الوبَاء
انتشر وباء الهيضة المعوية (الكوليرا) برشيد سنة ١٨٩٥م وحصد الأرواح، فراع الشاعر الصغير ما رأى، وأثار عاطفته الشعرية، فقال هذه القصيدة:
أَيُّ هَذَا (المِكْرُوبُ) مَهْلًا قَليلًا
قَدْ تَجَاوَزْتَ في سُراكَ السبِيلَا!
لَسْتَ كَالْوَاوِ، أنتَ كَالْمِنْجَلِ الْحَصَّا
دِ، إنْ أحْسَنُوا لَكَ التمْثِيلَا١
ما غَلَبْتَ النفُوسَ باِلْعَزْمِ لَكِنْ
هَكَذَا يغْلِبُ الْكَثِيرُ الْقَلِيلَا
أنْتَ في الْهِنْدِ في مَكَانٍ خَصِيبٍ
فَلِمَاذَا رَضِيتَ هذا الْمُحُولَا؟٢
أَنْتَ كَالشيْبِ إن دَهِمْتَ ابْنَ أُنْثَى
لم تُزَايِلْ جَنْبَيْهِ حَتَّى يَزُولَا٣
حارَ «بنشنج» فِيكَ يَا ابْنَ شَعُوبٍ
ونَقَضْتَ الْمُجَرَّبَ الْمَعْقُولَا٤
عَقَدَ الأمْرَ فابْتَكَرْتَ لَهُ الْحَلـ
ـلَ، وما كانَ عَقْدُهُ مَحْلُولَا
قَامَ يَغْزُوكَ بَيْنَ جَيْشِ الْقَوَا
رِيرِ فَوَلَّى بِجَيْشِهِ مَخْذُولا
وَتَرَكْتَ الْحُمُوضَ تَجْرَعُها الْأَرْ
ضُ، وجَرَّعْتَنَا الْعَذَابَ الْوَبِيلَا٥
«وبموشَى» أرَادَ حَصْرَكَ بِالْجُنـ
ـدِ، وَهَلْ تَحْصُرُ الْجُنُودُ السيُولَا؟٦
يَا ثَقِيلَ الظِّلال آذَيْتَ بِالْمَا
لِ وَبالنَّفْسِ فَالرحِيلَ الرَحيلَا
مَنْ يبِتْ عِنْدَهُ الْهِزَبْرُ نَزِيلًا
كانَ مِنْ قَبْلِ زادِهِ مَأْكُولَا!٧
رُبَّ طفلٍ تركتَ مِنْ غَيْرِ ثَدْيٍ
يَضْرِبُ الأَرْضَ ضَجَّةً وعَوِيلَا!
وَفَتاةٍ طَرَقْتَها لَيْلة العُرْ
سِ وَقَبْلَ الْحَلِيلِ كُنْتَ الْحَلِيلَا٨
كَحَّلُوا جَفْنَها فَكَحَّلْتَ فِيها
كُلَّ جَفْنٍ أَسًى وَسُهْدًا طَوِيلَا
خضَّبَتْها يَدُ الْمَوَاشِطِ صُبْحًا
فَمَحاهُ الْمُطَهِّرُونَ أَصِيلَا٩
ما رَحمتَ الْعُيُونَ تِلْكَ اللَّوَاتِي
تَرَكَتْ كلَّ عاشِقٍ مَذْهُولا
لَوْ رَآها جِبْرِيلُ — أسْتَغْفِرُ اللهَ
— لأَلْهَتْ عَنْ وَحْيِهِ جِبْرِيلَا١٠
يَا قَتِيلَ (الْفِينيكِ) يَكْفِيكَ قَتْلا
كَ فَأَغْمِدْ حُسامَكَ الْمَسْلُولا!١١
إنَّ في مِصْرَ غَيْرَ مَوْتِكَ مَوْتًا
تَرَكَ الْأَرْوَعَ الْأَعَزَّ ذَلِيلَا١٢
فَارْتَحِل بَارِدَ الْفُؤَادِ قَريرًا
مرْوِيًا مِنْ دَمِ الْعِبَادِ الْغَلِيلَا١٣
هوامش
(١) يشير إلى شبه المكروب: بحرف «الواو».
(٢) خصيب: صفة من الخصب وهو النماء والبركة، والخصب أيضًا ضد الجدب.
المحول: الجدب.
(٣) دهمت: غشيت وفاجأت. تزايل: تفارق. يزول: يذهب ويهلك.
(٤) حار: تحير في أمرك. بنشنج: اسم لمدير الصحة بمصر في ذلك الزمن،
شعوب: اسم للمنية وهو الموت، وكنى هذا المكروب بابن شعوب لشدة فتكه
بالناس، نقضت: هدمت وأبطلت.
(٥) الحموض: جمع حمض، والمراد به هنا العقاقير التي كانت قد أعدت
للقضاء على هذه الجراثيم. تجرعها: تبتلعها، وذلك أنهم إذا أرادوا
تطهير بيت مثلًا صبوا العقاقير على أرضه وجدرانه. جرعتنا: سقيتنا.
الوبيل: الوخيم الثقيل.
(٦) «موشى»: بلدة من أعمال أسيوط ظهر فيها هذا الوباء أول ما
ظهر.
(٧) الهزبر: الأسد القوي. النزيل: الضيف. الزاد: طعام يتخذ
للسفر.
(٨) طرقتها: نزلت بدارها، الحليل: الزوج.
(٩) خضبت اليد خضبًا من باب ضرب بالخضاب وهو الحناء ونحوه. والمواشط
جمع ماشطة وهي التي تحسن تطرية العروس وتجميلها ومشط شعرها أي
تسريحه.
(١٠) جبريل: ملك الوحي. ألهاه: شغله.
(١١) «الفينيك» كلمة أعجمية تطلق على بعض السوائل المطهرة القاتلة
لجراثيم الأرض، وأغمدت السيف إغمادًا جعلته في غمده. الحسام: السيف
القاطع. المسلول: المنتزع من غمده.
(١٢) الأروع: من يعجبك بشجاعته. الأعز: اسم تفضيل من العز وهو ضد
الذل. وفي هذا البيت إشارة إلى المستعمر الإنجليزي الذي كان يحتل
مصر في ذلك الوقت.
(١٣) بارد الفؤاد: ريان القلب. قرير: مسرو. الغليل: حرارة
العطش.