تهنِئةُ المليكِ بالعيد (فاروق الأول)
عيد الفطر المبارك سنة ١٣٥٧ﻫ/١٩٣٧م
أَسَمِعْتَ شَدْوَ الطائرِ الغِرِّيدِ
هَزِجًا يُنَاغِي فَجْرَ يَوْمَ العِيدِ؟١
وَبَدَا عَمُودُ الصُّبح أَبْيَضَ ناصِعًا
كالسَّلْسَلِ الضَّحْضَاحِ فَوْق جَلِيدِ٢
أَوْ كاليدِ البَيْضَاء تَنْضَح بالنَّدَى
والغيث، أو جِيدِ العَذَارَى الغِيدِ
أو كاقْتِبَالِ الْحُسْنِ بعد تَحَجُّبٍ
أَو كابتسام الدَّلِّ بعد صُدُودِ٣
وإذا لَمَحْتَ الشَّرْق خِلْتَ عَرَائِسًا
مَاسَتْ بثوبٍ كالشَّباب جَدِيدِ٤
يَرْفُلْنَ في ضَافِي الضِّياءِ نَوَاعِمًا
في سِحْرِ أنغام، وَلينِ قُدُودِ٥
وَدَمُ الشَّباب له روائعُ نَشْوَةٍ
ما نَالَها يومًا دَمُ العُنْقُودِ٦
مَا بين طَرْفٍ بالخديعة ناعِس
ثَمِلٍ، وآخَرُ في الهوى عِرْبِيدِ
•••
وَدَّعْتُ أيامَ الشَّبابِ حَوَافِلًا
من بعدما عَصَفَ المشِيبُ بِعُودِي
فإذا خَطَرْنَ، فَهُنَّ رُؤْيَا نَائِمٍ
وإذا هَمَسْنَ، فَهُنَّ رَجْعُ نَشيدِ
أَرْنُو إلى عَهْدٍ لهُنَّ كَأَنَّمَا
أَرْنُو لِنَجْمٍ في السَّمَاء بَعِيدِ
وَأَرَى الحياةَ بلا شَبَابٍ مِثْلَمَا
لَمَعَ السَّرَابُ بِمُقْفِرَاتِ البِيدِ٧
•••
إنَّ الشَّبَابَ رَحِيقُ أَزْهَارِ الرُّبَا
وَحَفِيفُ غُصْنِ الْبَانَةِ الأُمْلُودِ٨
وَمَطِيَّةُ الآمال في رَيْعَانِهَا
وسِرَاجُ لَيْلِ السَّاهِدِ الْمَجْهُودِ
وَبَشَاشَةُ الدُّنيا إذا ما أَقْبَلَتْ
ونجاةُ وَعْدٍ منْ أَكُفِّ وَعِيدِ
هو في كتابِ العمرِ أوَّلُ صَفْحَةٍ
بُدِئَتْ بِبِسْمِ اللهِ وَالتَّحْمِيدِ
وَربيعُ أيَّامِ الحياةِ تَبَسَّمَتْ
رَوْضَاتهُ عَنْ ضَاحِكَات وُرُودِ
أَهْدَى لها الوَسْم نَسْجَ غَلَائِلِ
وَأَتَى الوَلِيُّ لها بوَشْيِ بُرُودِ٩
وَسَرَى النَّسِيمُ بها يُغَازِلُ أَعْيُنًا
مِنْ نَرْجِسٍ وَيشمُّ وَرْدَ خُدُودِ
إنَّ الشبابَ، ومَا أُحَيْلَى عَهْدَه!
