عبد العزيز جاويش
يرثي الشاعر في هذه القصيدة أستاذه وصديقه الشيخ «عبد العزيز جاويش». وقد توفي في يناير سنة ١٩٢٩م.
دُموعُ عُيونٍ أم دِماءُ قُلوبِ
على راحلٍ نائي المَزَارِ قَريبِ؟١
نعاه لنا الناعِي فأفْزَعَ مِثْلَمَا
تُراعُ بِصَوْتٍ في الظَّلامِ رهيب
فقُلنا: أبِن — رُحْماكَ — طارتْ عُقُولُنا
وَكم من يقينٍ في الحياة مُريب٢
شكَكْنا، وكان الشكُّ أمْنًا وراحةً
فلم نستَمِعْ من فِيكَ غَيْرَ نَعِيب
حَنانَكَ، إنّا أُمّةٌ هَدَّ ركنَها
صِراعُ لَيالٍ، واصطلاحُ خُطوبِ٣
إذا كَشَفَتْ عنها القميصَ بدتْ بها
نُدُوبٌ لطعنِ الدهرِ فوق نُدُوبِ
وإنْ أرسلتْ في ذِمَّةِ الله عَبْرَةً
على ابن سُرًى حامي الذِّمارِ وَثُوبِ٤
دَهَتْها الليالي في سواه، ولا أرَى
شَعُوبًا لهذا الناس مِثْلَ شَعُوب٥
تَدَاوَى مِن الإعْوالِ بالبثِّ وَالبُكا
وتَشْفِي لَهِيبًا للجَوى بلهيب٦
وتمسَحُ دَمعًا كي تجودَ بِمثْلِهِ
وتَنْسَى أَريبًا بادَّكارِ أريب٧
فيا أيُّها الناعِي، إذا قُلْتَ فَاتَّئِدْ
فما مُخطئٌ في قولِه كمُصيب
حَنَانكَ، قُلْ ما شئتَ إلا فَجيعةً
بفقدِ كريمٍ، أوْ فِراقِ حَبيب
فقال: قَضَى، قُلْنا: قَضَى حاجةَ العُلا
فقال: مَضَى، قُلنا: بغير ضَرِيبِ٨
فَهزَّ اعتلاجُ الْحُزنِ أضلاعَ صَدْرِه
وأخْفَى نَشِيجًا تَحْتَ طيِّ نحِيب٩
وقال: قَضَى عبدُ العزيزِ ولم يكُنْ
نصيبُ امرئٍ في الرُّزْء فوْقَ نَصيبي
فوا حسرتا! مات الإمامُ ولم تكُنْ
نِهاية هذِي الشمسِ غيرَ مَغيب
وغاضَ مَعِينٌ كان رِيًّا ورحمةً
وكلُّ مَعينٍ صائرٌ لنُضُوبِ!١٠
فَمَنْ لِكتاب اللهِ يلمَحُ نُورَهُ
بعينِ بصيرٍ بالبَيانِ لبيب؟
ومَنْ يَدْفَعُ العادِي على دينِ أَحْمدٍ
بعزمٍ كَمَسنُونِ الْحِرابِ صَلِيب؟١١
وقد كُنْتَ يا عبدَ العزيزِ إذا دَجَت
وقد قيل: «أمّا بَعْدُ» خيرَ خَطيب١٢
•••
بنفسِيَ مَن عَانى الحياةَ مُشَرَّدًا
يَجوبُ من الآفاقِ كُلَّ مَجُوب١٣
غريبًا تقاضاه الليالي حُشاشةً
ولكنَّه للفضلِ غيرُ غريب١٤
يطوفُ بأقطارِ البلادِ كأنه
خيالٌ مُلِمٌّ، أو خيالُ أدِيبِ
ويطوي وراء البِشْرِ نفسًا جَرِيحةً
وأعشارَ قلبٍ بالهُمومِ خَضِيب١٥
أيشكو لئيمُ القومِ كَظًّا وبطْنةً
ويَشْكو فتى الفِتيانِ مسّ سُغُوبِ؟١٦
لأمرٍ غدا ما حَوْلَ مكةَ مُقْفِرًا
جَديبًا، وباقي الأرضِ غيرُ جَديب
•••
تُقَتِّلنَا الأيامُ وهْيَ حياتُنا
وتُعطي، وما أبْصرْتُ غيْرَ سَليب١٧
فما حِيلتي إنْ كان بالماء غُصَّتي
وداني إذا عَزَّ الدواءُ طبيبي؟١٨
كأنَّ حِبالَ الشمسِ كِفَّةُ حابِلٍ
تُحيطُ بنا من شمأَلٍ وجَنوب١٩
نَروحُ بها، والموتُ ظمآنُ ساغبٌ
يُلاحظُنا في جَيْئَةٍ وذُهوب٢٠
على الشَّفَقِ المُحْمَرِّ مِنْ فَتَكَاتِهِ
بَقَايَا دَمٍ للذاهبينَ صَبيب٢١
هل الدَّهْرُ إلَّا ليلةٌ طال سُهدُها
تَنَفَّسُ عن يومِ أَحَمَّ عَصِيب؟٢٢
وليس ترابُ الأرضِ غَيْرَ تَرائبٍ
وغيرَ عُقولٍ حُطِّمتْ وقُلوبِ!٢٣
سَلُوا وَجَناتِ الغِيدِ في ذِمَّةِ الثَّرَى
أَتَزْهَى بحسنٍ أمْ تُدِلُّ بطيب؟
وكانت شِبَاكًا للعُيونِ فأصبحتْ
ولستَ تَرى فيهنَّ غَيرَ شُحُوب
•••
