أبو الزهراء
في ذكرى المولد النبوي الكريم جادت قريحة الشاعر بهذه القصيدة العصماء عام ١٩٤٨م.
أطلَّت على سُحبِ الظلامِ ذُكاءُ
وفُجِّرَ من صخرِ التنُوفةِ مَاءُ١
وخُبِّرت الأوثانُ أنَّ زمانَها
تولَّى، وراحَ الجهلُ والجهلاءُ
فما سجدت إلَّا لذي العرشِ جبهةٌ
ولم يَرتفعْ إلَّا إليه دُعَاءُ
تبسَّم ثغرُ الصبحِ عن مولدِ الهُدى
فللأرضِ إشراقٌ به وزُهَاءُ
وعادت به الصحراءُ وهي جديبة
عليها من الدينِ الجديد رُوَاءُ٢
ونافست الأرضُ السماءَ بكوكبٍ
وضيءِ المحيّا ما حَوَتْه سماءُ
له الحق والإيمانُ بالله هالة
وفي كلِّ أجواء العقولِ فَضاءُ
تألَّق في الدنيا يُزيح ظلامَها
فزال عمًى من حولِه وعَماءُ
وردّ إلى العُرْب الحَياة وقد مضى
عليهم زمانٌ والأمامُ وَراءُ
حجابٌ طوى الأحدَاثَ والناس دونهم
فأظهر ما تجلو العيون خَفاءُ
بنت أممٌ صرحَ الحضارةِ حولهم
وأقْنعهم إبلٌ لهم وحُداءُ٣
عُقولٌ من الأحجارِ هامت بمثلها
وكل بَكيمٍ للبكيمِ كِفاءُ
فكم كان للرومانِ والفرسِ صولةً
وهمْ في بوادي أرضهم سُجناءُ
عِرَاكٌ وأحقادٌ يشبُّ أوَارها
جحيمًا، وكِبرٌ أجْوَفٌ وغَباءُ
عجَبتُ لأمرِ القومِ يحملونَ ناقةً
وساداتهم من أجْلِها قُتلاءُ
•••
بدا في دُجى الصحراء نورُ محمدٍ
وجلجلَ في الصحراء منهُ نِداءُ
نبيٌّ به ازدانت أباطِحُ مكةٍ
وعزَّ به ثَوْرٌ وتاه حرَاءُ٤
يُنادى جريءَ الأصغريْن بدعوةٍ
أكبَّ لها الأصنامُ والزُّعماءُ٥
دعاهم لربٍّ واحدٍ جلَّ شأنه
له الأمرُ يولي الأمرَ كيف يَشاءُ
دعاهم إلى دينٍ من النورِ والهُدى
سَماحٌ ورفقٌ شاملٌ ووفَاءُ
دعاهم إلى نبذِ الفخارِ وأنهم
أمامَ إله العالمينَ سَواءُ
دعاهم إلى أن ينهضوا بِعُفاتهم
كِرامًا، فطاحَ الفقرُ والفقراءُ٦
دعاهم إلى أن يفتحوا القلبَ كي ترى
بصيرتُه ما يُبصر البُصراءُ
دعاهم إلى القرآنِ نورًا وحكمةً
وفيه لأدواء الصدورِ شِفاءُ
دعاهم إلى أن يهزموا الشركَ طاغيًا
تسيلُ نفوسٌ حوله ودِماءُ
دعاهم إلى أن يبتَنُوا الملكَ راسخًا
له العدلُ أسٌّ والطموحُ بناءُ
دعاهم إلى أنَّ الفتى صنع نفسه
وليس له من قومِه شُفعاءُ
دعاهم إلى أن يملكوا الأرضَ عُنوةً
مساميحَ، لا كِبرٌ ولا خُيلاءُ
فلبّاه من عُليَا مَعدٍّ غضافِرٌ
كماةٌ إذا اشْتدَّ الوغَى شُهداءُ٧
أشدَّاء ما باهى الجهادُ بمثلهم
وهم بينهم في أمرهِم رُحماءُ
أساءوا إلى الأسيافِ حتى تحطَّمت
وما مَرَّةً للمستجيرِ أساءوا
وقد حملوا أرواحَهُمْ في أكفِّهم
وليس لهم إلَّا الخلود جَزاءُ
إذا أحكموا في أمَّةٍ لان حكمُهم
فما هي أنعامٌ ولا هي شَاءُ٨
فهل تعلم الصحراء أنَّ رعاءَها
حُماةٌ بآفاق البلاد رُعَاءُ٩
وأنهمُ إن زاولوا الحكمَ سَاسةٌ
وإن أرسلوا أَحكَامهم فَقهاءُ
لقد شربوا من منهل الدين نُغبةً
مطهرةً، فالظامئون رِوَاءُ١٠
وقد لمحوا من نورِ طه شُعاعةً
فكل ظلامٍ في الوجود ضِياءُ
نبيٌّ من الطُّهرِ المصفَّى نجاره
سماحة نفسٍ حُرَّةٍ وصَفاءُ١١
