خائف بل غير خائف
«ورأيت أن كل ما كنت أخشاه وكل ما كان يخيفني لم يكن هو في ذاته حسنًا أو سيئًا. إنما كان كذلك بحسب ما كان العقل يراه ويتأثر به.»
كان يحس بأن موجة من الدوار تغشاه، وظن أنه على شفا الإغماء. فجهد أن يحتفظ بقبضته على وعيه. وداخله في نفس الوقت شعور بالغرابة والغربة؛ كأنه ليس هو! كان بطنه موجوعًا كأنه يريد أن ينفجر. والغثيان يكاد يسلمه للقيء. كان بوسعه أن يُحس بنبضه يتدافع وبقلبه يخبط جدار صدره. حاول أن يأخذ نفسًا عميقًا فما استطاع. وبينما كان فمه جافًّا يابسًا بدرجة مزعجة، كان سائر جسده ينضح عرقًا. يداه ترتعشان رغمًا عنه وجسده يترنح، حاول أن يتكلم ولكن الكلمات لم تطاوعه غير جَمجمة ضئيلة لا تبين. كانت الفكرة الرئيسية التي تعتلج في صدره هي أنه مشرِف على الموت.
هذه الصورة توحي بشخص في حالة طارئة. وهي تحتمل أن يكون هذا الشخص نهب مرض حاد؛ نوبة قلبية أو التهاب حاد بالزائدة الدودية، وتحتمل أيضًا أن يكون هذا الشخص قد حلت به كارثة خارجية فهو منها في قلق غامر.
الحق أنه مريض بالرهاب، أقحمته الظروف في موقف دأب أن يرتاع منه دون مبرر. إن كشف هذه البنية وحل خيوط هذه الاستجابة الفادحة بإزاء موقف مأمون نسبيًّا هو شيء مثير في حد ذاته. فضلًا عن أنه يلقي مزيدًا من الضوء على تعقد السلوك الإنساني وتركُّبه.
يبرهن هذا التكاثر في أسماء الرهابات على أنه لا حدَّ لأصناف المخلوقات والأشياء والمواقف التي يمكن أن تثير قلقًا زائدًا في غير محله. فمع تقدم التكنولوجيا مثلًا ظهرت رهابات جديدة لا عهد للأقدمين بها مثل قيادة السيارة في الأنفاق ومثل رهاب المصاعد، ومثل الخوف من النشاط الإشعاعي المنبعث من ميناء ساعات اليد.
بديهي أن ليس كل خوف رهابًا. فالحق أن بيئتنا تعج بأشياء هي مصدر خطر حقيقي على الصحة وعلى الحياة. إن الناس لتلقي حتفها كل يوم في الحوادث — السقوط من علٍ، تصادم السيارات، الحرائق، الانفجارات — وتعتل أو تموت بالأمراض المعدية. ومن العسير أن نتهم شخصًا بالعصابية حين يتجنب مناطق الانفجارات أو شرَك النار أو الأسلاك الكهربائية المكشوفة أو العقاقير السامة أو مرض الدرن أو الأسلحة المشحونة بالذخيرة. إن الذي يخشى السباحة في بحر هائج أو شُرب ماء ملوث أو السير ليلًا في مناطق موبوءة بالجريمة ليس عصابيًّا أو هيَّابًا،ُ بل إننا قد نغبطه ونطريه لتعقُّله وحصافته.
من المكونات الهامة للرهاب تلك الرغبة الملحة في تجنب الموقف الرهابي، وتراكم القلق المفرط إذا اقترب الشخص من الموقف، مصحوبًا بالرغبة في الهرب والابتعاد. وكثيرًا ما يتمكن الشخص من تجنب موضوع رهابه والعيش في هدوء نسبي، رغم ما يورثه ذلك من متاعب كبيرة وتضييق في نطاق حياته. وجدير بالملاحظة أن الشخص رغم اعترافه الصريح بلامعقولية رهابه فهو لا يملك أن يزيل هذا الخوف ولا أن يمحو تلك الرغبة في تجنب الموقف الرهابي.
يمكننا أن نعرِّف الرهاب تعريفًا أكثر شمولًا من تعريف المعجم فنقول: «إنه الخوف من موقفٍ ما خوفًا هو، بإجماع الناس وبتقييم الشخص نفسه وهو بعيد عنه، لا يتناسب مع احتمال أو درجة الضرر الكامن في هذا الموقف.» الرهابي بالتالي يعاني من قلق زائد في مثل هذه المواقف ويميل إلى تجنبها. وهو إذ يفعل ذلك يضيِّق حياته تضييقًا شديدًا.
عندما يرغم المريض نفسه (أو تُضطره الظروف) أن يتعرض للموقف الرهابي، فقد تلمُّ به أعراض نوبة قلق حاد: قلق شديد، تنفس سريع، خفقان القلب، آلام بالبطن، صعوبة في التركيز والتذكر. على أن بعض المرضى يجدون كربهم أخف مما كانوا يتوقعون ولا يتناسب بحال مع درجة خشيتهم وتجنبهم، فهو أشبه بشعور «زاحف» مُنمِل قريب مما يحسه بعض الناس في وجود الحشرات. ورغم رد فعلهم الملطَّف نسبيًّا حيال الموقف الرهابي فقد تبقى لديهم رغبة شديدة في تجنبه. من الواضح إذَن أن الخبرة لا تروِّض الخوف المسرف ولا تخفف النزوع الشديد إلى التجنب عند مرضى الرهاب.
