مبادئ العلاج المعرفي
«إذا شئنا أن نغير العواطف؛ فمن الضروري قبل كل شيء أن نغير الفكرة التي أنتجتها وأن نتبين أنها إما فكرة غير صحيحة في ذاتها أو أنها لا تمسُّ شئوننا ومصالحنا.»
يتألف العلاج المعرفي بمعناه الواسع من كل المُقاربات التي من شأنها أن تخفف الكرب النفسي عن طريق تصحيح المفاهيم الذهنية الخاطئة والإشارات الذاتية المغلوطة. ولا يعني تركيزنا على التفكير أن نغمط أهمية الاستجابات الانفعالية التي هي المصدر المباشر للكرب بصفة عامة. إنما يعني ببساطة أننا نقارب انفعالات الشخص من خلال معرفته أو من طريق تفكيره. وبتصحيح الاعتقادات الخاطئة يمكننا أن نخمد أو نغير الاستجابات الانفعالية الزائدة وغير المناسبة.
أما أولئك الذين يطرقون باب المعالج المحترف، ويلتصق بهم على غير عمد لقب «مريض» أو «عميل»؛ فهم البقية الباقية التي فشلت في السيطرة على مشكلاتها. ربما لأن ردود فعلهم إزاء تلك المشكلات ترتدي طابع الشدة والحدة؛ بحيث لا تستجيب لخبرات الحياة المعتادة أو للعون الذاتي. فقد يكون المريض منذ البدء هشًّا لم يكتسب المهارات التكيُّفية التي يواجه بها المصاعب. وقد تكون مشكلاته عميقة متأصلة. وقد تكون «وصفة سيئة» هي التي أوقعته في الاضطراب. وقد يكون مفتقرًا إلى المصادر غير المهنية للعون. ولا ننس أن الحكمة الشعبية — على نفعها في أحوال كثيرة بل ودخولها في صميم الكثير من العلاج النفسي — لا يندر أن تمتزج بالخرافات والأساطير والمفاهيم الخاطئة التي تخلق توجهًا وبيلًا غير واقعي. زد على ذلك أن كثيرًا من الناس لا يجدون في أنفسهم حافزًا للانخراط في برنامج تحسين ذاتي ما لم يتم ذلك في إطار حرفي.
إن العلاج النفسي، على أية حال، هو الأنفع والأنجع في المشكلات. ويعود ذلك إلى السلطة الكبيرة التي نسندها إلى المعالج، وإلى قدرته على تمحيص المشكلات، ودربته على تقديم مجموعة منظمة ومناسبة من الإجراءات العلاجية.
أهداف العلاج المعرفي
هذه الوظيفة الفكرية الخاصة شبيهة بعملية تكوين الكلام؛ حيث تُطبَّق قواعد النطق والبناء النحوي دون وعي محتشد لهذه القواعد أو لتطبيقها. أما إذا ابتُلي أحد البالغين باضطراب كلامي يريد تقويمه أو إذا أراد تعلم لغة جديدة، فلا بد له عندئذٍ من أن يركز انتباهه على تكوين الجمل والكلمات. وبنفس المقياس، عندما يجد صعوبة في تفسير جوانب معينة من الواقع فقد يفيده أن يركز على القواعد التي يتبعها في بناء أحكامه، فربما ظهر له إذَّاك أن القاعدة خاطئة أو أن تطبيقه للقاعدة غير صحيح.
ولكي نوضح عملية التغير المعرفي سنتخير مثالًا صارخًا بعض الشيء. وهو حالة شخص لديه خوف من جميع الغرباء. عندما نستكشف ردود أفعال هذا الشخص؛ فقد نجد أنه يعمل وفق قاعدة: «كل غريب هو فظٌّ عدائي.» إن القاعدة هي الخاطئة في هذه الحالة. وقد يكون هذا الشخص، من جهة أخرى، مدركًا أن الغرباء يتفاوتون فيما بينهم، ولكنه لم يتعلم أن يميز بين الغريب الودود والغريب المحايد والغريب الفظ. إن الخلل في مثل هذه الحالة هو في تطبيق القاعدة، أي تحويل المعلومات المتاحة في موقف معطَى إلى حكم مناسب.
بديهي أنه ليس كل من يخطئ التفكير يحتاج إلى أن يقوِّم فكره أو يريد ذلك. إنما تحق المساعدة لمن تُسلِمه أخطاؤه للحزن والابتئاس وتُوقِع في حياته الفوضى.