كالواحَةِ الخَضْرَاء في الصَّيْهُودِ١٠
تَلْقَى بها ماءً وظِلًّا حَوْلَهُ
جَدْبُ الْجَفَافِ وَقَسْوَةُ الْجُلْمُودِ١١
•••
إنّي طَرَحْتُ مِنَ الشبابِ رِدَاءهُ
وثَنَيْتُ عَنْ لَهْوِ الصَّبَابَةِ جِيدِي١٢
واخْتَرْتُ من صُحُفِ الأوائِلِ صَاحِبِي
وجَعَلْتُ مأثُور البَيَانِ عَقِيدِي١٣
وَمَرَرْتُ بالتاريخ أَمْلَأُ نَاظِرِي
منه وأُحْيِي بالفناء وُجُودِي
كَمْ عاَلم قابلْتَ في صَفَحَاتِه
ولكَمْ ظَفَرْتُ بفاتحٍ صِنْدِيدِ!١٤
وإذا التمسْتَ مِن الدُّهورِ رِسَالةً
فَصَحَائِفُ التَّاريخ خَيْرُ بَرِيدِ
أَحْنُو إلى قَلَمي كأنَّ صَرِيرَه
في مِسْمَعِي الْمَكْدُودِ رَنَّةُ عُودِ١٥
وأعيشُ في دُنْيَا الْخيالِ؛ لأنَّني
أَحْظَى بها بالفائِتِ الْمَفْقُودِ
كَمْ لَيْلَةٍ سامَرْتُ شِعْرِيَ لَاهِيًا
والنَّجْمُ يَلْحَظُنا بعين حَسُودِ
حِينًا يُرَاوغُنِي فأنْظُرُ ضَارِعًا
فَيَلِينُ بعد تنكُّرٍ وجُحُودِ
ولقد أُغَرِّدُ بالقريض فَيَنْثَنِي
فأَنَالُ قَادِمَتيْهِ بالتَّغْرِيدِ١٦
طهَّرْته من كلِّ ما تأبى النُّهَى
ويَعَافُهُ سَمْعُ الحِسَانِ الْخُودِ١٧
وَبَعَثْتُ فِيهِ تجاربًا مَذْخُورَةً
هِيَ كلُّ أَمْوَالي وكلُّ رَصِيدِي
وَجَعلْتُ تَشْبِيبِي بِمِصْرَ ومَجْدِهَا
وشمَائِل «الفَارُوق» بَيْتَ قَصِيدي١٨
•••
مَلِكٌ زَهَا الإسلامُ تَحْتَ لِوَائِه
وَأَوَى لِرُكْنٍ مِن حِمَاهُ شَدِيدِ
إنْ فَاتَ عَهْدُ الراشدينَ فَقَدْ رَأَى
في دَوْلَةِ «الفَارُوق» خَيْرَ رَشِيدِ
قَرَنَتْ مَنَابِرُه جَلائِلَ سَعْيِهِ
وَجِهَادِهِ بِشَهادةِ التَّوْحِيدِ
وصَغَتْ مَسَاجِدُه لِتَرْدِيدِ اسْمِهِ
فكأنما يَحْلُو علَى التَّرْدِيدِ١٩
مَنْ يَجْعَلِ الإيمَانَ صَخْرَةَ مُلْكِهِ
رَفَعَ البنَاءَ على أشَمِّ وَطِيدِ٢٠
كَمْ وَقْفةٍ لك في المَحَارِبِ جَمَّلَتْ
عزَّ المُلوكِ بِخَشْيَةِ المعْبُودِ٢١
سَجَدَتْ لك الأيَّامُ حينَ تَلَفَّتتْ
فرأتكَ بينَ تَشَهُّدٍ وسُجُودِ
وتَطَلَّعَ الإسلَامُ في أمْصَارِهِ
يَهْفُو لِظلِّ لِوَائِكَ الْمَعْقُودِ
•••
سَعِدَ الصِّيَامُ وشَهْرُهُ بمُجَاهِدٍ
عَبِقَ الوُجُودُ بذِكْرِهِ الْمَحْمُودِ٢٢
فَنَهَارُه للصَّالِحَاتِ، وَلَيْلُهُ
لِلْبَاقياتِ وللنَّدَى والْجُودِ٢٣
حَيَّيْتَ في المِذْيَاعِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ
مِنْهُ بقَولٍ مُحْكَمِ التَّسْدِيدِ
جَمَعَ السِّيَاسَةَ كُلَّهَا فِي أَحْرُفٍ
كالعِقْدِ أَلَّف بَيْنَ كُلِّ فَرِيدِ
وَكَقَطْرَةِ العِطْرِ الَّتي كَمْ جَمَّعَتْ
من نَوْرِ أغْوَارٍ وَزَهْرِ نُجُودِ٢٤
قَوْلٌ بِهِ الْحِكَمُ الغَوَالِي نُسِّقَتْ
ما بينَ منْثُورِ وَبَيْن نَضِيدِ٢٥
أصْغى إليه الشَّرْقُ يَسْمَعُ دَعوَةً
قُدْسِيَّةً للبَعْثِ والتَّجْدِيدِ٢٦
وَزَهَتْ بِهِ العَزَمَاتُ بَعْدَ ذُبُولهَا
وَصَحَتْ به الآمالُ بَعْدَ رُقُودِ
للهِ صَوْتُكَ في الأَثيرِ فَإِنَّه
أَخَذَ الهُدَى والْحُسْنَ عَنْ دَاوُدِ!