وصبرٌ على اللأواء ما لانَ عُودهُ
ولا مَسَّهُ في المعضلاتِ عَناءُ١٢
وزهدٌ له الدنيا جناح بعوضة
وكل الذي تحت الهباء هَباءُ
تراه لدى المحراب نُسكًا وخشيةً
وتلقاهُ في الميدانِ وهو مَضَاءُ
إذا صالَ لم يترك مَصالًا لصائلٍ
وإن قَال ألقت سمعَها البُلغَاءُ
كلامٌ من الله المهيمن روحُه
ومن حلل الفُصحى عليه رداءُ١٣
كلامٌ أرادته المقاويلُ فالتوى
عليها، وضلَّت طُرقَه الحُكماءُ١٤
كلامٌ هو السحرُ المُبين وإن يكن
له ألفُ مثل الكلام وَبَاءُ
عجيبٌ من الأميِّ علمٌ وحكمةٌ
تضاءَل عن مرماهِمَا العُلماءُ
ومن يَصطفِ الرحمن! فالكون عبده
ودُهم الليالي أينَ سارَ إماءُ١٥
•••
نبيُّ الهدى قد حرَّق الأنفسَ الصدَى
ونحن لفيضٍ من يديك ظِمَاءُ
أفِضْها علينا نفحَةً هاشميةً
يُلَمُّ بها جُرحٌ ويبرأُ دَاءُ
فليس لنا إلَّا رِضَاك وسيلةٌ
وليس لنا إلَّا حِماكَ رَجاءُ
حننا إلى مجدِ العروبةِ سامقًا
وما نحنُ في ساحاتِه غُرباءُ
زمان لواء العُربِ يُزهى بقومه
وما طالَه في العالمين لِواءُ
زمان لنا فوق الممالكِ دولةٌ
وفي الدهر حكمٌ نافِذٌ وقضاء
فيا رب هيئ للرشاد سبيلَنَا
إذا جَار خَطبٌ أو ألمَّ بَلاءُ
ونصرًا وهديًا إن طغى السيلُ جارفًا
وفاضَ بما يحوي الإناء إناءُ
نناجيكَ هذي راية العُربِ فاحمها
فمن حولها أجنادُكَ البُسَلاءُ
رميْنا بكفٍّ أنت سدّدت رميها
فما طاشَ سهمٌ أو أخلَّ رِمَاءُ
أَعِرْنَا بحق المصطفَى منك قَوَّةً
فليس لغيرِ الأقوياء بَقَاءُ١٦
وأسبغْ علينا درعَ لطْفِك إنَّها
لنا في قتامِ الحادثاتِ وِقاءُ١٧
•••
إليك أبا الزهراء سارت مواكبي
مواكبُ شعرٍ ساقهن حَياءُ
وأنَّى لمثلي أنْ يُصوِّر لمحةً
كَبَا دُون أدنى وصفها الشُّعراءُ١٨
ولكنها جهدُ المحبِّ فهل لها
بقُدسِك من حظ القبولِ لِقاءُ
ولي نسبٌ يُنمى لبيتكَ صانني
وصانته منِّي عِزَّةٌ وإباءُ١٩
عليك سلامُ اللهِ ما ذَرَّ شارِقٌ
وما عطَّر الدنيا عليكَ ثناء٢٠
هوامش
(١) ذكاء: الشمس. صخر التنوفة: الحجارة بالمفازة والمقصود صحراء
الحجاز.
(٢) رواء: حسن المنظر.
(٣) حداء: سوق الإبل والغناء لها.
(٤) أباطح: مسيل واسع فيه حصى. تاه: اختال.
(٥) الأصغرين: القلب واللسان. أكب: سقط.
(٦) عفاتهم: طلاب المعروف. طاح: ذهب.
(٧) معد: قبيلة معد وهي من أشراف العرب. غضافر: أسود شجعان. كماة:
رماة.
(٨) شاء: الكثير من الغنم.
(٩) رعاءَها: ولاتها والمقصود رعاة الأغنام بها. رعاء: غطاء. يراعون
الحقوق.
(١٠) نغبة: جرعة.
(١١) نجاره: أصله.
(١٢) اللأواء: الشدة.
(١٣) حلل الفصحى: أردية الفصاحة والبلاغة.
(١٤) أرادته المقاويل: أرادت محاكاته. التوى عليها: صعب عليها.
(١٥) دهم الليالي: الليالي حالكة السواد.
(١٦) أعرنا: مدنا.
(١٧) أسبغ: أتمم. قتام: غبار وقيل: لون فيه غبرة وحمرة.
(١٨) كبا: سقط.
(١٩) نسب: انتماء وقرابة يشير إلى نسب الشاعر إلى الرسول عليه الصلاة
والسلام.
(٢٠) ذر: طار. شارق: ناحية المشرق.