تتمثل المشكلات التي تدفع المرء إلى التماس العلاج في صورة كرب داخلي ذاتي (كالقلق أو الاكتئاب)، أو مصاعب في سلوكه الخارجي الظاهر (مثل الكف المعطِّل أو العدوانية الزائدة)، أو قصور في استجاباته (كالعجز عن الإحساس بمشاعر دافئة أو التعبير عنها). وفيما يلي نوجز أنواع التفكير الذي يبطِّن هذه المشكلات.
تحريفات الواقع الملموسة المباشرة
من التحريفات المألوفة لنا جميعًا تلك الأفكار التي يضمرها مريض البارانويا الذي دأبه كلما رأى الآخرين أن يستنتج، دون تمييز، أنهم يريدون أن يؤذوه (حتى أولئك الذين يودُّونه بشكل واضح). أو كما قال لي أحد المرضى ذات يوم: «لقد قتلت الرئيس كينيدي.»
تحدث تحريفات أقل حدة من ذلك في جميع أنواع العصاب. فقد يرى أحد مرضى الاكتئاب مثلًا أنه لم يَعُد قادرًا على أن يكتب على الآلة الكاتبة أو أن يقرأ أو يقود سيارة. على أنه حين يُضطر إلى إحدى هذه المهام يجد أداءه كفئًا لم يزَل. وقد يشكو رجل أعمال أنه مشرف على الإفلاس، ثم يتبين من فحص حساباته أن وضعه المالي وطيد بل في ازدهار. ونحن حين نسمي ذلك «تحريف الواقع»؛ فإن مبررنا أن التقدير الموضوعي للموقف يناقض تقديره.
وهناك تحريفات سهلة الكشف نسبيًّا. من أمثلة ذلك أفكار من قبيل «إنني أزداد بدانة.» أو «إنني عبء على أسرتي.» وهناك أحكام يتطلب التحقق منها جهدًا أكبر، مثل «لا أحد يحبني.» في مثل هذه الحالات فإن الجلسات العلاجية، خاصة إذا كان المريض قد تدرب على تسجيل أفكاره الأوتوماتيكية، تزودنا بمختبر ممتاز لكشف التحريفات. وهناك، بعد، تحريفات يتبينها المعالج على الفور. مثال ذلك أن يعرب مريض يكنُّ له المعالج مشاعر دافئة عن اعتقاده بأن المعالج لا يحبه.
التفكير غير المنطقي
هناك أحوال لا يكمن فيها الخطأ في تقدير المريض للواقع بل في النظام الذي يتخذه في بناء الاستدلالات واستخلاص النتائج من الملاحظات: يسمع المريض ضوضاء بعيدة؛ فيستنتج أن أحدًا قد أطلق عليه النار من مسدسه. في مثل هذه الحالات إما أن تكون المقدمات الكبرى خاطئة أو أن العمليات المنطقية مغلوطة. فهذا مريض بالاكتئاب يلاحظ أن هناك تسريبًا بأحد صنابير الحمام، وأن الشعلة الدائمة بالموقد قد نفدت، وأن إحدى درجات السلم مكسورة، فيستنتج: «إن المنزل برمته في حالة خراب.» لقد كان المنزل بحالة ممتازة (باستثناء هذه المشكلات الصغيرة). الخطب أن صاحبنا قد ارتكب تعميمًا مفرطًا غاية الإفراط. وبنفس النهج فإن المرضى الذين يعانون مصاعب ناجمة عن سلوكهم الظاهر كثيرًا ما يبدءون من مقدمات خاطئة. فالشخص الذي دأب على تنفير الغير من صحبته بسبب عدوانيته الزائدة قد يكون تصرفه خاضعًا لقاعدة: «إذا لم أزح الناس عن طريقي أزاحوني.» أما الشخص الخجول الهياب فقد يكون سائرًا على هذا المبدأ دون تمييز: «إذا فتحت فمي فسينقض عليَّ الجميع.»