فَيَا مَنْ رأى عبدَ العزيزِ تَنُوشُه
نُيُوبٌ لعادي الموتِ أَيُّ نُيُوب٢٤
طريحًا على أيدي الأُسَاةِ كأنَّه
حِمالةُ عَضْبٍ أو رِشَاءُ قَليبِ٢٥
فَيَا ويْحَ للصدرِ الرَّحيبِ الَّذي غدا
بمُزْدَحِمِ الآلامِ غيرَ رَحيب
تَدِبُّ فيه في مَوْطِنِ الحلمِ عِلّةٌ
لها كالصِّلال الرُّقشِ شَرُّ دَبِيبِ٢٦
ترَى القلبَ منها واجبًا أنْ تَمَسَّهُ
فَتتركَهُ قلبًا بغيرِ وَجِيب٢٧
أَصَابَتْ نِظَامًا للمعالي فَبَدَّدَتْ
ومقصِدَ آمالٍ ومجدَ شُعُوب
•••
لقد كنتَ تُعلي في الحياةِ قَصائدي
وتهتزُّ عُجْبًا إنْ سَمِعتَ نَسيبي
فهاك نِداءً، أنْ يَجِدْ مِنكَ سامعًا
وهاكَ رِثاءٌ إنْ يَفُزْ بمُجِيب
رِثاءٌ يكادُ المَيْتُ يَحْيَا بلفظِهِ
ويَحْبِسُ شمسَ الأُفْقِ دونَ غُروب
فطارح به الْخَنْسَاءَ إن جُزْتَ دارهَا
ونافِسُ به — إن شئتَ — شِعرَ حَبيب٢٨
تمنَّيتُ لو أرسلتُ شعري مع البُكا
بغيرِ قَوافٍ، أو بغيرِ ضُرُوب٢٩
وصَيَّرْتُ أنَّاتي تفاعيلَ بحرِهِ
وجِئْتُ بَوزْنٍ في القَريضِ عجِيب
فإنِّي رأيتُ الشِّعر تنفِرُ طيرُهُ
إذا دُهمتْ من فادحٍ بهبُوبِ
تَهَابُ القوافِي أن تَمَسَّ جَلَالَةً
لذي شَمَمٍ ضَافي الْجلالِ مَهِيب٣٠
عليكَ سلامُ الله ما ناح طائرٌ
على غُصنٍ غَضِّ الإهابِ رطيب٣١
هوامش
(١) نائي المزار: بعيد مكان الزيارة.
(٢) النعيب: صوت الغراب، وهو مما يتشاءم به ويتبرم بسماعه.
(٣) اصطلاح الخطوب: تتابعها.
(٤) الذمار: ما يلزمك حفظه والدفاع عنه.
(٥) شعوبا:مصدعاومفرقا.شعوب:الموت
(٦) البث: الحزن. الجوى: حرقته.
(٧) الأريب: ذو العقل والدهاء. الادكار: الذكر.
(٨) قضى (الأولى): مات. قضى (الثانية): أنجز وأتم. الضريب: النظير
والمثل.
(٩) اعتلاج الحزن: اضطرابه وثورانه. النشيج: البكاء يغص به الحلق.
النحيب: أشد البكاء.
(١٠) غاض المعين: ذهب ماؤه. الري: الارتواء. النضوب: الجفاف.
(١١) صليب: قوي لا يلين.
(١٢) دجت: أظلمت، ويريد بالإظلام أوقات الشدة.
(١٣) بنفسي: أفدي بنفسي. المجوب: المعمور من البلاد، الذي يجوبه
الناس، يرحلون إليه.
(١٤) تقاضاه: تتقاضاه. الحشاشة: الفؤاد.
(١٥) الأعشار: الأجزاء. خضيب: مخضوب.
(١٦) الكظ والبطنة: امتلاء البطن. السغوب: الجوع مع التعب. مس سغوب:
ما يشعر الإنسان به من ألم الجوع.
(١٧) السليب: المسلوب.
(١٨) الغصة: ما تشعر به عند اعتراض شيء في الحلق. عز: امتنع.
(١٩) الحابل: الصائد. كفته: حبالته التي يصيد بها.
(٢٠) الساغب: الجائع.
(٢١) صبيب: منصب.
(٢٢) السهد: الأرق وعدم النوم. تنفس: تتكشف وتسفر. الأحم: الشديد
السواد.
(٢٣) الترائب: عظام الصدر.
(٢٤) تنوشه: تتناوله تمزيقًا. نيوب: أي أنياب قوية حادة.
(٢٥) الأساة: الأطباء. واحده آس. العضب: السيف القاطع. القليب: البئر.
رشاؤه: حبله.
(٢٦) الصلال: الحيات. الرقش: المنقطة، ويريد بموطن الحلم:
الصدر.
(٢٧) واجبًا: خافقًا. الوجيب: خفقان القلب.
(٢٨) الخنساء: شاعرة عربية. حبيب: هو الشاعر العربي المشهور أبو
تمام.
(٢٩) الضروب: جمع ضرب، وهو عجز البيت.
(٣٠) الشمم: الإباء. ضافي الجلال: عميمه مبسوطه.
(٣١) ما ناح طائر: ما بقيت الدنيا. رطيب: طري.