رثاء عَاطِف
أنشدت في حفل تأبين عاطف بركات باشا وكيل وزارة المعارف سنة ١٩٢٤م.
العَيْنُ عَبْرَى، والنُّفُوسُ صَوادِي
ماتَ الْحِجَا، وقَضَى جلَالُ النَّادِي١
أرْجَاءَ ذَا الوادِي الخصِيبِ جنابُهُ
ماذَا أَصَابَكَ يَا رَجَاءَ الوَادِي؟٢
سَهْمٌ رَمَاك بهِ الحمامُ مُسَدَّدٌ
أوْدَى بأَيِّ رَويَّةٍ وسَدَادِ!
وقَضَى على الآمَال فِي أفْنَانِها
فَذَوَتْ ولم تُمْهَلُ لوَقْتِ حَصَادِ
وأصَابَ من قَبَس الزَّكانةِ شُعْلَةً
وَهَّاجَةً، فَغَدت فَتيتَ رَمَادِ٣
وطَوَى حُسَامًا مِنْك في جَفْن الثَّرَى
قَدْ كَانَ يُسْتَعْصَى عَلَى الأَغْمَادِ
صُحُفُ الحَياةِ، وأَنْت أَصْدَقُ قارئٍ
لسُطُورِها، تُطوى إلى ميعَادِ
والوَرْدُ يَزْهُو ناضِرًا فَوْقَ الرُّبَا
ويَعُودُ حِينًا وهو شَوْكُ قَتَادِ٤
وَالمَاءُ يَجْتَذِبُ النُّفُوسَ نَمِيرُه
وَلَقَدْ يَكُون الماءُ غُصَّةَ صَادِي٥
مَا هَذِهِ الدُّنْيَا؟ أمَا مِنْ نِعْمةٍ
فيها لغَيْرِ تشَتُّتٍ ونَفَادِ!
قَدْ حَيَّرَتْ شَيْخَ المَعَرَّةِ حِقْبَةً
فِي نَوْحِ بَاكٍ أوْ تَرَنُّم شَادِي٦
تعَبُ الحَياةِ يَجيءُ من لَذَّاتِها
ولذِيذُهَا يُجْنَى مِنَ الإجْهاد
يَطْوِي بِسَاطَ الْعُرْسِ فيها مأتمٌ
في إثره عِيدٌ من الأعيَادِ
قَدْ كَانَ فِي رُزْء الحسَيْن بكَرْبَلَا
عيدُ اليزِيد وعيدُ آل زِياد٧
•••
أيَمُوتُ عاطفُ، والكنَانةُ تَرْتَجِي
وَثَباتِه، واليوْمُ يَوْمُ جلَادِ؟
أيمُوتُ في المَيْدَانِ، لم يُغْمَدْ له
سَيْفٌ، ولم يُخْلَعْ نياط نِجادِ؟٨
أَيَمُوتُ، والنَّصْرُ المُبِينُ مُلَوِّحٌ
بِلوَائِه لطَلَائِع الأجنَادِ؟
ويَغِيضُ ماءٌ كانَ أيْسَرُ قَطْرةٍ
منهُ حَيَاةَ خَلَائِقٍ وبِلادِ؟
عُمْرٌ إذَا قَلَّتْ سِنُوه، فإنَّما
آثارُهُنَّ كثِيرَةُ التَّعْدَادِ
كَالعِطْرِ تَجْمَعُ قَطْرةٌ من مائهِ
زَهْرًا، يَنُوءُ بغُصْنِهِ المَيَّاد٩
كَمْ مِنْ فَتيٍّ في التُّرابِ، وخَلْفَهُ
ذِكْرٌ يُزَاحِمُ مَنكِبَ الآبَادِ!١٠
ومُعَمَّرٍ عَبَرَ الوُجودَ، فَمَا رَنَا
طَرْفٌ إليهِ ولا بَكَى لبعَادِ
عُمْرُ الرِّجالِ يُقَاسُ بالمَجْدِ الَّذي
شادُوه، لا بتقَادُمِ المِيلادِ
•••
عَزِّ (المعارِف) مُطْرِقًا في عَاطِفٍ
زَيْنِ الفِناء وسَيِّدِ الأنْدَادِ
للعِلْم والأخْلَاقِ كانَ مُعَاضِدًا
فطَوَى الْحَياةَ وفتَّ في الأعْضَادِ١١
ما زَال يَكْدَحُ، والْخُطُوبُ بِمَرْصَدٍ
والدَّاءُ يَطْغَى، والزَّمَانُ يُعَادِي
لَمْ تُثنِهِ الآلام عن غَاياتِه
أو تَلْوِه الأسْقَامُ دُونَ مُرَادِ
فاللَّيْلُ مَوْصُولٌ بيَوْمٍ حافلٍ
واليومُ مَعقُودٌ بليْل سُهَادِ
وكأنَّما نُصْحُ الطبيبِ بسَمْعِه
هَذَرُ الوُشَاةِ، وزُفْرَةُ الْحُسَّادِ
وَهَبَ الحياَة كريمةً لبِلادِه
ومَضَى إلى الأخْرى صَرِيعَ جِهاد
وإذَا بذَلتَ لمِصرَ كُلَّ عَزِيزةٍ