التعاون العلاجي
كما يتعين على المعالج أن يلتفت إلى التقلبات التي تعتري مشكلات المريض من جلسة إلى أخرى. فكثيرًا ما يصوغ المرضى «جدول أعمال» يضم الموضوعات التي يريدون تناولها في جلسة بعينها. فإذا ما أهمل المعالج ذلك ولم يُعِره اهتمامًا فإنه يضفي على العلاقة توترًا لا داعي له. من ذلك أن يكون المريض منغَّصًا مهمومًا بمشاحنة جديدة بينه وبين زوجته بينما المعالج متصلب في التزامه بمخطط مقدَّر سلفًا (مثل خفض حساسيته من رهاب الأنفاق). مثل هذا التعنت من جانب المعالج قد يدفع المريض إلى أن يعرض عنه وينأى بجانبه.
تأسيس المصداقية
لا تبرأ الاقتراحات والصياغات التي يقدمها المعالج في كثير من الأحيان من أن تكون مصدرًا لبعض المشكلات. فحين ينظر المرضى إلى المعالج كنوع من السوبرمان يكونون أميل إلى قبول تفسيراته وتوجيهاته والتسليم بها كمنطوقات مقدسة. مثل هذا التقبل البليد لافتراضات المعالج وأخذها على علاتها يحرم العلاج من التصحيح الذي يمكن أن يأتي به التقييم النقدي من جانب المريض لآراء المعالج.
هناك مشكلة من صنف آخر تتعلق بالمرضى الذين يستجيبون آليًّا لتصريحات المعالج بالشك والريبة. يظهر ذلك في أبلغ صوره عند مريض البارانويا والاكتئاب الشديد؛ فحين يعمد المعالج إلى كشف التحريفات التي يقوم بها المريض لصورة الواقع قد يُلفي نفسه متورطًا في المنظومة الاعتقادية الراسخة لذلك المريض. لذا يتحتم على المعالج أن يؤسس أرضية عامة بشكلٍ ما أو يجد نقطة التقاء ما بينه وبين المريض، فيشرع عندئذٍ في توسيع دائرة الاتفاق بدءًا من هذه النقطة. إن مرضى الاكتئاب مثلًا كثيرًا ما يرِين عليهم اعتقاد بأن اضطرابهم الانفعالي سوف يدوم ويتفاقم ولن يفيد فيه علاج. فإذا كان المعالج حيال مريض من هؤلاء وتعجَّل باتخاذ موقف حماسي متفائل؛ فقد يتراءى للمريض أن هذا المعالج إما كاذب ملفق أو أنه لا يعِي جسامة مرضه وعيًا حقيقيًّا أو أنه، ببساطة، رجل أحمق. كذلك الشأن في حالة مريض البارانويا؛ فحين يحاول المعالج أن يصحح آراءه المشوهة للواقع فقد يدفعه في حقيقة الأمر إلى مزيد من الاعتقاد بها. وربما بدأ في اعتبار المعالج عضوًا في «المعارضة» وأفرغ له دورًا محوريًّا داخل منظومته الضلالية.
إن المدخل الأسلم في تأسيس المصداقية هو أن نوصل للمريض رسالة من قبيل: «إن لديك أفكارًا معينة تضايقك. هذه الأفكار قد تكون صحيحة وقد تكون غير ذلك. لنفحص الآن بعض هذه الأفكار.» وباتخاذ هذا الموقف المحايد يستطيع المعالج عندئذٍ أن يشجع المريض على أن يعبر عن أفكاره المحرَّفة، مصغيًا إليها بانتباه. بمقدوره بعد ذلك أن يطلق «منطاد اختبار» يستطلع به الأمر ويجس النبض، كي يحدد ما إذا كان المريض مهيَّئًا لفحص الأدلة المتعلقة بهذه التحريفات.
إن عبارات من هذا القبيل لتوحي دائمًا بأن المريض لا يوافق المعالج، على الأقل جزئيًّا. وتلزم المعالج أن يشرع في فحص تحفظات المريض والتحقق منها، وأن يشجعه على تفنيد صياغته والرد عليها بالحجة.
من الجائز في الحالات الأقل شدة أن يتعامل المعالج مباشرة مع الأفكار المغلوطة، على أن يتحلى بالحصافة ويقدر مدى تقبل المريض لعبارات فيها تحدٍّ لتصوراته المحرَّفة. قد يثير حنق المريض أن نقول له إن أفكاره خاطئة، ولكنه قد يستجيب إيجابيًّا لسؤال مثل: «هل هناك تفسير آخر لسلوك زوجتك؟» وما دامت محاولات المعالج للتفسير والتوضيح في حدود مقبولة من جانب المريض، تظل فجوة المصداقية بينهما كأضيق ما تكون.
