عيدُ دارِ الإذاعة
أذيعت هذه القصيدة في ٣١ من مايو سنة ١٩٣٨م، حينما احتفلت دار الإذاعة بانتهاء العام الرابع من إنشائها.
فَتَاةَ الْقَرِيضِ، اهْبِطِي مِنْ عَلِ
مَدَدْتُ يَدَيَّ، فَلَا تَبْخَلِي
كَبَا بِفَتَى الشعْرِ طُولُ الصعُودِ
فإنْ كُنْتِ رَاحِمَةً فْانْزِلي١
يَحِنُّ إلَيْكِ حَنِينَ الْمَشِيبِ
إلَى ضحكَاتِ الصِّبَا الْمُخْضِلِ٢
سَلَا بِكِ لَيْلَى وَأَتْرَابَهَا
وَنَامَ عَنِ الْعَذْلِ وَالْعُذَّلِ
شَغَلْتِ فَتاكِ بِسِحْرِ الْبَيَانِ
ولَوْلَا عُيُونُكِ لَمْ يُشْغَلِ٣
يَرَاكِ مِنَ اللَّيْلِ فِي بَدْرِهِ
وَفِي شَعْرِهِ الْفَاحِمِ الْمُسْبَلِ٤
وَفِي كُلِّ آهٍ رَمَاهَا الْهَوَى
عَلَى شَطِّ مَدْمَعِهِ الْمُرْسَلِ
وَيَلْقَاكِ فِي كُلِّ وَجْهٍ صَبِيحٍ
بِغَيْر الْملَاحَةِ لم يُصْقَلِ
وَمِنْ فِيكِ يَسْمَعُ نَجْوَى الْغُصُونِ
وَيُصْغِي إلَى هَمْسَةِ الْجَدْوَلِ
تَعِيشِينَ في زَاخِرٍ مِنْ ضِيَاءٍ
تُصَفِّقُ بِالْأَمَلِ الْمُقْبِلِ
تَحُومُ الْمَلَائِكُ مِنْ فَوْقِهِ
كما حَامَ طَيْرٌ عَلَى مَنْهَلٍ
رَوِينَا بِهِ فَنَسِينَا الْحَيَاةَ
وَمَا دِيفَ فِيها مِنَ الْحَنْظَلِ٥
وَذُقْنَا سُلَافًا أَبَتْ أَنْ تَرِفَّ
بِكَفِّ النُّواسِيِّ والْأَخْطَلِ٦
إذَا قُتِلَتْ أَحْيَتِ الشارِبينَ
فَكَيْفَ إذَا هِيَ لَمْ تُقْتَلِ٧
كَأَنَّ الْحَبَابَ عَلَى وَجْهِهَا
وُعُودٌ حَصَلْنَ وَلَمْ تْحُصِل٨
عِدِينِي عِدِينِي فَتَاةَ الْقَرِيضِ
وَإيَّاكِ إيَّاكِ أنْ تَمْطُلِي
تَعَالَيْ نُقَبِّلُ وَجْهَ الربِيعِ
بَشِير الْمُنَى وَمُنَى الْمُجْتَلِي٩
وَنَجْمَعُ مِنْ زَهْرِهِ ما نَشَاءُ
وَنَرْفُلُ فِي ثَوْبِهِ الْمُخْمَلِ
تَعالَيْ نَطِيرُ بِرِيشِ الأثِيرِ
ونَعْلُو بِهِ حَيْثُمَا يَعْتَلِي
نَمُرُّ كَمَا مَرَّ طَيْفُ الْخَيَالِ
ألَمَّ لمامًا وَلَمْ يَحْلُلِ
فَبَيْنَا نُحَدِّثُ أهْلَ الْحِجازِ
إذَا صَوْتُكِ الْعَذْبُ فِي الْمُوْصِلِ١٠
نُحَيِّي بَنِي الْعَرَبِ الأَوْفِيَاءَ
وَنُسْمِعُهُمْ غَرَدَ الْبُلْبُلِ
أُولَئِكَ قَوْمِي بُناةُ الْفَخارِ
وَزَيْنُ الْمَحَافِل وَالْجَحْفَلِ١١
وَلَوْلَا الْإِذَاعَةُ عاشَ الْكِرَامُ
حُماةُ العْرُوُبةِ فِي مَعْزلِ
•••
أَدَارَ الإذَاعَةِ مِنْ مُخْلِصٍ
عَنِ الْوُدِّ وَالْعَهْدِ لَمْ يَنْكُلِ
هَناءً بأَعْوِامِكِ الْمُشْرِقَاتِ
وَأَيَّامِ نَهْضَتِكِ الْحُفَّلِ
وُلِدتِ وَلِلْعِلْمِ أسْرَارُهُ