مشكلة «الخوف الموضوعي»
يصعب علينا أحيانًا أن نرسم خطًّا فاصلًا بين الخوف الواقعي والرهاب. ففي بعض الأحيان يعاني المرء من رد فعل معطِّل تجاه خطر موضوعي قائم. مثل ذلك الطيار الذي يتخطَّفه القلق في إحدى الطلعات القتالية. ومثل عامل الجسور المتمرس الذي يغشاه قلق مقعد وهو يقترب من الجسر. ولكن تأمل، في المقابل، شخصًا يصيبه مثل ذلك وهو يستقل ترامًا إلى عمله، وبالتالي يفترض خطرًا أعظم في أن يقود سيارته على طريق حرٍّ ذي معدل عالٍ للحوادث. من الأيسر كثيرًا أن نقرر أن هذا الشخص يعاني رهابًا — هو رهاب الترام. فكلما علا القلق والعجز بالمقارنة بالخطر الحقيقي ساغ لنا أن نستخدم مصطلح «الرهاب». وبإمكاننا أن نشخص «الرهاب» على الفور إذا كان مضمون الخوف بعيد الاحتمال؛ شأن ذلك الشخص الذي يتجنب كل الأنشطة الخلوية خوفًا من العواصف المكهربة المفاجئة، وتلك المرأة التي تتجنب الأنفاق والحافلات (الباصات) خوفًا من الاختناق.
في الممارسة الإكلينيكية تكون الرهابات عادة من الوضوح والتحدد بحيث لا تحتاج إلى أي جهد لتمييزها عن المخاوف «المخاوف السوية». ففي معظم الحالات يلتمس الرهابي العلاج إما لأنه يدرك أنه يعاني ويألم من مواقف لا ينزعج لها غيره من الناس، أو لأنه لم يَعُد يحتمل ذلك التقييد الذي يفرضه على حياته تجنب مثل هذه المواقف. وقد تداهم المريض أعراض مؤلمة حين تجدُّ ظروف حياتية تفرض عليه مواقف كان باستطاعته تجنبها في السابق؛ مثل طالب الطب الذي يرهب منظر الدم حين يكون عليه أن يشهد عملية جراحية.
نعلم كذلك من ممارستنا الإكلينيكية أن الرهابي الذي تروعه مواقف معينة قد يكون ثابتًا ورابط الجأش تمامًا في مواقف أخرى تسبب لغيره قلقًا شديدًا. فهذا على سبيل المثال مريض لم يكن يهتز له جفن حين يلقي كلمة في حشد عام وكان يستطيب أن يتحدث إلى عدد كبير من الحضور غير أنه كان يهلع ويرتاع إذا ما زحف عليه صرصور أو حشرة أخرى صغيرة. وكان يتملكه قلق بالغ كلما انفرد في منزله ليلًا خشية أن تهاجمه الحشرات. وقد ألجأه هذا الرهاب إلى طلب العلاج.
النظام الاعتقادي الثنائي
حين نفحص محتوى الرهاب نجد أن الخوف قلما يكون غريبًا أو منافيًا للعقل. تأمل مثلًا أولئك المرضى الذين يعانون رهابًا من السَّبح في الماء العميق، أو من الأكل في مطاعم غير مألوفة لهم، أو من عبور الجسور، أو من الاجتياز خلال الأنفاق، أو من ركوب المصاعد. هل ينكر أحد أن هناك شيئًا من المخاطرة في كل من هذه المواقف؟ كلنا نعلم أن الناس تغرق بالفعل وأنهم يموتون بالأطعمة الملوثة أو الماء الملوث، وأن الجسور والأنفاق تنهار والمصاعد تتعطل. ثَم خطر لا شك فيه بحيث لا يصح أن ننعت أحدًا بالرهاب إلا إذا كان مغاليًا إلى حد بعيد في تقدير احتمالات الضرر وكان ما يغشاه من كرب لا يتناسب مع الخطر الفعلي.
كذلك يحتمل إلقاء الخطب أو دخول الامتحانات مخاطر الأذى النفسي. إن من حقائق الحياة أن الناس يقسون على زميل لهم يرتبك في حديث عام ويجرحون شعوره. ومن الحق أن الامتحان ينطوي على خطر الرسوب وبالتالي على الرفض والخزي والكرب. كذلك لا تخلو الرهابات المتعلقة بالمواقف التي تحتمل أذًى اجتماعيًّا من عنصر خطر حقيقي.
حين نتمعن في بعض الرهابات الأكثر شيوعًا نجد أن كثيرًا منها يجسد مخاوف منتشرة بين الأطفال في مراحل مختلفة من نموهم. وسوف نرى حين نستعرض نشوء الرهابات أن كثيرًا منها ينتج من مخاوف يشيع وجودها في سن الطفولة. غير أن معظم الأطفال يتعلمون أن يتغلبوا على الخطر المحتمل وبذلك يتخطونه ويتجاوزونه.