إلَّا الحيَاةَ، فأَنتَ غيرُ جَواد
•••
حَمَلُوا على الأعْوَادِ خيرَ وديعةٍ
(أعلمتَ مَنْ حَمَلوا على الأعْوَاد؟)١٢
في ركْبِه زُمَرُ السَّموَاتِ العُلَا
تَحْدُو مَطِيَّتَهُ لِخَيْرِ مَعَاد١٣
والصبرُ ناءٍ، والرُّءوسُ خواشِعٌ
والدَّمعُ جارٍ، والقُلوبُ صَوَادِي١٤
حَمَلوا على النَّعْشِ الكريمِ، سُلَالَةَ الـ
ـحَسَبِ الكَريمِ، وصَفوةَ الأَمْجاد
وتحمَّلوهُ ليَدْفِنوا تَحْتَ الثَّرَى
شَمَمَ الأُبَاةِ، وصَوْلَةَ الآسَاد١٥
حَفَّ الشبابُ به، وفي عَبَرَاتهم
كَمَدُ الجنودِ لمصْرَعِ القُوَّادِ
•••
يا رَامِيَ الأملِ الْبَعِيدِ بِهمَّةٍ
شمَّاءَ تُدْرك غايةَ الأبْعاد
وعَقيدةٍ لو صَوَّرَتْ بمُماثلٍ
كانت تكونُ رَصَانَةَ الأطْواد١٦
لم يَزْهُها ضافي المديحِ، ولم تكن
في الحق ترهبُ صولةَ النُقَّاد١٧
وعزيمةٍ لا الزجرُ نهنه هَمَّها
يومًا ولا فُلَّتْ، من الإيعاد١٨
كادت تدُور مع الكواكب دَوْرَها
بالنَّحس آونَةً وبالإِسْعاد
كانتْ أحزَّ من المُدَى، وأَحدَّ مِنْ
غَرْب الظُّبَي يُسلَلْنَ يومَ طِرَاد١٩
وَثِقتْ بخَالِقها القدِيرِ فشمَّرتْ
مَحمودةَ الإصْدَارِ والإيرَاد٢٠
«سِيشيلُ» منه رَأت هَصورًا يَزْدَرِي
ألمَ الإسَارِ، وقَسْوَةَ الأصْفَاد٢١
لَهْفِى عَلَيهِ، والدِّيارُ بَعِيدةٌ
وخَيالُ مِصْرَ مَرَاوِحٌ ومُغادِي
مُتَوَثِّبًا نحوَ المُحِيط كأنَّه
صَقْرُ الفلَاةِ بكِفَّة الصَّياد٢٢
ما دكَّه عَصْفُ الْخُطُوبِ ولا وَنَى
لزَعازع الإبْراقِ والإرْعاد
لا تَعْجَبوا، مَنْ كان سعدٌ خالَهُ
ألقَتْ له الأخلاقُ كلَّ قِيَاد
سَعْدُ الذي غَرَسَ المُهَيْمنُ حُبَّه
فِي كلِّ جارِحةٍ وكلِّ فُؤَاد
•••
مُحْيِي القَضَاء رَمَاه فِي رَيَعَانِهِ
سَهْمُ القضاء، فما له من فادي!٢٣
وثبتْ عَليه مِن المَنُونِ غواِئٌل
وعَدَت عليه من الزَّمان عَوَادِي
شيَّدتَ دارًا لِلقَضاءِ فأصْبَحَتْ
للدِّينِ والأخْلاقِ خيرَ عِماد
لو لم تجِئْ يومَ الحِسابِ بِغَيْرِها
لَسَمَوْتَ فوق مَنازِلِ العُبّادِ٢٤
وبَثثتَ رُوحَكَ في الشّيوخِ، فكلُّهم
داعٍ إلى نُور النُّبوَّةِ هادِي
وَبنَيْتَ بالأخْلاقِ منهمْ دولةً
بَلَغتْ بِحَوْلِك أبْعَدَ الآمادِ٢٥
الدينُ سَمْحٌ، إنْ سَلَكْتَ سَبِيلَه
لِلْخَيْرِ، لا للشَّرِّ والإفْسَادِ
فَلَكَمْ رَأَينا في المَعابد أشْعَبًا
للختْل يَلْبَسُ بُرْدَةَ الزُّهَاد٢٦
•••
فَزِعت لك الأقْلَامُ فوقَ طُروسِها
ومن المِدَادِ لَبِسْنَ ثوْبَ حِداد٢٧
وتكادُ تلْتَهبُ المَنَابرُ حَسْرةً
لمَّا رَحَلْتَ، على خَطيب إياد٢٨
والشِّعْرُ أضحتْ هاطلاتُ دُموعِهِ
بَحْرًا، فنَاح عليكَ في الإنشاد
مَنْ لي، وظِلُّ الموت داجٍ بَيْننا
بضِياء ذاك الكَوْكبِ الوقّاد!٢٩
مَنْ لي بِذاكَ الوجهِ، بَيْنَ غُضُونِهِ
أَسْطارُ أسْرارِ الْحَياةِ بوادِي!
