دُرَّة التاج
أنشد الشاعر هذه القصيدة في ميلاد الأميرة السابقة فادية ابنة الملك فاروق آخر ملوك مصر في ديسمبر سنة ١٩٤٣م.
هزَّتِ البُشْرَى جَناحَ الخافقينْ
ومضتْ تخطِرُ بين المشرقينْ١
وتهادَى النيلُ نشوانَ الهوى
ينثرُ الأزهارَ فوْق الشاطئينْ
كَمْ وكم للهِ في الناسِ يَدٌ
يعجِزُ الشكرُ عليها باليدينْ!
دُرَّةٌ من سُؤْدَدٍ لامعةٌ
ضمّها العرشُ لأغلى دُرَّتينْ٢
دُرَّةٌ للمُلْكِ ما ماثَلها
كَرَمُ التِّبْرِ ولا صَفْوُ اللّجينْ٣
وشُعاعٌ زاد في لَألائِه
أنّه من لَمحاتِ النيِّرينْ٤
وشذًى من زهرةٍ ناضرةٍ
جَمَّلتْ في مصرَ أزهَى زهرتين٥
شرفُ الدوْحَة لاقى شرفًا
فنما الفرعُ شريفَ المنبِتَيْنْ
قَرَّتِ الأعْيُنُ لمَّا أنجبتْ
مصرُ للدنيا بها قُرَّةَ عَيْنْ
ونجا فاروقُها فاستبشرت
وصفا الدهر فكانت بُشْرَيَيْنْ٦
فاجتلت مصرُ مُناها مَرَّةً
ثم عادت فاجتلتها مرَّتينْ
كم وَقَفْنا نرتجي البُشْرَى كما
يُرْتَجَى بدرُ الدُّجَى في ليل غَينْ٧
واتجهنا نحو عابدين التي
أصبحتْ ثالثةً للقِبلتينْ٨
صورةٌ للحُبِّ ما أصدَقَها
ومن التصوير تزييفٌ ومَيْنْ٩
ومشى أجدادُها في مَوْكِبٍ
زاحَمَ الدهرُ به بالمنكِبَينْ١٠
مَوْكِبٌ قد خفَقَت أعلامُهُ
وعَلَتْ فوقَ مَناطِ الفَرْقَديْنْ١١
لم تَرَ العينُ له مِثْلًا ولا
خَطَرَتْ أوصافُه في أذنينْ
يخْطِرُ التاريخُ فيه مِثْلَما
يخطِرُ الفارسُ بين الجَحْفَلَيْنْ١٢
فيه مُحْيي مصرَ في أبنائه
زينةِ الدنيا وفخرِ المَلَويْن١٣
مَنْ كإسماعيلَ في آلائِهِ
أو كإبراهيم حامي الْحَرَميْنْ
جَذوةُ الحربِ إذا ما اشتعلْت
وبدا الشرُّ وأبدَى الناجِذين١٤
جَمَعَ الضادَ إلى رايته
مُذْ رآها أَثَرًا من بعِد عَيْنْ١٥
بدَّدَت دُهْمُ الليالي شملَها
والليالي كلُّها من أبَوَيْنْ!١٦
فحباها وَحْدَةً ما عَرَفتْ
في الهَوى حدًّا لأقصى بلدينْ
وصلتْ رضوَى بلُبْنانَ كما
مزجت بالنيل ماءَ الرافِديْن١٧
عَجَبًا من آيةٍ كانتْ له
أصبحتْ بابنِ فؤادٍ آيتيْنْ!
