يصدر هذا الجزء من صحيفة دار العلوم، وقد حقق الله لمصر ما كانت ترجوه، وتجاهد في
سبيله جهاد الكماة في حومة الوغى — ألا وهو الاستقلال الذي كانت تصبو إليه النفوس
وتتجه الآمال — وانتهى ذلك الكفاح، الذي طال أمده بين دولة قوية تملأ جنودها البر
وسفنها البحر وطيرانها الفضاء، وبين مصر الفتية الناهضة، التي لم يكن لأبنائها من
عدة، سوى ما يعمر قلوبهم من إيمان ثابت وعقيدة راسخة بأن من حقهم الطبيعي أن يعيشوا
أحرارًا، كما خلقهم الله أحرارًا، أو يموتوا كرامًا بين طعن القنا وخفق
البنود.
ففي سبيل مصر تلك الدماء الزكية التي خضبت الأرض، وفي ذمة الله تلك الأرواح
الطاهرة، التي قدمها شباب الوادي فداء للوطن العزيز.
لقد استقلت مصر فشملها الفرح وعمها السرور، ولم ينس أبناؤها الأمجاد — وهم في
نشوة النصر — ما للزعماء عليهم من حق، فقاموا يتناقشون في صنوف التكريم، ويتخذون
مظاهر شتى لتقديرهم، والاعتراف لهم بكل ما قدموا من خير لبلادهم.
وكان من أروع حفلات التكريم، تلك الحفلة التي أقامها الموظفون لحضرة صاحب المقام
الرفيع الرئيس الجليل مصطفى النحاس باشا وصحبه المخلصين، الذين أبلوا في سبيل
الاستقلال بلاءً حسنًا، فقد جمعت الحفلة جمهرة من خيرة المثقفين في مصر، وكان
لأبناء دار العلوم حظ في اشتراك جمهورهم فيها، وكان لشاعرهم الفذ، الأستاذ علي
الجارم بك، المفتش الأول للغة العربية في وزارة المعارف قصيدة من أمهات القصائد،
عبر فيها عما يكنون بين جوانحهم من وطنية صادقة، وتقدير للعاملين لخير الوطن من
رجالات مصر، وإن مصر لتبدأ هذا العهد الجديد بقلب فتي وهمة وثابة، وهي ترقب من جميع
أبنائها أن يشدوا العزائم، ويؤدوا للوطن ما يرفع شأنه ويعلي مكانته.
وإننا — معشر المعلمين — لنعاهد الوطن على أن نسير في إعداد الجيل الحاضر إعدادًا
أساسه التفاني في حب الوطن والإخلاص لأهله والعمل لخيرهم جميعًا.
وهذه قصيدة صاحب العزة الأستاذ الكبير علي الجارم بك ننشرها في صدر
الصحيفة:
أبَتْ أعلامُ مَجْدِكَ أنْ تُسَامَى
وعَزَّتْ هِمةٌ لكَ أنْ تُراما
٢
تُحَلِّقُ للنجومِ فتَعتليها
وتَبْغِي فَوقَ دَارتِها مَقاما
٣
بَعثْتَ الشَّرْقَ يَبْسُط ساعِديْه
وَيمسَحُ عن مَحاجِرِه المناما
٤
تمرُّ بصخرهِ الأهوالُ حَسْرَى
وتَخْشى الحادثاتُ به اصطداما
وصَارتْ مصرُ قِبلةَ كُلِّ شَعْبٍ
وقامَ المصطفى فيها إماما
على دِينٍ من الأخلاقِ سَمْحٍ
ورأيٍ ساطعٍ يمحو الظلاما
وعزمٍ لو رمى جَنَبَاتِ رضوَى
لَدُكَّ الطَّودُ وانهدمَ انهداما