يا طالبًا نُورَ اليَقينِ حَيَاتَهُ
جاءَ اليقينُ، فسرْ بأوْفَرِ زَاد
وامْلأْ جُفونَكَ بالكَرَى فِي غِبْطةٍ
قد كنتَ أَحوجَ ساهدٍ لرُقاد
واخلَعْ ثيابَ الداء عَزَّ دواؤه
والْبَسْ بِعَدْنٍ أَنْفسَ الأبْراد٣٠
واذْهبْ كما ذَهب الشباب مُشَيِّعًا
بِدم الجُفونِ وحُرْقة الأكْباد
سَحَتْ عليكَ مع الْجَنُوب رَوَائِحٌ
وَهَمَتْ عليك مع الشمالِ غوادِي٣١
هوامش
(١) عبرى: يجري دمعها حزنًا. صوادي: ظمأى من حرقة الحزن
ولهيبه.
(٢) الجناب: الناحية.
(٣) القبس: الشعلة تقتبس من معظم النار. الزكانة: الفراسة والبصر
بالأمور.
(٤) الربا: ما ارتفع من الأرض. القتاد: شجر صلب له شوك
كالإبر.
(٥) نميره: الصفي العذب منه. الغصة: ما يعترض في الحلق فيتأذى به
الإنسان. الصادي: العطشان.
(٦) شيخ المعرة: أبو العلاء المعري الشاعر المعروف بزهده. الحقبة:
المدة. ويشير بالشطر الثاني من هذا البيت إلى قصيدة أبي العلاء
التي مطلعها:
غير مجد في ملتي واعتقادي
نوح
باك ولا ترنم شاد
(٧) الرزء: المصيبة. كربلاء: حيث قتل الحسين، عليه السلام. اليزيد:
هو ابن معاوية. زياد: هو ابن أبي سفيان. ويريد بآله الشيعة الأموية
التي خرجت على يد علي بن أبي طالب.
(٨) النجاد: حمالة السيف. نياط الشيء: ما يعلق به ويشد. الواحد
نوط.
(٩) ينوء: يعيا ويكل. المياد: المتثني لينًا.
(١٠) الآباد: جمع أبد (بالتحريك) وهو الدهر.
(١١) معاضدًا: ناصرًا ومؤازرًا. فت في الأعضاد: أوهن وأضعف مشيرًا إلى
مرض السرطان الذي مات به الفقيد.
(١٢) الأعواد: النعش. والشطر الثاني مطلع قصيدة للشريف الرضي.
(١٣) الزمر: الجماعات. ويريد «بزمر السموات» الملائكة. تحدو: تسوق
وتدفع. ويريد «بالمطية» نعشه.
(١٤) صوادي: جافة من حرقة الحزن ولهيبه.
(١٥) تحملوه: حملوه. والشمم: العزة والامتناع. والأباة: جمع أبي وهو
الذي يأبى الضيم والذلة. وصولة الآساد: بطشها وقوتها.
(١٦) الرصانة: الرسوخ. الأطواد: جمع طود، وهو الجبل العظيم.
(١٧) لم يزهها: لم يبطرها. الصولة: السطوة.
(١٨) نهنه: خفف ولطف. فلت: تكسرت. الإيعاد: التهديد.
(١٩) أحز من المدى: أحد وأقوى قطعًا. غرب الظبي: حد السيف. يسللن:
ينتزعن من أغمادهن. يوم الطراد: الحرب.
(٢٠) شمرت: جرت متجهة إلى ما تريد. الإصدار والإيراد: الفعل
والترك.
(٢١) سيشل: إحدى الجزر التابعة لإنجلترا حينئذ وتقع إلى الشرق من
إفريقية. وإليها نفي الفقيد مع المغفور له سعد زغلول باشا وغيرهما.
الهصور: الأسد. يزدري: لا يعبأ. الإسار: الأسر. الأصفاد:
القيود.
(٢٢) كفة الصياد: حبالته.
(٢٣) محيي القضاء يشيد بأياديه على مدرسة القضاء الشرعي التي أنجبت
قضاة أخذوا بيد القضاء ونهضوا به.
(٢٤) سموت: علوت وارتفعت.
(٢٥) الآماد: الغايات، الواحد: أمد.
(٢٦) أشعب: طماع يضرب به المثل في شدة الطمع والنهم. الختل: الخداع
والأخذ على غرة.
(٢٧) الطروس: الصحف.
(٢٨) خطيب إياد: هو قس بن ساعدة الإيادي، خطيب العرب في
جاهليتها.
(٢٩) داج: مظلم يحجب ما بيني وبينك.
(٣٠) عدن: الجنة التي وعد الله بها عباده المتقين. أنفس الأبراد: لباس
التقوى.
(٣١) سحت: أمطرت في غزارة. الجنوب: الريح تهب من الجنوب. الروائح:
السحب الرائحة. همت: أمطرت. الغوادي: السحب الغادية.