ذِكرى قاسِم أمين
أذيعت بدار الإذاعة في سنة ١٩٣٨م لمرور ثلاثين سنة على وفاته.
مَلَّ مِنْ وَجْدِهِ وَمِنْ فَرْطِ مَا بِهْ
وَأَرَاقَ الشَّرَابَ مِنْ أَكْوَابِهْ!
وَإذَا الْقَلْبُ أَظْمَأَتْهُ الْأَمَانِيُّ،
فَمَاذَا يُرِيدُهُ مِنْ شَرَابِهْ؟
وَإذَا النَّفْسُ لَمْ تَكُنْ مَنْبِتَ الأُنـ
ـسِ، تَنَاءَى الْقرِيبُ مِنْ أَسْبَابِهْ
وَأَشَدُّ الآلَامِ أَنْ تُلْزِمَ الثَّغْرَ ابتسَا
مًا، والْقَلْبُ رَهْنُ اكتِئَابِه
•••
كُلَّمَا اخْتَالَ فِي الزَّمَانِ شَبَابٌ
عَصفَتْ رِيحُهُ بِلَدْنِ شَبَابِهْ!
وَالنُّبُوغُ النُّبُوغُ يَمْضِي، وَتَمْضِي
كلُّ آمَالِ قَوْمِهِ فِي رِكَابِهْ
غَرِدٌ، مَا يكَادُ يَصْدَحُ حَتَّى
يُسْكِتَ الدَّهْرُ صَوْتَهُ بِنُعَابِهْ١
وَحَبَابٌ، إذَا عَلَا الْمَاءَ وَلَّى
فَاسْأَلِ الْمَاءَ هَلْ دَرَى بِحَبَابِهْ؟٢
وَسَفِينٌ، مَا شَارَفَ الشَّطَّ حَتَّى
مزَّقَ الْيَمُّ دُسْرَهُ بِعُبَابِهْ٣
•••
بَخِلَ الدَّهْرُ أَنْ يُطَوِّلَ لِلْعَقْلِ،
فَيَجْرِي إلَى مَدَى آرَابِهْ٤
كلَّمَا سَارَ خُطْوَةً وَقَفَ الْمَوْ
تُ، فَسَدَّ الطَّرِيقَ عَنْ طُلَّابِهْ
وَابْتِدَاءُ الْكَمَالِ في عَمَلِ الْعَا
مِلِ بَدْءُ الشَّكاةِ مِنْ أَوْصَابِهْ٥
ضِلَّةً نَكْتُمُ الْمَشِيبَ فَيَبْدُو
ضَاحِكًا سَاخِرًا خِلاَلَ خِضَابِهْ٦
أيْنَ مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُرْشِدَ الدُّنْيَا،
وَسَوْطُ الْمَنُون في أَعْقَابِهْ؟٧
أَيُّهَا الْمَوْتُ: أَمْهِلِ الْكَاتِبَ المِسـ
ـكِينَ يُرْسِلْ أَنْفَاسَهُ في كِتَابِهْ
آهِ لَوْ يَشْتَرِي الزَّمَانُ قَرِيضِي
بِسِنِينٍ تُعَدُّ لِي في حِسَابِهْ
مَا حَيَاِتي؟ وَالْكَوْنُ بَعْدَ جِهَادٍ
لَمْ أَزَلْ وَاقِفًا عَلَى أبْوابِهْ
تَظْمَأُ النَّفْسُ في حَيَاةٍ هِيَ الْقَفـ
ـرُ، فَتَرْضَى بِنَهْلَةٍ مِنْ سَرَابِهْ
أَنَا قَلْبِي مِنَ الشَّبَابِ وَجِسْمِي
أَثْخَنَ الشَّيْبُ رَأسَهُ بِحِرَابِهْ
أَمَلُّ هَذِهِ الحَياةُ، فَهَلْ يَعْثُرُ بِي
الْمَوْتُ دُونَ وَشْك طِلَابِهْ؟
كُلَّمَا رُمْتُ لَمْحَةً مِنْ سَنَاهُ
هَالَنِي بُعْدُهُ وَطُولُ شِعَابِهْ٨
مَا الذَّيِ تَبْتَغِي يَدُ الدَّهْرِ مِنِّي؟
وَدَمِي لا يَزَالُ مِلءَ لُعَابِهْ٩
دَعْ يَرَاعِي يا دَهْرُ يَمْلَأ سَمْعَ النِّيـ
ـلِ، مِنْ شَدْوِهِ وَعَزْفِ رَبَابِهْ