اختزال المشكلة
ولنأخذ على ذلك مثالًا بحالة المريض الذي يعاني من رهابات متعددة. فالمرأة التي عرضنا لها في الفصل السابع كانت تعاني بشكل معوِّق من خوف من المصاعد والأنفاق والتلال والأماكن المغلقة وركوب سيارة مكشوفة وركوب الطائرة والسباحة والمشي السريع والجري والرياح الشديدة والطقس الحار الرطب. في مثل هذه الحالة فإن علاج كل رهاب على حدة عن طريق «خفض الحساسية المنظم» قد كان يتطلب جلسات علاجية لا تحصَى عددًا. غير أننا استطعنا العثور على قاسم مشترك لكل تلك الأعراض: هو خوفها المسيطر من الاختناق. لقد كانت هذه المرأة تعتقد أن كلًّا من تلك المواقف الرهابية يمثل خطر الحرمان من الهواء، وبالتالي الاختناق. ومن ثم اتجه تركيزنا العلاجي مباشرة إلى هذا الخوف المركزي.
يمكن تطبيق مبدأ «اختزال المشكلة» أيضًا بشأن الأعراض المتنوعة التي يشملها مرض معين كالاكتئاب. فحين يتركز العلاج على عناصر محورية معينة مثل نقص اعتبار الذات أو التوقعات السلبية يمكنه أن يثمر تحسنًا في المزاج وفي السلوك الظاهر والشهية ونمط النوم. فهذا مريض، على سبيل المثال، كان كلما مرَّ بخبرة سارة أفسدت بهجته فكرة منغصة. فما يكاد مثلًا يحس بمتعة لدى استماعه للموسيقى حتى يحدِّث نفسه: «هذا التسجيل سينتهي سريعًا.» فتزول متعته للتو. وما يكاد يجد في نفسه هناءةً ما بفيلم سينمائي أو بموعد مع فتاة أو بمجرد المشي، حتى تحدثه نفسه: «سينتهي هذا سريعًا.» فتخمد بهجته على الفور. في هذه الحالة أصبح التركيز العلاجي منصبًّا على ذلك النمط الفكري الذي يفيد أنه عاجز عن الاستماع بالأشياء لأنها سوف تزول.
في حالة ثانية كانت بؤرة التركيز هي استغراق المريضة الزائد في الجوانب السلبية من حياتها وإغفالها الانتقائي لوقائعها الإيجابية. وتألَّف العلاج من حثِّ المريضة على أن تسجل وتستعيد الخبرات الإيجابية في حياتها. وكم كانت دهشتها لكثرة الخبرات السارة التي مرت بها ثم تناستها ولم تَعُد تذكرها.
بمراجعة دءوب لأعراض المريض وتاريخ المرض يمكننا في الأغلب تحديد التتابعات السببية. ويكون من اقتصاد الجهد والفكر بصفة عامة أن نركز على تلك العوامل التي يتبين أنها الأساس الذي تقوم عليه بقية الأعراض وتنتج عنه. فهذا على سبيل المثال طالب دراسات عليا ذو تاريخ طويل من الاكتئاب. تلقَّى هذا الطالب علاجًا نفسيًّا يتألف من محاولات فاشلة من جانب المعالج لرفع اعتباره لذاته وخفض انتقاده لها. بالإضافة إلى تجريب كل مضادات الاكتئاب المتوافرة فعليًّا بالسوق. إلا أنه بقي على حاله حزينًا مستوحشًا مسكونًا بهواجس انتقاص الذات، وظل مضطرب النوم فاقد الشهية واهن الجسم وهنًا مزمنًا.
بعد تحليل مفصَّل لظروف هذا المريض الماضية والحاضرة بزغ النمط التالي: لقد كان هذا الشاب يعاني من عدد من الرهابات المزمنة: مخاوف من الخروج بمفرده، ومن الأماكن المفتوحة، ومن الرفض الاجتماعي. غير أن ظروفه كانت تسعفه طيلة سنوات الدراسة المدرسية بما يغالب به مصاعبه ويعوض ضعفه. فحيث كان يعيش في بيت الأسرة كان يجد دائمًا من يرافقه إلى المدرسة. وكان أصدقاؤه يصحبونه في المواقف الاجتماعية الجديدة؛ فيخففون عنه من خوف الرفض الكامن في نفسه. وقد أمكنه في ظل هذه المنظومة من التدعيمات والمساندات أن ينهي دراسته الجامعية بسلام ويقضي حياة اجتماعية مُرضية. لم تعجزه الرهابات في هذه المرحلة إذ تيسرت له سبل لمراوغتها والإفلات من قبضتها.
