دُعابَة
عام ١٩٣٨م
ضَمَّتي مجلسُ أنسٍ زانه
صفوةٌ من نُجباءِ الأصدقاءْ١
منطقُ الهزل به جِدٌّ، وكمْ
نَطق الْجِدُّ به القول الهُراء!٢
فتطارحْنا حديثًا عَجَبًا
فيه للروحِ وللعقلِ غِذاء
وتَجاذبْنا فنونًا جَمَعتْ
طُرَفًا مِمَّا رواه الأدباء
ثم رُمْنا أن نحاجِي ساعَةً
لنُريحَ النفسَ من كَدِّ العَناء٣
قلت: من يبدأ قالوا: فابتدئ
أنت، فالكلُّ لما تُلْقِي ظِماء٤
قلت للنحويِّ: قل، قال: وهل
تركت «حتّى» لنفسي من ذَماءْ؟٥
قلت: فليأت البديعيُّ بما
شاءت الفِطْنةُ من لُغْزٍ وشاء٦
قال: أتقنتُ بديعي كُلَّه
غيرَ نوعٍ هو «حسنُ الابتداء»
قلت للصرفيّ: فابدأ، قال: قد
عاقني الإعلالُ في «ريحٍ» و«شاء»٧
ثم قالوا: قل ولا تُكْثِر فمن
أكثر القول أملَّ الْجُلَساء
•••
قُلت: من يُعرَفُ عِلمًا وحِجًا
وذَكاءً وسماحًا في رِداء
يملأ الدنيا حياةً إن بدا
كوكبًا يسطع فيَّاضَ الضياء٨
فأجابوا: الشمسَ؟ قلتُ: انتبهوا
ليس للشمس نوالٌ وذَكاء٩
ثم قالوا: زد، فناديت وما
مَوْرِدٌ قد راح في الناس وجَاءْ؟١٠
موردٌ يمشي إلى قُصَّادِه
فيه رِيٌّ وحيَاةٌ وشِفاء١١
فنأوا عنِّي وقالوا: عَجَبٌ
كيف يمشيِ مثلَما تزعُمُ ماء؟١٢
•••
قلتُ: هل أبصرتُمُ جِسمًا يُرَى
للإخاء المحضِ أو صِدْقِ الوفاء؟١٣
لِلعلا للفضلِ للدينِ وللأ
دبِ الجمّ جميعًا والإباء؟١٤
فأجابوا: قد عَجَزنا، قل لنا
ذاك في الأرض يُرَى أم في السماء؟
قلت: في الأرضِ، وللأرضِ بهِ
ويحكم، أيُّ ازدهارٍ وازدهاء!
هو في الطبِّ «أبقْراطُ» وفي
حَلْبَة الشعرِ إمامُ الشعراء١٥
وإذا أعطى أبيْتُم أنَفًا
أن تعُدُّوا «حاتِمًا» في الكرمَاء١٦
فأجابوا: اكشف لنا، حَيَّرتنا
عن أحاجيك إن شئتَ الغِطاء١٧
قلت: كلّا فانظروا وانتبهوا
ليس في الأمر التباسٌ أو خَفَاء
•••
هل رأيتم دَوْحَةً مُثمرةً
كلَّ آن في صباحِ أو مَساء؟
هي في الصيف ظِلالٌ ونَدى
وهي دفءٌ وحَنان في الشتاء
يجدُ البائسُ في ساحتها
مَوئِلًا حُلْوَ الْجَنَى رَحْبَ الفِناء١٨
سألوني: محسنٌ؟ قلت: نعم
ملجأُ القُصّادِ كهفُ الفقراء
ثم قالوا: شاعرٌ؟ قلت: أجل
شِعْرُه الدرُّ بهاءً وصَفاء
ثم قالوا: زاهدٌ؟ قلت: نعم
عنده الدنيا وما فيها هَبَاءْ١٩
فأشاروا: قِفْ عرفناه، وهل
يُجْهَلُ البدرُ؟ فما هذا الغباء؟
عَجَبًا حِرنا ولم نفطُنْ له
واسمُهُ كالصبح نورًا وجَلاء!
لا نُسمِّيه فيكفي وصفُه
فيه عن كُلِّ تعريفٍ غَناء٢٠
قُم وسجِّل فضلَه واهتِفْ به
وابتكِرْ ما شئتَ فيه من ثناء
هوامش
(١) نجباء: كرماء شرفاء عظام.
(٢) القول الهراء: القول الهزل.
(٣) نحاجي: نتبارى في الأحاجي وهي الألغاز.
(٤) ظماء: متعطشون.
(٥) حتى: اضطربت أقوال النحاة في معاني حتى وفي إعرابها حتى لقد أثر
عن «الفراء» أنه قال: أموت وفي نفسي شيء من حتى. من ذماء: من بقية
روح.
(٦) البديعي: وهو العالم في علم البديع والبلاغة. الفطنة: الذكاء.
شاء: أراد.
(٧) الصرفي: عالم الصرف وهو من علوم اللغة العربية. الإعلال: باب في
علم الصرف وهو من أهم أبوابه. في ريح وشاء: في ريح إعلال بقلب
الواو ياء. أما شاء وهو جمع شاة فأصل الهمزة فيه هاء.
(٨) فياض: كثير.
(٩) نوال: عطاء. ذكاء: حدة القلب وقيل: الاشتعال.
(١٠) مورد: منهل.
(١١) ري: ارتواء، ماء.
(١٢) فنأوا: بعدوا.
(١٣) المحض: الخالص.
(١٤) الجم: الكثير.
(١٥) أبقراط: فيلسوف وطبيب يوناني قديم وله قسم يعرف بقسم أبو قراط
يقسمه الأطباء عند بدء اشتغالهم بمهنة الطب.
(١٦) أبيتم: رفضتم. أنفًا: عظمة وكبرياء. حاتمًا: هو حاتم الطائي الذي
ضرب به المثل في الجود والكرم.
(١٧) أحاجيك: ألغازك.
(١٨) موئلًا: ملاذًا. حلو الجنى: حلو الثمر. رحب الفناء: متسع
الجوانب.
(١٩) هباء: تراب دقيق لا يرى.
(٢٠) غناء: استغناء.