كُلُّ شَيْءٍ لهُ نِصَابٌ سِوَى الْفَنـ
ـنِ، فَلَا حَدَّ يَنْتَهِي لِنِصَابِهْ١٠
•••
عَصَفَتْ صَيْحةُ الرَّدَى بِخَطِيبٍ
وَهُوَ لَمْ يَعْدُ صَفْحَةً مِنْ خِطَابِهْ
سَكْتَةٌ أسْكَتَتْ نَئِيجَ خِضَمِّ
عَقَدَ النَّوْءُ لُجَّهُ بِسَحَابِهْ١١
سَكْتَةٌ أَطْفَأَتْ مَنَارَ طَرِيقٍ
كَمْ مَشَتْ مِصْرُ في ضِياء شِهَابِهْ
وَمَضى (قَاسِمٌ) وَخَلَّفَ مَجْدًا
تَفْرَعُ النَّجْمَ رَاسِيَاتُ قِبَابهْ١٢
•••
قَدْ نَكِرْنَاهُ حِين قَامَ يُنَادِي
وَفَهِمْنَا مَعْنَاهُ يَوْمَ احْتِسَابِهْ
رُبَّ مَنْ كُنْتَ فِي الْحَيَاةِ لَهُ حَرْ
بًا، شَقَقْتَ الْجُيُوبَ عِنْدَ غِيَابِهْ
وَتَحَدَّيْتَ شَمْسَهُ، فَإذَا وَلَّى
تمنَّيْتَ لَمْحَةً مِنْ ضَبَابِهْ
لَمْ يَفُزْ مِنْكَ مَرَّةً بِثَنَاءٍ
فَنَثَرْتَ الأزْهَارَ فَوْقَ تُرَابِهْ
يُعْرَفُ الْوَرْدُ حِينَمَا يَنْقَضِي الصَّيـ
ـفُ، وَيُبْكَى النُّبُوغُ بَعْدَ ذَهَابِهْ
كَمْ نَدَبْنَا الشَّبَابَ حِينَ تَوَلى
وَشُغِفْنَا بِالْبَدْرِ بَعْدَ احْتِجَابِهْ!
كَتَبَ اللهُ أَنْ يَعَيشَ غَريبًا
كُلُّ ذِي دَعْوَةٍ إلى الْحَقِّ نَابِهْ
لا ترَى فَوْقَ قِمَّةِ الطَّوْدِ إلَّا
بَطَلًا لا يَهَابُ هَوْلَ صِعَابِهْ
كُلُّ ذَاتِ الْجَنَاحِ طَيْرٌ، وَلَكِنْ
عَرَفَ الْجَوُّ نَسرَهُ مِن غُرَابِهْ
كَمْ رَأَينَا فِي النَّاسِ مَن يُبْهِرُ الْعَيـ
ـنَ، وَمَا فِيهِ غَيْرُ حُسْنِ ثِيَابِهْ
يَمْلَأُ الأرضَ وَالسَّمَاء رِيَاءً
وَعُيُوبُ الزَّمَانِ مِلْءُ عِيَابِهْ١٣
•••
نَقَدَ النَّاسَ (قَاسِمًا) فَرَأَوْهُ
أَصبَرَ النَّاسِ فِي تجَرُّعِ صَابِهْ١٤
حُجَّةُ الْجَاهِلِ الْمِرَاءُ، فَإِنْ شَا
ءَ سُمُوًّا، أَمَدَّهَا بِسِبَابِهْ١٥
قَدْ يُغَشِّي الْوِجْدَانُ بَاصِرَةَ الْعَقـ
ـلِ، فَيُعْمِيهِ عَنْ طَرِيقِ صَوَابِهْ
صَالَ بِالرَّأْيِ (قَاسِمٌ) لَا يُبَالِي
وَمَضَى فِي طَرِيقِهِ غَيْرَ آبِهْ
كَمْ جَرِيءٍ لَا يَرْهَبُ السَّيْفَ إنْ سُلـ
ـلَ وَنِكْسٍ يَخَافُ مَسَّ قِرَابِهْ
وَالشُّجَاعُ الَّذِي يُجَاهِرُ بِالْحَقِّ،
وَلَوْ كَانَ فِيهِ مُرُّ عَذَابِهْ
كَيْفَ يَهْدِي النَّصِيحُ إِنْ رِيعَ يَوْمًا
مِنْ قِلَى مَنْ يُحِبُّ أَوْ إِغْضَابِهْ؟١٦
وَطَرِيقُ الإِصْلَاحِ في كُلِّ شَعْبٍ
عَسِرُ الْمُرْتَقَى عَلَى مُجْتَابِهْ