ليس للعُرْبِ سِواه عاهلٌ
يَبْهَرُ الدنيا بعدلِ العُمَريْنْ١٨
زيّنتْه نشأةٌ طاهرةٌ
وهو للطُّهْرِ وللنشأةِ زَيْنْ
قانِتٌ لله في محرابِهِ
لم يَشُبْ آمالَه في الله رَيْنْ١٩
مَلِكٌ يجتابُ ثوبيْ مَلكٍ
أينَ مَنْ يُشبهُه في الناس أيْن؟٢٠
سرَقَ النيلُ الندَى من كفِّه
فأسَالَ التِّبْرَ فوق الواديينْ
حُبُّه دَيْنٌ وَدينٌ للورَى
يَا لهُ في الحبِّ من دِينٍ ودَيْنْ٢١
وبنى الملكَ أبوهُ جاهدًا
فَسما فوق بناءِ الهَرَمَينْ
عَلَوِيُّ العزم إنْ رام العُلا
لم يضِقْ ذَرْعًا ولم يمسَسْه أيْنْ٢٢
رَفَعَ الشِّعرَ إلى مَنْزِلةٍ
لم يَنَلْها في زمان ابن الْحُسَينْ٢٣
دَوْلةٌ قامتْ تُناغِي دوْلةً
فنعِمْنا في ظِلال الدولتينْ
ربما في الشعر قامت صفحة
بالذي يعيا به ذو الصفحتين٢٤
إنَّما الشعرُ على كثرتهِ
لا ترى فيه سوى إحدى اثنتينْ
نفحةٌ قُدْسِيَّةٌ أو هَذَرٌ
ليس في الشعر كلامٌ بَيْنَ بَينْ
•••
سلِمَتْ للتاجِ أصفى دُرّةٍ
وأقرَّ اللهُ عيْنَ الوالديْنْ٢٥
جَمَعَ اللهُ لها الْخيرَ كما
جمَع الدنيا لنا في مَلِكَينْ
هوامش
(١) الخافقين: أفقا المشرق والمغرب. المشرقين: مشرقا الشمس في الصيف
والشتاء.
(٢) سؤدد: مجد وشرف. درتين: يقصد ابنة فاروق الأولى فريال وابنته
الثانية فوزية.
(٣) التبر: الذهب. اللجين: الفضة.
(٤) لألائه: لمعانه. النيرين: الشمس والقمر.
(٥) شذى: رائحة ذكية.
(٦) ونجا فاروقها: من حادثة السيارة المشهورة ببلدة القصاصين بمحافظة
الشرقية.
(٧) غين: الغيم.
(٨) القبلتين: المسجد الحرام بمكة والمسجد الأقصى بالقدس.
(٩) مين: كذب.
(١٠) المنكبين: مثنى منكب وهو العضد والكتف.
(١١) مناط: بعد. الفرقدين: نجمان قريبان من القطب.
(١٢) يخطر: يمشي مهتزًا مزهوًّا. الجحفلين: الجيشين.
(١٣) محيي مصر: المقصود محمد علي باشا رأس الأسرة العلوية التي حكمت
مصر حتى قيام ثورة ١٩٥٢م. الملوين: الليل والنهار.
(١٤) جذوة: جمرة النار المشتعلة. أبدى: أظهر. الناجذين: الأضراس
الخلفية. والمقصود هو أظهر استعداده للقتال.
(١٥) إشارة إلى سعي إبراهيم باشا في توحيد الدول العربية.
(١٦) دهم: ظلمة.
(١٧) رضوى: هو جبل رضوى الشهير بالحجاز. الرافدين: دجلة والفرات نهران
بالعراق.
(١٨) العمرين: هما عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز — رضي الله عنهما
— ويضرب بهما المثل في العدل.
(١٩) قانت: طائع لله. رين: الرين هنا تغلب الهوى والميول.
(٢٠) يجتاب: يلبس.
(٢١) الورى: الخلق. دين: حق له.
(٢٢) علوي: نسبة إلى جده محمد علي باشا. رام: أراد. لم يضق ذرعًا: لم
يتململ أو يشكو. أين: تعب.
(٢٣) ابن الحسين: هو أحمد بن الحسين أبو الطيب المتنبي الشاعر العربي
المشهور.
(٢٤) ذو الصفحتين: السيف وله وجهان أو صفحتان.
(٢٥) أقر: أعطاه حتى هدأت نفسه.