في ١٨ من نوفمبر سنة ١٩٣٣م غادر سرب الطائرات الحربية المصرية إنجلترا قاصدًا إلى
مصر، وفيما كان السرب طائرًا في سماء فرنسا سقطت إحدى طائراته محترقة في بلدة «مونشو
سورنج»، واحترق طياراها المرحومان «فؤاد حجاج» و«شهدي دوس»، وبذلك أفل نسران من نسور
مصر، وفقدت وهي في مستهل نهضتها شابين من خيرة شبابها جرأةً وشهامةً وإقدامًا.
وهكذا أبى القدر إلا أن يكون لمصر ذات التاريخ المجيد أثر جليل خالد في هذا الميدان
الفسيح، الذي احتسبت فيه الأمم المتمدينة الألوف من أبنائها؛ لتسخير الريح وتدليل
الهواء في سبيل العز والمنعة والحضارة والفخار.
وفي هذه القصيدة يصور الشاعر هذا الحادث الجلل، ويصف وقعه وآثاره:
جَمَعَ الشُّجُونَ وَبدَّدَ الأحْلَامَا
خَطْبٌ أَنَاخَ بكَلْكَلٍ وأَقَامَا
١
أَخْلَى الكِنَانَةَ مِنْ أَمَرِّ سهَامِهَا
عُودًا، وَرَاع النيلَ والأَهْرَاما
٢
وعدَا عَلَى رَوْضِ الشَّبَابِ وظِلِّه
فَغَدَا بِه رَوْضُ الشَّبَابِ حُطَاما
غُصْنَان، هَزَّهُمَا الصِّبَا فتَمَايَلا
وسَقَاهُما الأَمَلُ الرَّوِيُّ جِمَاما
٣
نَجْمان، غالهُما الزَّمانُ فأصْبحَا
بَعْدَ التَّألُّق والسُّطُوعِ رُكَاما
٤
نَسْران، لو رَضِيَ القَضَاءُ لحلَّقا
دَهْرًا، على أُفُقِ الدِّيارِ وَحَاما
•••
ابْكِ الشَّبَاب الغضَّ في رَيْعَانِه
وأَفِضْ عَليه مِنَ الدُّمُوعِ سِجَامَا
٥
وانْثُرْ أزَاهِيرًا عَلَى الزَّهْرِ الَّذِي
كانَتْ لَه كُلُّ القُلوبِ كِماما
٦
وابْعَثْ أَنينَكَ للسَّحابِ شِكَايةً
فإِلَامَ تحْتَبِسُ الأنِينَ إلَاما؟
لَهْفِي عَلَى أَمَلٍ مَضَى في لَمْحةٍ
لوْ دَامَ في الدُّنْيا السُّرُورُ لَدَاما!
لمْ نَشْكُرِ الأَيَّامَ عند بَرِيقِه
حَتَّى أَخَذْنَا نَشْتَكِي الأيَّاما
لم تَلْمَحِ العَيْنُ الطُّمُوحُ شُعَاعَه
حَتَّى رَأَتْ ذَاكَ الشُّعاعَ ظَلَاما
•••
حَجَّاجُ! لاقيْتَ اليقينَ مُكَافِحًا
بَطَلًا، ويا شُهْدِي! قَضَيْتَ هُمَاما
رَكبَا الهَوَاء، وكلُّ نفْسٍ لَو دَرَتْ
غَرَضٌ تَنَازَعُهُ المنُونُ سِهَاما
والمَوْتُ يَلْقَى الأُسْدَ في عِرِّيسِها
ويَغُولُ حَوْلَ كِنَاسِها الآرَاما
٧
لا الدِّرْعُ تُصْبِحُ حينَ تَبْطِشُ كَفُّه
دِرْعًا، ولَا السَّيْفُ الْحُسَامُ حُسَاما
رَكِبنَا جَمُوحَ الْجَوِّ يَلْوِي رَأْسَه
كِبْرًا، ويَأْنَفُ أَنْ يُنيلَ زِمَاما
في عَاصِفَاتٍ لم تُزَعْزَعْ مِنْهُمَا
عَزمًا كَحَدِّ السَّيْفِ أَوْ إقْدَاما
والجَوُّ أَكْلَفُ، والسَّماءُ مَرِيضَةً
واللَّيْلُ دَاجٍ، والْخُطُوبُ تَرَامَى
٨
والموْتُ يَخْفِقُ في جَنَاحَيْ جَارِحٍ
مَلَأَ الفَضَاءَ شَرَاسَةً وعُرَاما
٩
بسَمَا إلى الْخَطْب العَبُوسِ، وإنَّما
يَلْقَى الكميُّ قَضَاءَه بَسَّاما
١٠
لهْفِي عَلَى البَطَلين غالَهُمَا الرَّدَى
لَمْ يَمْلِكا دَفْعًا ولَا إحْجَاما!
١١
الموْتُ تَحْتَهما يَصُولُ مُخاتِلًا
والموتُ فَوقَهما يَحُومُ زُؤَاما
١٢
ثَبَتَا لِحُكْمِ الله — جَلَّ جَلالَهُ —
والْخَطْبُ يَلْقَاه الكِرَامُ كِرَاما
والسَّيْفُ أَكْثَرُ ما يُلاقِي حَتْفَه
يومَ الكَرِيهةِ صَارِمًا صَمْصَاما
١٣
قد يُنْسئُ المَوتُ النِّمالَ بِجُحْرِها
ويَغُولُ في آجَامِه الضِّرْغَاما
١٤
يا هَوْلَها من لَحْظَةٍ لا نَارُها
بَرْدٌ، ولَا كَان اللَّهِيبُ سَلَاما
هَلْ أَخْطَرا فِيها عَلَى بَالَيْهما
النيلَ والآباءَ والأَعْمَاما؟
والمَوْطِنَ الصَّدْيَانَ يَرْقُبُ عَوْدةً
وَيْلَاه! قَدْ عادَا إليه رِمَاما
١٥
أَتقَاسَما فيها الوَدَاعَ بلَفْظَةٍ
أَمْ لَمْ تَدَعْ لَهُمَا المَنُونُ كلَاما
هل فَكَّرا في الأُمِّ تندُب حَظَّها
والزَّوْجِ تُسْكِتُ وَالِهِينَ يَتَامَى
١٦
إنَّ السَّلامَةَ قد تَكُونُ مَذَلَّةً
ويَكُونُ إقْدامُ الجريء حِمَاما
١٧
والمرءُ يَلْقَى باختيارِ كِلَيْهِما
حَمْدًا يُحلِّقُ بِاسْمِه أَوْ ذَاما
١٨
والمَجْدُ يَعْتَدُّ الْحَيَاةَ قَصِيرةً
ويَرَى فَناءَ الْخَالِدِين دَوَاما!
١٩