وَقَدْ كُنْتِ مِنْ سِرِّهِ الْمُعْضَلِ
بَذَلْتِ الثَّقَافَةَ لِلظامِئِينَ
وَلَوْلَا يَمينُكِ لم تُبْذَلِ
وَنَبَّهْتِ وَسْنَاَن جَفْنِ الصبَاحِ
بِآي مِنَ الْكَلِمِ الْمُنْزَلِ١٢
وَغَنَّيْتِ حَتَّى تَعَزَّى الْحَزينُ
وَقَرَّ الشَّجِيُّ وَهَامَ الْخَلِي
ترانِيمُ ما سَمِعَتْهَا الْفُنُونُ
بِأَوْتارِ إسْحاقَ أوْ زُلْزُلِ١٣
وَكَمْ قَدْ هَزَلْتِ لتَشْفِي النُّفُوسَ
فَكَانَ مِنَ الْجِدِّ أَنْ تَهْزِلي
•••
مَضَتْ مِصْر تَصْعَدُ نَحْوَ السماء
وَتَسْمُو عَلَى مَسْبَحِ الْأَجْدَلِ١٤
وَأَضْحَتْ مِنَ الْعِلْمِ في رَوْضَةٍ
وَمِنْ عِزَّةِ الْمُلْكِ فِي مَعْقِلِ
تتِيهُ بِتاريخِ أمْجادِها
وتُزْهَى بِفَارُوقِهَا الْأَوَّلِ
هوامش
(١) كبا: انكب على وجهه وسقط.
(٢) المخضل: الندى الناعم. أخضل: ندي.
(٣) المراد بالعيون هنا: خيار الشعر وما كان منه معجبًا ساحرًا، ففي
هذه الكلمة تورية.
(٤) الفاحم: الأسود. أسبل الأزرار والستر ونحوهما: أرخاه.
(٥) الحنظل: نبت مر.
(٦) السلاف: الخمر. ترف: تبرق وتتلألأ. النواسي: هو أبو نواس الحسن
بن هانئ شاعر فارسي الأصل، ولد بقرية من قرى خورستان شرقي البصرة
سنة ١٤٥ﻫ، ومات ببغداد سنة ١٩٩ﻫ ومدح الرشيد وابنه محمد الأمين من
خلفاء الدولة العباسية. وهو أشهر الشعراء المحدثين بعد بشار،
وأكثرهم تفننًا، وقد امتاز بقصائده الخمريات ومقطعاته المجونيات.
الأخطل: هو أبو مالك غياث بن غوث التغلبي من الشعراء المتقدمين في
الدولة الأموية، وقد اشتهر بالتعمق في وصف الخمر وانفرد بذلك دون
شعراء عصره. مات سنة ٩٥ﻫ.
(٧) قتلت: مزجت بالماء.
(٨) الحباب: بفتح الحاء: النفاخات التي تعلو الماء ونحوه.
(٩) المجتلي: اسم فاعل من اجتليت الشيء بمعنى نظرت إليه.
(١٠) الموصل: من بلاد العراق في شماليها على نهر دجلة.
(١١) الجحفل: الجيش الكثير.
(١٢) الوسنان: صفة من الوسن وهو النعاس.
(١٣) إسحاق بن إبراهيم الموصلي كان مغنيًا ذائع الصيت في عهد هارون
الرشيد وابنه عبد الله المأمون، وهو فارسي الأصل، وقد ورث الولوع
بالغناء عن أبيه وأمه إذ كانا مغنيين مشهورين، وتعلم الضرب بالعود
من «زلزل»، وكان إلى جانب شهرته بالغناء فقيهًا عالمًا صادقًا
عفيفًا. زلزل: مغن بغدادي مشهور، كان يضرب المثل بضربه العود (وهو
أول من أحدث العيدان)، واسمه منصور وأصله من سواد أهل الكوفة، وقد
تعلم الغناء من إبراهيم الموصلي.
(١٤) الأجدل: الصقر وهو أقوى جوارح الطير وأرفعها طيرانًا.