فلما أزف أوان الدراسات العليا وتعين عليه أن ينتقل إلى مدينة بعيدة انكشف اكتئابه وأسفر عن وجهه. وإذ صار بمعزل بدأ القلق الشديد يتملكه. وكلما أزمع السير إلى محاضرة أخذه الخوف من كارثة صحية توشك أن تنزل به حيث لا أحد هناك لينقذه. ورأى من الأسلم أن يلبث بشقته على مقربة دائمًا من الهاتف حتى يمكنه استدعاء العديد من الأطباء الذين عقد بهم صلة. ورغم أنه تمكن من أن يحمل نفسه على الذهاب إلى المحاضرات فقد كان السفر بالنسبة إليه مصحوبًا بكثير من القلق. وكان يهرع عائدًا إلى غرفته عندما تنتهي المحاضرات. ولم يكوِّن صداقات جديدة لأن القلق كان يساوره كلما حاول أن يقيم صداقة مع طالب آخر. فكان من ثَم يتجنب المواقف الباعثة على القلق قدر المستطاع. وتراكم تأثير الحرمان التام من التفاعل الاجتماعي في صورة مشاعر الوحدة والتشاؤم والتبلد والعلامات الفسيولوجية للاكتئاب.
هذا هو التتابع السببي الحقيقي لهذه الحالة أعدنا بناءه. وعلى أساس هذا البناء قمنا بالتركيز على الرهابات أساسًا وليس على الاكتئاب بحد ذاته. واستخدمنا في علاج هذه الرهابات تقنيات «خفض الحساسية المنظم»؛ حيث كان هذا المريض يتصور في ذهنه مشاهد لكوارث جسدية، إلى جانب مجموعة منفصلة من مشاهد الرفض الاجتماعي. وكنا نشجعه على أن يقاوم ميوله التجنبية ويعرِّض نفسه بالتدريج للمواقف التي اعتاد أن يرهبها. واستطاع صاحبنا في النهاية أن يغادر شقته دون قلق وأن يشترك في حوار مع شخص غريب. هذا الإحساس بالإنجاز لا شك أذهب عنه بعض أعراض الاكتئاب. غير أن الأعراض الاكتئابية المتبقية كانت بعدُ كبيرة. إلا أنه إذ تمكن من قهر استجاباته الرهابية استطاع شيئًا فشيئًا أن يقيم علاقات جديدة، وأن يحصل على الإشباع الذي كان يفتقده. وإذ جعلت إشباعاته الناتجة من نشاطه الاجتماعي تزداد وتطَّرد فقد زايله الاكتئاب وتم شفاؤه.
تعلم التعلم Learning to Learn
إن هذا المدخل العلاجي، مدخل «حل المشكلات»، يضع عن كاهل المعالج كثيرًا من المسئولية ويدفع بالمريض إلى مواجهة مصاعبه بنشاط أكبر. إنه يقلل اعتمادية المريض على المعالج؛ فيزيد بذلك ثقته بنفسه واعتباره لذاته. ولعل الأهم من ذلك أن طريقة المشاركة الإيجابية للمريض في تحديد المشكلة ووضع خيارات عديدة وتأملها، توفر معلومات أكثر بكثير مما تتيحه أي طريقة أخرى. كما أن مشاركة المريض في صنع القرار تساعده بالتأكيد على تنفيذه.
وقد كنت أشرح لمرضاي مفهوم حل المشكلات بطريقة قريبة من هذه: «من أهداف العلاج أن يساعدك على تعلُّم طرق جديدة لتناول المشكلات. حتى إذا ما عنَّت المشكلات أمكنك أن تطبق الصيغ التي فرغت من تعلمها. عندما كنت تتعلم الحساب مثلًا كنت تكتفي بتعلم القواعد الأساسية ولم يتوجَّب عليك أن تتعلم كل حسبة جمع أو طرح ممكنة. فبمجرد أن تعلمت العمليات ذاتها أمكنك أن تطبقها على أي مسألة حسابية.»