ما يزال علينا أن نعلل لبعض ألوان الرهاب التي لا يبدو أنها تنطوي على أي عنصر من الخطر على المريض. مثل ذلك القلق العنيف الذي يعتري البعض لدى رؤية شخص آخر يصاب أو ينزف أو تجرى له عملية جراحية. تسفر هذه المخاوف عن نفسها بين العاملين بالمستشفيات، كالأطباء والممرضات، ممن تدفعهم ظروف عملهم إلى مثل هذه المواقف ولا حيلة لهم في التهرب؛ فتعتريهم الأعراض النموذجية للقلق كما فصَّلناها آنفًا. وإذا كان معظم هؤلاء يتمرسون بتلك المواقف بمرور الزمن ويزدادون ثباتًا وصلابة؛ فإن بعضهم يظل على رهابه مهما تعرض لتلك المواقف.
هناك أشكال أخرى من الرهاب تتعلق بإثارة خيال بصري. فهذا واحد من مرضاي كان يتجنب الذهاب إلى ناحية معينة من المدينة سبق أن وقع له فيها حادث سيارة. وبسؤاله علمت أنه كلما اقترب من تلك المنطقة الجغرافية عاده خيال الحادث القديم واستبد به قلق حاد. وهذه امرأة كان ينخلع قلبها لرؤية القوارب (أو حتى صورة القوارب) وتبيَّن أنها تعاني من رهاب الماء. فكلما صادفت منبهًا (مثيرًا) يذكِّرها بأنها في الماء تراءى لها خيال قوي بأنها تغرق.
تشير تقارير الرهاب إلى سمة هامة يتسم بها المريض، هي أنه يستجيب للموقف الرهابي وفق دراما داخلية. فحين يقترب أحد مرضى رهاب المرتفعات من حافة منحدر تتخطَّفه خيالات السقوط وأفكاره. وربما أحس بجسمه يميل تجاه الحافة. وقد يلاحظ من يراه أنه قد بدأ يترنح.
هنا يبدو لغز الرهاب وقد ازداد عمقًا: فكثيرًا ما يقول المريض حين يكون بعيدًا عن المنبه المخيف «أعرف أنه ليس هناك خطر حقيقي، وأعلم الآن أن خوفي عبث وسخف …» كيف نفسر إذَن هذا التناقض في استجاباته؟
بوسع المريض أن يقدم لنا الإجابة. فليس ما يمنع أن يكون لدى شخص ما تصورات واعتقادات متناقضة تمامًا في ذات الوقت. فحين يكون المريض بعيدًا عن الموقف الرهابي؛ فإنه يعتنق مفهوم السلامة النسبية وقلما يعي أن لديه فكرة الخطر. فإذا ما شارف الموقف الرهابي فإن فكرة الخطر تزداد وتتنامى إلى أن تهيمن تمامًا على تقديره للموقف. إن اعتقاده يتبدل من مفهوم «إنه مأمون» إلى مفهوم «إنه خطِر».
في حالات رهاب الطائرات، كنت أسأل المرضى أن يدونوا احتمالات الخطر المحيق الذي يتوقعونه عندما يكونون بالطائرة. فحين لم تكن لدى المريض نية الطيران في المستقبل المنظور كان يحس أن فرص تحطم الطائرة هي واحد إلى مائة ألف أو واحد إلى مليون. وبمجرد أن عقد النية على السفر جوًّا قفزت احتمالات الحادث في تقديره. وحين اقترب وقت الطيران جعلت الاحتمالات تزداد باستمرار. ولحظة أقلعت الطائرة بلغت فرص الحادث خمسين إلى خمسين. فإذا ما كانت الرحلة وعرة كثيرة المطبات فربما تجاوزت الأرجحية مائة إلى واحد لصالح تحطم الطائرة.
ومن الأهمية بمكان أن نعرف أن التعرض الشديد لموقف رهابي أو التعرض المتكرر لعدد من المواقف الرهابية المختلفة قد يُرسِّب حالة عصاب قلق حاد.
إن الميل إلى تبني اعتقادين متضاربين عن موضوع واحد ليتمثل في أوضح صوره في حالات الرهاب. غير أنه يوجد أيضًا في بقية الاضطرابات الانفعالية. ففي هذه الاضطرابات، كما في الرهاب، يكون أحد المفهومين أقرب إلى البدائية واللاواقعية، ويكون المفهوم المضاد أكثر نضجًا وواقعية. وحين يتغلب المفهوم اللاواقعي؛ فإن بقية علامات العصاب، مثل الكرب الانفعالي، تكون حَريَّة بالظهور.
الجوهر الفكري للرهاب
مم يخاف مريض الرهاب على وجه التحقيق؟
- أولًا: يطرأ حدث مخيف ويولِّد قلقًا. يوجد مثير (منبه) آخر (محايد) إبان، أو قبيل، الحدث المخيف.
- ثانيًا: يصبح المثير المحايد مرتبطًا بالقلق من خلال هذا التداعي العارض.
- فيما بعد: يصبح الشخص قلقًا في وجود المثير «المحايد». أي يعاني من رهاب هذا المثير.