٥
تطوفُ به الحوادثُ صاغِراتٍ
فتُغْضِي أعْيُنًا وتخرُّ هاما
٦
نضاهُ الله يومَ نضاهُ عَضْبًا
يردُّ مَضاؤُهُ الجيشَ اللُّهاما
٧
يُصاحِبُه من الإيمَانِ قَلْبٌ
ونَصْرُ اللهِ يتبعُه لِزاما
ويَصْقُله الصِّدامُ المُرُّ حتى
ظنَنا أنّه يَهْوَى الصِّداما
وكَمْ في الناس مِنْ سَيْفٍ صَقيلٍ
تَراهُ — إذا دعا الداعي — كَهاما
٨
•••
نَهَضْتَ بمطْلَبٍ وَعْرٍ جَسيمٍ
فنِلْتَ بنَيلهِ الشَّرَفَ الجُسَامَا
تَخُوضُ له الصِعابَ الصُّمَّ خَوْضًا
وتَقْتَحِمُ الخطوبَ لهُ اقتحاما
وتزأرُ دُونَه زَأْرَ ابنِ غابٍ
أبِيٍّ أنْ يُسَاوَمَ أو يُسَاما
٩
ومَنْ كالمصطفى للحقِّ رِدْءًا
إذَا الرِّعديدُ دونَ الحقِّ ناما؟
١٠
ومَنْ طَلَبَ العُلا في اللهِ ألْقَى
إليهِ شامِسُ الدَّهرِ الزِّماما
١١
•••
جَفَا الدُّنيا، وهامَ بحُبِّ مِصرٍ
هُيامًا أَلْهَمَ الصَّبَّ الهياما
١٢
تلوذُ به، فيكلؤُها كَرَيمًا
وتَرْجوهُ، فينصُرُها هُماما
١٣
وينفَحُ دونَها في الحَقِّ سَيفًا
ويَهْمِي في مرابِعها غماما
١٤
محامِدُ، لو حَواها الشعرُ رَقَّتْ
حواشي الشعرِ، وانسجمَ انسجاما
وآمالٌ، يُتَوَّجُ مُبتغاها
تمامٌ، عَلَّم البدرَ التماما
لقدْ ضاقَ الحسودُ بما يُلاقي
ومَنْ ذا يكشِفُ الداءَ العُقاما؟
١٥
وما عَيْبُ الضِياء وقد تجَلَّى
إذا عَمِيَ المُكابِرُ، أو تَعامى؟
إذا اعتصمَتْ بحبلِ اللهِ نَفْسٌ
دَنا الغرضُ البعيدُ وقَدْ ترامى
١٦
وذُلِّلتِ السبيلُ، ودَانَ طَوْعًا
من الآمالِ أصْعَبُها مَراما
١٧
ومِنْ كَرمِ النفوسِ تَرى نُضارًا
ومِنْ هَوْن النفوسِ تَرى رُغَاما
١٨
ورُبَّ فَتًى كصدرِ الرُّمْحِ صُلْبٍ
وآخرَ خائرٍ يَحكي الثُّماما
١٩
ومَنْ خَلَق الضّراغِمَ واثباتٍ
إلى عَزَمَاتها خَلَقَ النَّعاما!
٢٠
زَعيمَ الشَّعْبِ، أنتَ لهُ رَجاءٌ
إذا ما أشجَعُ الأبطالِ خَامَا
٢١
دَعَتْ مصرٌ، فكُنْتَ لها جوابًا
وَكُنتَ لِصَوْن وَحْدَتِها عِصاما
٢٢
رَعَيْتَ حُقوقَها وَدَفَعْتَ عَنْها
ومَنْ كالمصطفى يَرْعى الذِّماما؟
٢٣
وحامَتْ حَوْلَكَ الآمالُ نَشْوَى
كطيرٍ دَفَّ في رَوْضٍ وحاما
٢٤
وأصبَحَ عَهْدُكَ الزاهي سَلامًا
يَرِفُّ فلا نِفَارَ ولا خِصاما
٢٥
تَوَطَّدَتُ العقيدَةُ واطمأنتْ
فلا صَدْعًا نَخافُ ولا انقساما
٢٦
وعادَ لمصر ماضيها مجيدًا
وقامَ العدلُ في مصر قِياما
بَنَيْتَ فكان حينَ بَنيْتَ أُسًّا
وأَرْسَيتَ القواعِدَ والدِّعاما
٢٧
رأيتُ لكُلِّ مَمْلَكَةٍ نِظامًا
ولا كالعَدْلِ في الدُّنْيا نِظاما
•••