يَعْشَقُ الشَّعْبُ مِنْ ﯾُﺪَﻟِّﻠُﻪُ زُو
رًا، بِمَذْقٍ مِنْ سُخْفِهِ وَكِذَابِهْ١٧
•••
قُمْتَ لِلْجَهْلِ تَقْلِمُ الظُّفْرَ مِنْهُ
وَتَفُضُّ الْحِدَادَ مِنْ أنْيَابِهْ١٨
فِي زَمَانٍ كَانَ الْقَدِيمُ بِهِ قُدْ
سًا، يُذَادُ الْجَدِيدُ عَنْ مِحْرَابِهْ١٩
يَا نَصِيرَ النِّسَاء، وَالدِّينُ سَمْحٌ
لَوْ وَعَيْنَا السَّرِيَّ مِنْ آدَابِهْ٢٠
قَدْ خَشَيْنَا عَلَى الْحَمَائِمِ في الدَّوْ
حِ، أَظَافِيرَ بَازِهِ أَوْ عُقَابِهْ٢١
إنْ أَرَدْتَ الظِّبَاءَ تَمْرَحُ فِي السَّهـ
ـلِ، فَطَهِّرْ أَكْنَافَهُ مِنْ ذِئَابِهْ٢٢
كَمْ ضِرَاءٍ وَسْطَ الْمَدَائِنِ أَنْكى
مِنْ ضِرَاءِ الضِّرْغَامِ في وَسْطِ غَابِهْ!٢٣
وَشِبَاكٍ، مِنَ الْجَرائِمِ وَالْخَتْلِ،
حَوَاهَا شَيْطَانُهُمْ فِي جِرَابِهْ٢٤
وَإذَا مَا الْحَيَاءُ لَمْ يَسْتُرِ الْحُسْنَ،
فَمَاذَا يُفِيدُهُ مِنْ نِقَابِهْ؟
•••
قُمْتَ تَدْعُو الْبَنَاتِ لِلْعِلْمِ فَانْظُرْ
كَيْفَ حَلَّقْنَ فَوْقَ شُمِّ هِضَابِهْ٢٥
وَزَهَا النِّيلُ بابْنَةِ النِّيلِ فَاخْتَا
لَ، يَجُرُّ الذُّيُولَ مِنْ إعْجَابِهْ
وَغَدَا الْبَيْتُ جَنَّةً بالَّتِي فِيهِ،
خَصِيبًا بِالْأُنْسِ بَعْدَ يَبَابِه٢٦
يَا فَتَى الْكُرْدِ، كَمْ بَزَزْتَ رِجَالًا
مِن صَمِيمِ الْحِمَى، وَمِنْ أَعْرَابِه!٢٧
نَسَبُ الْمَرْءِ مَا يَعُدُّ مِنَ الْأَعـ
ـمَالِ، لا مَا يَعدُّ مِنْ أَنْسَابِه
كَمْ سُؤَالٍ بَعَثْتَ إثْرَ سُؤَالٍ
أَيْقَظَ النَّائِمينَ رَجْعُ جَوَابِه
كُنْتَ فِي الْحَقِّ لِلْإمَامِ نَصِيرًا
وَالْوَفِيَّ الصَّفِيَّ مِنْ أَصْحَابِه٢٨
نَمْ هَنِيئًا، فَمِصْرُ نَالَتْ ذُرَا الْمَجـ
ـدِ، وَفَازَتْ بِمَحْضِهِ وَلُبَابه٢٩
مِنْكَ عَزْمُ الدَّاعِي، وَفَضْلُ الْمُجَلِّي
وَمِنَ اللهِ مَا تَرَى مِنْ ثَوَابِه٣٠
هوامش
(١) النعاب: صوت الغراب.
(٢) حباب: حباب الماء بفتح الحاء نفاخاته التي تعلوه.
(٣) الدسر: خيوط تشد بها ألواح السفينة. واحدها دسار ككتاب. عبابه:
أمواجه.
(٤) طول له: أمهله. مدى: غاية. آراب: جمع إرب وهو الحاجة
والمطلب.
(٥) الشكاة: الشكوى. أوصاب: جمع وصب المرض.
(٦) الضلة: بكسر الضاد عدم الهدى. الخضاب: صبغ يوضع على الشعر لإخفاء
الشيب.
(٧) أعقاب: جمع عقب وهي مؤخر القدم.
(٨) رمت: أردت. السنا: الضوء. هالني: أزعجني. شعابه: جمع شعب وهو
الطريق في الجبل.