لَبَّيْكَ يا مَلِكَ القلوب! فَمُرْ نَكُنْ
لَكَ طاعَةً، واللهُ خَيْرُ شَهِيدِ
•••
إنَّا بدَرْسِ الدِّينِ أبْصَرْنَا الهُدَى
نُورًا يُشِعُّ بِجَمْعِهِ المحشُودِ
وَبدَا الملِيكُ بهِ يُمَجِّدُ رَبَّهُ
للهِ مِن نُسْكٍ وَمِنْ تَمْجِيدِ!
أَبْصَرْتُه والشَّعْبُ حَوْلَ بِسَاطِهِ
كَالطَّيْرِ رَفَّ لِوَرْدِهِ الْمَوْرُودِ٢٧
مَا أَسْمَحَ الإسْلامَ! يَجْمَعُ رَحْبُهُ
في اللهِ بَيْنَ مُسَوَّدٍ ومَسُودِ
حَرَسَتْهُ أَفْئِدَةٌ تُفَدِّي عَرْشَهُ
وَالْحُبُّ أَقْوَى عُدَّةٍ وعَدِيدِ
إنَّ الْجُودَ بِه تَلُوذُ وَتَحْتَمِي
وَلَكَمْ عُرُوشٌ تَحْتَمِي بِجُنُودِ!
يُصْغِي ويُنْصِتُ للكِتَابِ وَآيِهِ
في سَمْتِ مَوْفُورِ الْجَلَالِ حَمِيد
يا قُدْوَةَ الجِيل الْجَدِيدِ وَذُخْرَهُ
عِشْ لِلْمُنَى فَرْدًا بِغَيْرِ ندَيدِ
•••
حَارَ الْقَرِيضُ وَكيفَ أَبْلُغُ غَايةً
هي فَوْقَ طَوْقِ يَراعَتِي وجُهُوِدي؟
أَعْدَدْتُ ألْوَانِي لأرْسُمَ صُورَةً
أَيْنَ السُّهَا من سَاعِدِي المكْدُودِ؟٢٨
حِلْمٌ كما تُغْضِي الأُسُودُ تَكَرُّمًا
وَعَزَائِمٌ فِيهَا نِجَارُ أُسُودِ٢٩
وَفَرَاسَةٌ سَبَقَتْ حَوَادِثَ دَهْرِهَا
حَتَّى كَأَنَّ الغَيْبَ كَالمَشْهُودِ٣٠
وإرَادَةٌ تَفْرِي الصِّعَابَ شَبَاتُهَا
وَتَهُدُّ عَزْمَ الصَّخْرةِ الصَّيْخُودِ٣١
وَذَكَاءُ قَلْبٍ لَوْ رَمَى حَلَكَ الدُّجَى
لَمَضَى يُهَرْوِلُ في المُسُوحِ السُّودِ٣٢
•••
مَوْلَايَ! إنَّ الشِّعْرَ يَشْهَدُ أَنَّهُ
بَلَغَ المَدَى في ظِلِّكَ الْمَمْدُودِ
أَلْفَى خِلَالًا لقَّنتهُ بَيَانَهُ
فَأَعَادَهَا كَالصَّادِحِ الْغِرِّيدِ٣٣
فَلكَمْ بَعَثْتُ مَعَ الأثيرِ وَحِيدَةً
في فَنِّهَا تَشْدُو بِمُلْكٍ وَحِيدِ
فَاهْنَأْ بِمِيلَادِ الأمِيرَةِ إنَّهَا
عُنْوَانُ مَجْدٍ طَارِفٍ وَتَلِيدِ٣٤
وانْعَمْ بِعِيدِ الْفِطْرِ واسْعَدْ بالمُنَى
في طالِعٍ ضَافِي النَّعِيمِ سَعِيدِ
هوامش
(١) هزجًا: مترنمًا. يناغي: يداعب.