لماذا يلجأ الكتَّاب لمثل هذه التفسيرات الملتوية؟ يبدو لي أن ذلك يرجع، في جزء منه، إلى فكرة أن خوف المريض هو من التمحُّل والشطط؛ بحيث يتحتم أن يكون مرتبطًا بشيء آخر أو مستمدًّا من مصدرٍ ما هو الذي يهدد أمنه وقيمه. غير أنك إذا سألت المريض فإن خوفه لا يلبث أن يتضح ولا يعود عبثًا ولامعقولًا إلى هذا الحد. فهذه فتاة مراهقة، على سبيل المثال، راجعت إحدى العيادات النفسية بسبب خوفها من تناول الأطعمة الصلبة. وكان والداها وطبيبها الباطني قد اعتبروا أن خوفها غير معقول ولم يحاولوا التحقق مما تخاف منه بالفعل. ذكرت هذه الفتاة أثناء المناظرة (المقابلة) النفسية أنها تخاف من أن تغص بالطعام حتى الموت. فقد حدث أن غصَّت بقطعة كبيرة من اللحم قبل بضع سنوات فلم تستطع أن تلتقط أنفاسها وظنت أنها ستموت. وصارت بعد هذه الواقعة حساسة بشكل خاص لما يُروى عن أناس غصوا حتى الموت؛ فكان هذا يدعم خوفها ويذكيه. حين ننظر إلى خوفها في هذا السياق يغدو مفهومًا مبرَّرًا ونكون في غنًى عن البحث عن تفسيرات أخرى ملتفة غير مباشرة. ويتبين لنا فضلًا عن ذلك أن مصدر قلقها ليس في تناولها الطعام الصلب بحد ذاته، بل في توقعها للغصة والاختناق.
- (١) مخاوف قائمة على أخطار من صنع الإنسان man-made كالخوف من أن يهاجم المرء أو يُختطف أو تُجرى له عملية جراحية.
- (٢)
أخطار طبيعية أو خارقة للطبيعة مثل الرعد والبرق والأشباح.
- (٣) مخاوف تعكس ضغوطًا نفسية-اجتماعية مثل الخوف من الامتحانات، والخوف من إغضاب الآخرين، والخوف من الانفصال عن الوالدين (Miller et al., 1972).
وتحتمل الفئة الأولى والثالثة الاستمرار إلى مرحلة الرشد أكثر من الفئة الثانية. ولكي نفي بمقاصدنا الحالية سوف نطلق على توقع الأذى الجسدي أو الموت باسم «المخاوف الجسدية»، وعلى توقع الأذى النفسي (الخزي والإحباط والوحدة والحزن) اسم «المخاوف النفسية-الاجتماعية». آخذين في الاعتبار أن كثيرًا من الرهابات يتضمن عناصر من كلا الصنفين.
الخوف من الأماكن المفتوحة Agoraphobia
وحين تستخبر مريض الأجورافوبيا تجده في أمثل الأحوال يعرب عن خوف من كارثةٍ ما سوف تحيق به وهو بعيد عن مأمن بيته وحيث لا أحد يخفُّ لمساعدته. وبالتالي فهو يرتاح لوجود شخصٍ ما يراه قادرًا على تقديم العون له إذا ما أصابته أزمة جسمية حادة. إنه، بصفة عامة، يزداد خوفًا كلما ابتعد عن مصدر معين للمساعدة الطبية. ويعرب بعض المرضى عن خوفهم من الوحدة الشديدة، وخوفهم من أن يتوهوا، وكأن وجودهم في مكان غريب بمفردهم قد يفصلهم عن أصدقائهم وأسرتهم إلى الأبد. وهناك مرضى يخافون من الشوارع المكتظة بالغرباء، لأنهم يخشون أن يفقدوا سيطرتهم على أنفسهم فيتعرضوا للمهانة الاجتماعية. فقد يخشى المريض أن يغمى عليه أو أن يشرع في الصياح الجنوني أو يتغوط دون إرادة فيكون موضع سخرية. الخوف من فقد السيطرة إذَن متصل بالخوف من الرفض الاجتماعي وممتزج به.
الخوف من المرتفعات Acrophobia
ينضوي الخوف من الشرفات والدرج والسلالم المتحركة تحت رهاب المرتفعات، من حيث إن الخوف فيها هو من السقوط. وغالبًا ما يكون هذا الاحتمال بعيدًا جدًّا لأن هناك حاجزًا واقيًا (درابزين) يؤمِّن سلامة الشخص أو لأنه بعيد عن الإفريز بما يكفي لنفي هذا الاحتمال. من أمثلة ذلك تلك المرأة التي كانت تخاف من السلالم ولا تشعر بأمان إلا إذا بلغت منبسط السلَّم شريطة ألا تكون بقربها نافذة. فإن تصادف وجود نافذة تملَّكها الخوف من السقوط واستبد بها.