ولكي نوضح فكرة «تعلم التعلم» لنمعن النظر في المشكلات العملية والبينشخصية التي تدخل في الأعراض المختلفة لأحد المرضى. فهذه امرأة، على سبيل المثال، كانت مبتلاة دائمًا بالصداع ومشاعر التوتر وآلام البطن والأرق. وحين ركزت على مشكلاتها بالعمل والمنزل أمكنها أن تجد بعض الحلول لها وقل تعرضها للأعراض السابقة. وقد أمكنها، كما تمنينا، أن تعمم هذه الدروس العملية وتحل بها مشاكلها الحياتية الأخرى؛ بحيث لا يلزمنا أن نتناول جميع مشكلاتها في جلسات العلاج.
من بين أصناف المشاكل التي كانت تسبب لها الأعراض ما يلي: كانت هذه المرأة دائمة التوتر أثناء العمل لأن رئيسها في العمل كان شديد الانتقاد. وكانت على ارتفاع أدائها دائمة الخوف من أن تقع في خطأ ما فتثير حنقه. لقد نفدت حيلتها ولم تعرف لنفسها مخرجًا من هذا الوضع. لذا قمنا بتجريب عدد من الطرائق التي يمكن أن تستخدمها في مناقشة المشكلة مع رئيسها بشكل مباشر. ولما تمَّ تهيؤها قالت له: «إنني متوترة دائمًا ما دمت موجودًا لأني متوجسة من أن تهاجمني. إن هجومك عليَّ لا يزيد أدائي إلا سوءًا. هذا ما كنت أود دائمًا أن أجد القدرة على أن أقوله لك.» لقد أثار هذا القول دهشة رئيسها عند سماعه. ومنذ ذلك الحين قلَّ انتقاده لها.
تعلمت المريضة من هذه الخبرة أن بإمكانها أن تواجه الآخرين وتثبت لهم. وصارت قادرة في المواقف المشابهة على أن تتعامل مع خوفها من النقد بأن تكون أكثر ثقة واعتدادًا. أضف إلى ذلك أن زيادة اعتدادها بنفسها جعلها أقل حساسية للنقد.
يشمل «تعلم التعلم» ما هو أكثر بكثير من اتباع بضع تقنيات يستخدمها المريض في حل مجموعة عريضة من المواقف. فهذا المدخل يهدف في الأساس إلى أن يزيل العوائق التي كانت تمنع المريض من الإفادة من الخبرة ومن تنمية طرائق ناجحة للتعامل مع مشكلاته الداخلية والخارجية. إن معظم المرضى هم أناس قد أعاقت نموَّهم النفسي-الاجتماعي مجموعة معينة من الاتجاهات وأنماط السلوك اللاتكيُّفية. ففي حالة المرأة ذات المشكلات العديدة بالعمل والمنزل؛ فقد كانت استجابتها المميزة كلما واجهت علاقات حساسة أو مشكلات عملية جديدة هي: «لا أدري ماذا أفعل.» وبفضل العلاج كانت كل خبرة ناجحة (تحُتُّ) شيئًا من هذا الاتجاه السلبي. وبالتالي تمكنت من أن تستند إلى براعتها الخاصة في مواجهة المواقف الشديدة التباين والسيطرة عليها.
من دأب المرضى بوجه عام أن يتجنبوا المواقف التي تسبب لهم الحرج. وهم بالتالي لا ينمُّون لديهم فنيات (تقنيات) المحاولة والخطأ التي هي شرط أساسي لحل جميع المشكلات. أو قل إنهم ببقائهم خارج المواقف الصعبة لا يتعلمون كيف يتخلصون من ميلهم إلى التحريف أو المبالغة. فالشخص الذي لا يبتعد عن بيته خوفًا من الغرباء لن يتأتى له أن يتعلم كيف يختبر صدق مخاوفه أو كيف يفرِّق بين الغرباء المسالمين والغرباء الخطرين. وهو من خلال العلاج يمكنه أن يتعلم ليس فقط أن يختبر هذه المخاوف بل وأن يختبر المخاوف الأخرى اختبار الواقع.
إن الإحساس بالتحكم والسيطرة الذي يحدث من جراء حل إحدى المشكلات، كثيرًا ما يلهم المريض أن يتناول غيرها من المشكلات التي طالما تجنبها وأن يحلها. هكذا لا يكون عائد العلاج الناجح هو التحرر من المشكلات الأصلية فحسب، بل هو أيضًا تغير سيكولوجي دقيق يؤهله لمواجهة التحديات الجديدة.