» الأمان وأخذت تترنح أمامًا وخلفًا على إفريز ناتئ على ارتفاع شاهق من أرض الشارع. وظلت على هذا الوضع المريع ساعة كاملة قبل أن يتم إنقاذ السائق. لقد بقيت الصورة الذهنية لهذه الواقعة الصادمة تنتاب هذا السائس وظلت تعاوده مرارًا وتكرارًا فتؤرقه وتقضُّ مضجعه، وتُحدث فيه نفس القلق الذي أحدثته الواقعة الفعلية.
بوسعنا أن نفسِّر هذه الفروق في الاستجابة للمثيرات الخارجية كما يلي: إن لدى الشخص السويِّ القدرة على أن يقرر بشيء من السرعة أن المثير المؤذي ليس إنذارًا بخطر فعلي. وهو إذ ينعت المثير بأنه صوت غير ذي بال وليس إشارة خطر؛ فإن قلقه سرعان ما يتلاشى. أما مريض القلق فهو لا يميز بين المأمون وغير المأمون ويظل ينعت الصوت كنذير خطر. إن تفكيره محكوم بمفهوم الخطر. وما إن يلقِّب مثيرًا ما بلقب الخطر حتى يبقى الارتباط بينه وبين مفهوم الخطر ثابتًا لا ينفصم.
ولقد لاحظنا في ممارستنا الإكلينيكية أن الشخص السويَّ يغدو أكثر دقة وأقل قلقًا كلما تمرَّس بالمواقف العسيرة وعركها — سواء أكانت خطابة عامة أو معارك قتالية. أما مريض القلق فيزداد سوءًا بتكرار المواجهة.
يمكن أن نلخص مشكلة عصاب القلق بمجاز بسيط: إنه «نظام إنذار» زائد النشاط. إن مريض القلق «مولَّف» على احتمال الخطر منضبط عليه بحيث لا يكفُّ عن تحذير نفسه من أخطار ممكنة. إن تيار الإشارات المتدفق خلال نظام الاتصال الداخلي لديه يحمل رسالة واحدة: «خطر». ويكاد أي مثير (منبه) مهما كان ضعفه أن يكفي لتشغيل نظام التحذير ويبعث «إنذارًا كاذبًا». وتكون نتيجة هذه العاصفة العنيفة من الإنذارات الكاذبة أن المريض يستشعر أذًى فعليًّا؛ إنه في حالة قلق دائم لا يريم.
- (١)
أعراض إعادة معايشة الخبرات الصدمية إن في اليقظة أو الأحلام أو سورات انشقاق الوعي.
- (٢)
أعراض تبلد الاستجابة للعالم الخارجي والتجنب الرهابي لجميع أشكال المنبهات المرتبطة بالصدمة من قريب أو بعيد.
- (٣)
أعراض زيادة الاستثارة من مثل الأرق والغضب والتوجس وضعف التركيز والإجفال … إلخ. وقد ظهر أن هذا الاضطراب يختلف عن عصاب القلق العام في الأساس النيوروبيولوجي فضلًا عن اختلافه الواضح في الصورة الإكلينيكية. كما تبين أنه يتسبب — بالإضافة إلى الصدمة ذاتها — عن عوامل مهيئة سابقة على الصدمة وداخلة في صميم بنية الشخصية وفي المهاد الاجتماعي الذي تعيش فيه. (المترجم)