الخوف من المصاعد
رغم أن الخوف من المصاعد يبدو هين الأمر نسبيًّا؛ فإنه قد يعيق المرء إعاقة جسيمة في زمننا هذا — زمن الأبراج الإدارية والشقق السكنية. تصل هذه الإعاقة بالبعض إلى حد العجز عن تجاوز عدد معين من الطوابق صعودًا بالمصعد، وإلى حد أن يصبح هذا الخوف هو الذي يملي عليهم اختياراتهم لأماكن عملهم ومعيشتهم وزياراتهم. يتضمن المحتوى الشائع لهذا الرهاب الخوف من انكسار الكابلات وتحطم المصعد. وتتكون لدى الشخص فكرة استقرابية عن عدد الطوابق التي يمثل ارتفاعها خطرًا ويبلغ خوفه الذروة عندما يصل إلى هذه النقطة (الدور الثاني أو الثالث عادة وإن كان البعض ليفزع من مجرد تجاوز الدور الأرضي). ويتركز الخوف عند البعض على احتمال تعطل المصعد بين الأدوار مما يؤدي إلى استحالة فتح الباب وبالتالي إلى انحباسهم وموتهم صبرًا. والبعض يخشى بالأكثر من الاختناق من جراء نقص الهواء. ويغلب على هؤلاء أن يعانوا من رهابات أخرى تنصب على الخوف من نقص الهواء (كالخوف من الأماكن المغلقة والزحام والأنفاق).
وقد يتفق للبعض أن يعاني من خوف جسمي مقرون بخوف اجتماعي شبيه برهاب التجمعات. فقد كان أحد المرضى على سبيل المثال يخشى بالدرجة الأساس من أن يغمى عليه في المصعد ويتعرض بالتالي للحرج، ولم يكن هذا الخوف ينتابه إلا في وجود أشخاص آخرين بالمصعد.
الخوف من الأنفاق
يشبه الخوف من اجتياز الأنفاق سائر ضروب الخوف من الأماكن المغلقة. فهناك خوف من أن يختنق الشخص لنقص الهواء، أو أن ينهار النفق فيدفن حيًّا أو يقتل تحت الأنقاض. هكذا نرى مرة أخرى أن الخوف ليس وليد شيء غير معقول بل شيء بعيد الاحتمال. حين يكون المريض مجتازًا خلال النفق (أو متواجدًا في مكان مغلق) فقد يشعر بقصر النفس كما لو أن صدره ضيقٌ حرج (التصور الجسدي).
الخوف من السفر بالطائرة
هل يعد الشخص الذي يتجنب السفر بالطائرة رهابيًّا بالضرورة؟ تلك مسألة تبقى موضع خلاف. غير أن بعض الناس يصل قلقه من السفر بالجو — حتى لضرورة علاجية — درجة من العنف تسوِّغ أن نسميه رهابًا. ورغم أن الخوف ينصب في معظم الحالات على فكرة تحطم الطائرة، فقد يقوم هذا الرهاب على ألوان أخرى من الخوف. فهذه امرأة مثلًا لم تكن تخشى من احتمال تحطم الطائرة بل من احتمال حدوث خلل في الإمداد الهوائي بالطائرة بحيث تموت اختناقًا. وهذا مريض آخر هاجسه الأكبر هو فقدان السيطرة في المواقف الاجتماعية، فكان تخوُّفه هو من أن يقيء في الطائرة فيبدو ضعيفًا دونًا ويكون هدفًا للامتعاض والسخرية.
وقد وجدتُ في عدد من الحالات أن منشأ الخوف من الطيران يعود إلى حدث صدمي حقيقي سبق وقوعه في رحلة ماضية، وأن هؤلاء كانوا يطيرون في السابق دون قلق يذكر إلى أن مروا برحلة صادمة بسبب الطقس السيئ أو الأعطال الميكانيكية.
الرهاب الاجتماعي
من الأشكال الغريبة بعض الشيء من الرهاب الاجتماعي ذلك الخوف من فقدان السيطرة على السلوك. فالمريض بهذا اللون من الرهاب قد يكون متخوفًا من احتمال أن يسلك بطريقة اندفاعية غير مقبولة: فيشرع مثلًا في الصراخ دون مبرر، أو يفقد التحكم في بعض الوظائف الفسيولوجية؛ فيقيء دون إرادة منه أو يتغوط أو يبول أمام الملأ. من شأن هذا الخوف أن يحمله على تجنب المواقف التي يحتمل فيها أن يحدث هذا التفلُّت وأن يكون ملحوظًا من الآخرين.
صفوة القول أن مريض الرهاب الاجتماعي هو شخص خائف من أن يأتي أداؤه في موقف معين دون المستوى الذي وضعه الآخرون أو وضعه هو لنفسه: إن أداءه الهابط سوف يقيَّم سلبيًّا، وهو من ثم يتوقع لنفسه أن يكون موضع نقد ورفض من جانب الآخرين. وهناك ألوان أخرى من الرهاب الاجتماعي (مثل قلق الاختبار) تقوم على توقع المريض بأن يحرمه أداؤه السيئ من أن يحقق أهدافه كأن ينال جائزة أو يحظى بشعبية أو يباشر عملًا مهنيًّا ناجحًا.