رَعاكِ اللهُ، قَدْ أرْضَيْتَ سَعْدًا
وكُنْت لفَوْزِ دَعْوَتِهِ قِواما
٢٨
يُمِدُّك مِنْهُ رُوحٌ عَبْقَرِيٌّ
ويَنْفُثُ فيكَ رَأْيًا واعْتِزاما
٢٩
خَلِيفَتهُ، وقائِدُ تابِعيهِ
إلى أنْ يَبْلُغَ المجْدُ السَّناما
٣٠
تُرفْرفُ رُوحُ سَعْدٍ منْ عُلاها
عَلَيكَ وتَمْلأُ الدُّنيا ابتساما
سَلَكْتَ سَبيلَه شِبْرًا فَشبْرًا
تُقاسِي وَعْرَها عَامًا فعاما
٣١
تُلاقيكَ الصِّعابُ فَلا تُبالي
أَمَاءً خُضْتَ فيهِ، أمْ ضِراما
٣٢
فما ثَلَمَتْ لَكَ الأحداثُ سَيْفًا
ولا حَطَمَتْ لكَ الدُّنْيا سِهاما
٣٣
ومَنْ عَقَدَ الإلهُ لهُ لواءً
فلسْتَ تَرى لعُقْدتِه انفصاما
٣٤
•••
وحَوْلكَ مِنْ صِحَابِكَ كُلُّ نَدْبٍ
عَيُوفٍ أن يُضِيمَ وأَنْ يُضَاما
٣٥
نَسيمُ خَمِيلةٍ، والجوُّ صَحْوٌ
وعاصِفَةٌ، إذا ما الجوُّ غَامَا
٣٦
يَسيرُ لِقَصْدِهِ النَائي إمَامًا
إذا لم يُلْفَ سَبَّاقٌ أَمَامَا
٣٧
شَمائِلُ لو وَعاها الحِسُّ كَانَتْ
عبيرَ المِسْكِ أو رِيحَ الخزامى
٣٨
صِحَابُ المصطَفَى وَرِجَالُ سَعْدٍ
مَقَامٌ لَا يُنَالُ ولا يُسَامَى!
٣٩
•••
نَزَلْتَ بِلُنْدُنٍ، فَرَأَوْا كريمًا
أبِيًّا، قَادَ أَبْطالًا كِرامًا
٤٠
بَليغًا صمْتُهُ، والصَّمْتُ حَزْمٌ
وسَحْبانًا، إذا ارْتَجَل الكَلَاما
٤١
فَكمْ في غُمّةٍ ألقى ضِياءً
وَكَمْ عَنْ حُجّةٍ كَشفَ اللِّثاما
٤٢
لَهُ مِنْ قُوَّةِ الرحمنِ رُكْنٌ
يَلوذُ بِهِ اعتِزازًا واعتِصاما
٤٣
رَأَوْا كَرَمَ النِّضَالِ فأكبَرُوه
وكانوا خَيرَ مَنْ قَدَرَ الأَنَاما
٤٤
ونالتْ مِصْر الاستقلالَ طَلْقًا
وطَوَّحَت المقاودَ والخِطاما
٤٥
وصارَ القولُ في جَهْرٍ حَلالًا
وكانَ الهمْسُ في سِرٍّ حَراما
ولولا المصطفى لم تَحْظَ مِصْرُ
ولا بَلَّتْ مِنَ الأمَلِ الأواما
٤٦
•••
مُعاهَدةُ الصَّداقةِ والتآخي
غَدَتْ لجهودِكَ العُظْمَى وِساما
رَفَعْتَ بِها عَن الأعناقِ نِيرًا
ومزَّقْتَ الغمائمَ والكماما
٤٧
وسابَقْتِ الممالِكَ مِصرُ وَثْبًا
إلَامَ تَظَلُّ وانيةً إلاما؟
٤٨
تَعالى اللهُ هَذا فَضْلُ رَبِّي
كَشَفْتَ به عَن الفتحِ القَتاما
٤٩
وكُلُّ عَظائِم التاريخ رَهنٌ
إلى أَنْ يَسْتَخيرَ لَها العظاما
٥٠
ولا يَحْظَى بنيلِ المجدِ إلَّا
فتًى هَجَرَ الملالةَ والسآما
٥١
سِجلُّ الفَضْلِ كُنتَ له ابتداءً
وصُحْفُ النُّبْلِ كُنْتَ لها خِتاما
صِفاتُكَ أَعْجَزَتْ شِعْرِي، وفَخرٌ
لمِثلي أنْ يَلم بها لماما
٥٢
بَقَيْتَ لصَرْحِ الاستقلالِ رُكْنًا
ودُمْتَ لرفْعِ رايتهِ، وَدَاما
٥٣