(٩) إشارة إلى وفاة نجل الشاعر البكر عام ١٩٣٥م.
(١٠) النصاب: المقدار المعين.
(١١) النئيج: الصوت. الخضم: البحر العظيم. النوء: النجم مال للغروب أو
سقوط النجم في المغرب مع الفجر، وطلوع آخر يقابله من ساعته في
المشرق وكانت العرب تنسب الرياح والأمطار إلى النوء، والمراد هنا
العواصف التي تنشأ عن النوء.
(١٢) قاسم: هو الرجل الاجتماعي العظيم الذي دافع عن المرأة المصرية
طول حياته، وبذل في سبيل تحريرها جهدًا كبيرًا وقوة فتية حتى تنهض
إلى مكانة سامية، وألف في سبيل تحريرها كتابيه: تحرير المرأة،
والمرأة الجديدة. وهو من أصل كردي ولد سنة ١٨٦٥م، وبعد أن فاز بقسط
كبير من العلم في مصر سافر إلى فرنسا، وهناك درس الحقوق ثم رجع إلى
مصر في سنة ١٨٨٥م وعين قاضيًا بالمحاكم الأهلية، ثم مستشارًا
واشترك في إنشاء الجامعة المصرية وتوفي سنة ١٩٠٨م. تفرع: فرع القوم
علاهم بالشرف والجمال.
(١٣) الرياء: أن تظهر للناس غير ما أنت عليه؛ لتخدعهم عن حقيقة أمرك.
عيابه: عياب جمع عيبة وهي الحقيبة.
(١٤) تجرع: من جرعت الماء كنفع جرعا إذا بلعته، والجرعة من الماء
كاللقمة من الطعام. صابه: الصاب عصارة شجر مر.
(١٥) المراء: من ماريته أماريه مماراة ومراء: جادلته بالحق أو
بالباطل.
(١٦) ريع: خاف وفزع. القلى: البغض.
(١٧) ﯾُﺪَﻟِّﻠُﻪُ: يرضي رغباته. مذق: المذق الخلط. سخفه: سخف الثوب
سخفًا وسخافة رق لقلة غزله، فهو سخيف ومنه قيل: رجل سخيف وفي عقله
سخف أي: نقص والمراد بالسخف هنا الهراء من الكلام، الكذاب:
الكذب.
(١٨) تقلم: قلمت الظفر قطعته وما يسقط منه يسمى القلامة. الحداد: جمع
حديد القوى. وناب حديدة أي: حادة قوية. فض الله فاه: نثر
أسنانه.
(١٩) القدس: الطهر والمراد به هنا الشيء الذي لا يحل تغييره وتبديله.
يذاد: يدفع ويطرد. المحراب: صدر المجلس أو محراب المسجد أو المسجد
نفسه.
(٢٠) سمح: يسر. وعينا: أدركنا. سرى الآداب: شريفها وعاليها.
(٢١) الحمائم: جمع حمامة. الدوح: الشجر العظام ومفرده دوحة. الباز:
طير جارح وكذا العقاب.
(٢٢) الظباء: جمع ظبية. تمرح: ترتع وتلعب. السهل: الأرض المستوية.
أكنافه: جمع كنف وهو الجانب.
(٢٣) ضراء: من ضرى الكلب بالصيد ضراء بكسر الضاد وفتحها فهو ضار إذا
تعوده، والمراد هنا بالضراء الجرأة والفتك. أنكى: من قولهم: نكيت
في العدو من باب رمى إذا قتلت وأثخنت والاسم منه النكاية، والمراد
بأنكى هنا: أشد وأبلغ. الضرغام: الأسد. الغاب: جمع غابة.
(٢٤) الختل: الخداع والمكر.
(٢٥) حلق الطائر: طار في دوران. شم: جمع شماء وأشم، والشمم ارتفاع في
الجبل والأنف، وشم الهضاب مرتفعها.
(٢٦) يبابه: اليباب: القفر.
(٢٧) فتى الكرد: قاسم؛ لأنه كردي الأصل من بلاد كردستان أقليم من
أقاليم العراق يقع جزء منه بين دجلة والفرات. بززت: غلبت. صميم:
خالص. الحمى: المراد بالحمى هنا مصر.
(٢٨) الإمام: المرحوم الشيخ محمد عبده. الصفي: المختار.
(٢٩) الذرا: جمع ذروة: وهي أعلى كل شيء. المحض: الخالص. اللباب: لب
النخلة قلبها.
(٣٠) المجلى: السابق من أفراس الحلبة.