تعدد المعاني: رهاب صالون الحلاقة
وكانت مشكلة مريض آخر هي أنه لا يتحمل الانتظار الذي تقتضيه مهمة الحلاقة. وكان أيضًا لا يصبر على الاختناقات المرورية. وهناك مرضى تثير قلقهم ملازمة كرسي الحلاقة. إن جوهر مشكلتهم هو تخوفهم من التقيد والعجز عن الهروب، فهم يحسون أثناء الحلاقة بأنهم أشبه بالمساجين.
وكما هو متوقع، يقوم رهاب الحلاقة عند البعض على الخوف من التشوه بالآلات الحادة التي يستخدمها الحلاق. ومن الاستجابات النادرة لموقف الحلاقة ما وصفه أحد المرضى من أنه يتحرج من احمرار وجهه عندما يمثل على كرسي الحلاقة، ومن أن يكون ذلك ظاهرًا بحيث يجعله موضع سخرية.
العنصر الرئيسي في الرهاب المتعدد
يعاني كثير من المرضى من مجموعة متنوعة من الرهابات لا يربط بينها في الظاهر أي رباط. إلا أن بإمكاننا دائمًا أن نعثر على تيمة مركزية واحدة تجمع هذه الرهابات التي تبدو متباينة ظاهريًّا. هذه التيمة تتعلق دائمًا بخوف محدد من عواقب التواجد في هذه المواقف. وهو خوف واحد وعواقب واحدة على تعدد المواقف وتفاوتها الشكلي.
فهذه امرأة كانت تخاف من السفر جوًّا، ومن الرقود على الشاطئ في يوم حار، ومن الوقوف في الأماكن المزدحمة، وركوب سيارة مكشوفة في يوم عاصف، وركوب سيارة مغلقة، ومن المصاعد والأنفاق والتلال. حين أخذنا في تحديد سبب الخوف في كل موقف من هذه المواقف. لم يصعب على الإطلاق أن نجد بينها قاسمًا مشتركًا. ذلك هو احتمال الاختناق في كل حالة منها والذي يستند عند هذه السيدة إلى خرافات معينة وإلى اعتقادات شعبية (إلى جانب الاحتمال الحقيقي بالطبع).
الخوف المركزي في حالة هذه السيدة هو الحرمان من الهواء. فالأماكن المغلقة محدودة التهوية، والرياح الشديدة (كما سمعت في طفولتها) تسحب الهواء من فمك، والحر الشديد يقطع الأنفاس، وركوب الطائرة ينطوي على احتمال أن تثقب القمرة المكيفة للضغط مصادفة فينفد الأوكسجين.
وقد اكتشفنا أيضًا أن لديها خوفًا كامنًا من الماء أمكنها تفاديه باصطحاب شخص ما كلما ذهبت للسباحة ليكون متهيئًا لإنقاذها إذا لزم الأمر. ذاك مثال يبين لنا أحد الأسباب الرئيسية لاعتمادية الرهابيين وتعويلهم على الآخرين: إنهم ينشدون توافر النجدة إذا ما وقع الحدث المرهوب.
يذكر فيذر أيضًا حالة طبيب مصاب بالخوف من السفر بالطائرة، ومن الجلوس بين الحاضرين في اللقاءات المهنية، ومن الحفلات الموسيقية، والمحاضرات، وإلقاء كلمة أمام جمع، وحضور حفلات الكوكتيل. قد يسبق إلى الظن أن التيمة المركزية هنا هي الخوف من الرفض الاجتماعي، غير أن هذا لا يفسر خوفه من الطائرات. الحق أن خوف هذا الطبيب الرهابي في كل من هذه الحالات كان من «فقد السيطرة على النفس» مما قد يؤدي إلى إيذاء الآخرين. فقد تحقق الطبيب النفسي من ذلك. واسترعى انتباهه أن هذا المريض لم يكن يخشى من تحطم الطائرة، بل بالأحرى من أن يأخذه هياج مسعور ويفقد التحكم في نفسه ويحمل على المسافرين ويروغ عليهم ضربًا. أما في الحفلات الموسيقية والتجمعات الشبيهة فكان خوفه هو من أن يهبَّ من مكانه ويلوح بذراعيه ويصيح في النظارة بالشتائم والبذاءات. وكانت تعاوده خيالات تتضمن جلوسه بالصف الثاني في الحفلة وتعطيلها تمامًا إذ يقيء على الجالس قبالته، ويطأ أقدام الجالسين وهو يبرح مقعده، ويصرف الجميع عن متابعة الموسيقى.
أما خوفه من الحديث العام في الاجتماعات المهنية فبدا أنه يرتبط بإشفاقه من أن يدحض رأي زميل آخر ويهدم نظريته. وبالنسبة لحفلات الكوكتيل فقد كان قلقه هو من أن يريق كأسه ويصِم الحاضرين بالغباء في فورة اندفاعية. من الواضح مرة ثانية أن العنصر المشترك في هذه الرهابات المتعددة هو خوفه من أن يؤذي الآخرين، وخوفه (بشكل ثانوي) من الإحراج الناجم عن فقد سيطرته على نفسه.