(٢) السلسل: الماء العذب أو البارد، الضحضاح: الماء اليسير لا غرق
فيه. الناصع: الخالص من كل ما يشوبه.
(٣) الدل: دل المرأة ودلالها.
(٤) ماست: تبخترت في عجب.
(٥) رفل في ثيابه: أطالها وجرها متبخترًا.
(٦) النشوة: أول السكر. دم العنقود: كناية عن الخمر.
(٧) السراب: ما يرى في البيد ماء وليس بماء. مقفرات البيد: الصحاري
المجدبة.
(٨) الرحيق: صفوة الخمر. والمراد هنا خلاصة الأزهار الأرجة. الأملود:
اللين الناعم.
(٩) الوسمى: مطر الربيع الأول. الولي: مطر الربيع الثاني. البرود
الموشاة: الثياب المنقوشة.
(١٠) أحيلي: تصغير أحلى. الصيهود: الصحراء لا ماء فيها ولا
نبات.
(١١) الجلمود: الصخر الأصم.
(١٢) ثنيت: حولت. الصبابة: رقة الشوق وحرارته.
(١٣) عقيدي: حليفي ومعاهدي.
(١٤) الصنديد: السيد الشجاع.
(١٥) أحنو: أميل. صريره: صرير القلم. صوته عند الكتابة. المكدود:
المتعب. رنة عود: صوته.
(١٦) ينثني: ينعطف ويميل. قادمتيه: القادمتان: ريشتان في مقدم جناح
الطائر.
(١٧) الخود: جمع خوداء وهي الشابة الجميلة الناعمة.
(١٨) تشبيبي: التشبيب الغزل بالنساء.
(١٩) صغت: مالت.
(٢٠) أشم: مكان عال. وطيد: ثابت.
(٢١) المحراب: صدر المجلس، والمراد محراب المسجد.
(٢٢) عبق الطيب: انتشر شذاه.
(٢٣) الندى: العطاء والجود.
(٢٤) النور: الزهر. أغوار: جمع غور وهو المطمئن من الأرض. نجود: جمع
نجد ما ارتفع منها.
(٢٥) نضيد: من نضد المتاع وضع بعضه على بعض.
(٢٦) قدسية: طاهرة. البعث: الإيقاظ والتنبيه.
(٢٧) رف الطائر: بسط جناحيه. ورف للماء: سعى إليه.
(٢٨) السهى: كوكب خفي يمتحن الناس به أبصارهم.
(٢٩) النجار: الأصل.
(٣٠) فراسة: هي المعرفة ببواطن الأمور.
(٣١) تفري: تمزق. الشباة: الحد. الصخرة الصيخود: الشديدة.
(٣٢) حلك الدجى: سواد الظلمة. يهرول: يمشي مسرعًا. المسوح: جمع مسح
وهو ثوب من الشعر غليظ.
(٣٣) ألفى: وجد.
(٣٤) الطارف: الجديد. التليد: القديم. الأميرة: الأميرة فريال أولى
بنات فاروق.