معظم مرضى الرهاب الاجتماعي المتعدد يخشون بالأساس من رفض الآخرين لهم. ولدينا مثال في هذه المرأة التي كانت تعالَج بسبب خوف رئيسي من الرد على الهاتف (التليفون). فقد كانت تخشى أن ترد بغض النظر عما إذا كان المتحدث صديقًا أو غريبًا. وكان لها في تجنب الرد على الهاتف أفانين وحيَل. كانت هذه المرأة، فضلًا عن ذلك، تخاف من القراءة الجهرية أمام الآخرين، ومن عمل وديعة بالبنك، ومن قص الحكايات في التجمعات الاجتماعية، ومن طلب الطعام بالمطاعم، ومن تصحيح التجارب الطباعية لكتابات أي سكرتيرة أخرى بالمكتب.
التفرقة بين عصاب القلق والرهاب
يفضي النظر في الرهابات المتعددة بشكل تلقائي إلى السؤال عن الفرق بين الرهاب وعصاب القلق، وهي تفرقة هامة من حيث إن مريض الرهابات المتعددة قد يكون غرضًا للقلق المتوالي، وذلك لاستحالة أن يتفادى جميع المواقف الرهابية. فالرهابي خليق أن يعاني نوبة قلق حاد كلما تعرَّض للموقف الرهابي وتعذَّر عليه الهروب. وهذا الصنف من النوبات لا يختلف في جوهره عن أية نوبة أخرى من نوبات القلق الحاد.
أما مريض القلق العصابي فليس بمقدوره أن يتجنب المنبه (المثير) المؤذي. فقد يكون خوفه مثلًا متمركزًا حول فكرة إصابته بمرض خطير. وهو بالتالي يفسر أي إحساس جسدي شديد أو غير معتاد أو غير مفسَّر بوصفه علامة على المرض الخطير أو القاتل. وحيث إنه لا يملك أن يهرب من إحساساته الجسمية ويتجنبها فلا فكاك له من القلق. وكثيرًا ما يسبب قلقه مزيدًا من الأحاسيس الجسمية؛ فيضيف ذلك وقودًا جديدًا لخوفه من المرض.
كذلك الشخص الذي يخشى من استهزاء الناس به وازدرائهم إياه وتهجمهم عليه فهو حري أن يدوم قلقه ما دام بين الناس. فإذا ما قام هذا الشخص بعزل نفسه عن الآخرين عزلًا تامًّا فهو عندئذ نهب للرهاب وليس لعصاب القلق.
وتستدقُّ الحدود بين الرهاب والقلق أكثر وأكثر في حالة ذلك المريض الذي «يخاف من كل شيء»، فهو في خوف مثلًا من الجلوس بين الناس ومن الجلوس وحده، ومن البيت والخارج (من الأشياء المنزلية والمواقف الخارجية). من الواضح في مثل هذه الحالة أن «إنذارات الخطر» هي في نشاط دائب يجعل القلق انفعالًا مستديمًا، وأن مثل هذا المريض يعاني من استجابة قلق نموذجية: ذلك أن تفكيره مسكون بهواجس القلق وخيالاته حتى وهو في مكان يعتبره آمنًا.
نشوء الرهاب
- (١) تلك المخاوف الشديدة المبكرة التي تشيع في سن الطفولة وتحدث لمعظم الأطفال والتي يتجاوزها المرء بعد ذلك و«يكبر عنها». يطلق على هذه المخاوف مصطلح «رهابات التثبيت» fixation phobias إشارة إلى أن النضج التصوري (المفاهيمي) فيما يتعلق بهذا الخوف قد توقَّف عند مرحلة مبكرة من مراحل النمو.
- (٢) «رهابات الصدمة» traumatic phobias أو «الرهابات الصدمية»، الشبيهة بعصابات الصدمة. وفيها تؤدي خبرة مؤلمة يمر بها المرء إلى زيادة حساسيته تجاه هذا النوع من المواقف. ومن الأمثلة الصارخة لهذه الرهابات ما يعرف بصدمة القذائف shell shock وكذلك الخوف من السفر بالسيارة بعد خبرة حادث أليم.
لكي نفهم العلاقة بين الخوف والرهاب يجب أن نبرز الفارق بين هذا الصنف أو ذاك من الخوف إذ يخبره العديد من الأسوياء وبينه إذ يصير رهابًا.
فالرهابي أولًا يَعُد المنبه المؤذي أخطر بكثير مما هو في نظر الآخرين. والرهابي ثانيًا يستشعر قلقًا أكبر بكثير من غيره بسبب ما أضفاه على الموقف أو الشيء من خطورة هائلة. وهو ثالثًا يتجنب المنبه الرهابي جهد ما يستطيع ويفرض «مسافة أمان» بينه وبين ذلك المنبه. ويضمر بعض المرضى «رهابًا خفيًّا» لا يسفر عن نفسه إلا حين تحول الظروف بينهم وبين تجنب الموضوع أو الموقف الرهابي. حينئذٍ يضطرهم القلق الموجع والتقييدات الحياتية إلى التماس العلاج.
وقد أفادت أمهات الأطفال الذين تتراوح أعمارهم ما بين ثلاثة أشهر وست سنوات بأن أغلب مخاوفهم تتراتب كالتالي: الخوف من الكلاب، ثم من الأطباء، فالعواصف، فالمياه العميقة، فالظلام. وقد كان محتوى المخاوف لدى الطفل مناظرًا بشكل لافت لمحتواها لدى الأم، وكان هناك ارتباط دال بين المجموع الكلي لمخاوف الأطفال والمجموع الكلي لمخاوف الأمهات، مما يوحي بوجود نمط عائلي للخوف — وهي نقطة سوف نعود إليها عندما نعرض لرهابات التثبيت.
من الملاحظات الهامة أن المخاوف عند الأطفال مرتبطة بالأخطار التي توجد في بيئتهم بالفعل. فصبية الطبقات الدنيا مثلًا يخافون من المُدى النابضية (المطاوي)، والسياط، واللصوص، والقتلة، والمسدسات، والعنف. بينما يخاف صِبية الطبقات العليا من حوادث السيارات، والقتل، والصِّبية الجانحين، والكوارث، والأحداث الأخرى الأكثر غموضًا. وتخشى فتيات الطبقات الدنيا من الحيوانات والغرباء وأعمال العنف، بينما تخشى فتيات الطبقات العليا من المختطفين والمرتفعات وألوان من الأحداث الصدمية غير الواردة عند فتيات الطبقات الدنيا مثل تحطم القطارات وتحطم السفن.
وبصرف النظر عن موقف الوالدين، وحتى في حالة خلوهما من أي رهاب، فإن تجنب المريض للموقف الرهابي يلعب دورًا حاسمًا في استمرار الرهاب. فالتجنب يحول بينه وبين السيطرة على الرهاب وتخطيه. ومع كل تجنب متعاقب يتأصل الرهاب ويزداد عمقًا ورسوخًا.
- (١)
هذا طفل في الثامنة من العمر أصابه خوف بالغ الشدة مصحوب بإغماء يتعلق بالمستشفيات والأطباء وروائح التخدير بعد أن أُجرِيت له عملية خطيرة. واستمر هذا الخوف ينتابه في الكبَر.
- (٢)
وهذه امرأة مريضة برهاب المرتفعات ألمَّ بها الرهاب بعد أن سقطت ذات يوم من عارضة غطس عالية وأصيبت.
- (٣)
كثير من مرضى رهاب قيادة السيارة أصابهم هذا الرهاب بعد حادث صدمي أصيبوا فيه أو أصيب فيه شخص كانوا يتقمصونه (يتوحدون به أو يتماهون معه).
- (٤)
أصيب عدد من المرضى برهاب المرض عندما أصيب أحد أعزائهم بمرض قاتل مثل السرطان، القلب، النزيف الدماغي … إلخ.
- (٥)
وهذه امرأة في الثالثة والعشرين أصابها خوف مقعد من الرعد والبرق. فكانت تتخوف كلما رأت سحبًا داكنة؛ فإذا استهل الرعد ارتاعت وتركت ما في يدها سواء كانت بالعمل أو بالبيت أو أي مكان آخر وهرعت للاختباء في أي مكان لا نوافذ له كالمرحاض. بدأ هذا الرهاب ينتابها في سن الثامنة بعد أن شهدت صبيًّا صغيرًا صعقه البرق وأرداه قتيلًا.
- (٦)
تنشأ بعض الرهابات البينشخصية أيضًا بعد حادث صادم. مثل ذلك المريض الذي أصيب برهاب الظهور في الأماكن العامة بعد نوبة دوار وإغماء، أو الذي أصيب برهاب القيء بعد نوبة قيء مفاجئ ألمت به في مكان عام، وذلك المحامي الذي أصابه رهاب المثول في المحكمة بعد أن أصيب بحالة إنفلونزا معوية مصحوبة بإسهال (كان خوفه متعلقًا باحتمال أن يداهمه إسهال لاإرادي في قاعة المحكمة فيدمر حياته المهنية).
- (٧) قد تحدث رهابات غريبة أيضًا على أثر حدث صدمي. فهذا عامل أصابه خوف رهابي من العمل في الطرق بعد أن صدمته شاحنة بينما كان يرسم خطًّا أبيض. واتسع الرهاب ليشمل الخوف من ركوب الدراجة أو الدراجة النارية على أي طريق (Kraft and Al-Issa, 1965a).
- (٨) وهذه فتاة أصيبت بخوف مستديم من الحرارة بعد أن شاهدت حريقًا أخرجوا فيه جثتَي طفلتين متفحمتين من المنزل المحترق. وقد شمل الرهاب خوفها من أن تستحمَّ بماء حار أو أن تأكل أطعمة ساخنة أو تشرب ماءً ساخنًا. كذلك كانت تتخوف من لمس أي موقد كهربائي سواء أكان في حالة تشغيل أو إبطال، وتتخوف من استعمال أي مكواة ساخنة (Kraft and Al-Issa, 1965b).
تُلقي الرهابات الصدمية أضواءً على العمليات التصورية (المفاهيمية) المتضمنة في تكوين المخاوف. فنتيجة للخبرة الصادمة، يقوم الشخص بتعديل جذري لتقييمه السابق فيما يتعلق بإمكانات الخطر القابع في موقف أو موضوعٍ ما؛ فيرى خطرًا ما كان يعتبره من قبل موقفًا مأمونًا إلى حد كبير.