أعلَامُ المجمَع
في رثاء الأساتذة أحمد الإسكندري وحسين والي ونلينو أعضاء مجمع اللغة العربية. أنشدت بدار الأوبرا في فبراير سنة ١٩٣٩م.
غدًا في سَماءِ الْعبْقَرِيَّةِ نلتقي
وتجتمعُ الأنْدادُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ
وَنذكر عيْشًا كالأزَاهِر لم يَطُلْ
وَوُدًّا كَمشْمُولِ الرَّحيقِ الْمُصَفقِ١
وَنَضْحك من آمالِنا كيف أنَّها
أَصَاخَتْ إلى وَعْدِ الزَّمان المُلَفِّقِ
ونَسْبَحُ في أنْهَارِ عَدْنٍ كأنَّما
سَرَائِرُنَا مِن مائِها المُتَدَفِّق
ونَخْتَرِق الأجْواءَ بَيْنَ مُدَوِّمٍ
يَمدُّ جَنَاحَيْهِ وبين مُصَفِّق٢
•••
ذَكَرْتُ أَحِبَّائي وقَدْ سَارَ رَكْبُهُمْ
إلى غير آفاقٍ على غير أَيْنُقِ٣
أُودِّعهم ما بَيْنَ لَوْعَةِ وَاجِدٍ
تَطِيرُ به الذِّكْرَى وَزفْرَةِ مُشْفِق
وَأَبْعَثُ في الصَّحْراء أَنَّاتِ شَيِّقِ
وهَلْ تَسْمعَ الصَّحراء أَنَّاتِ شَيِّقِ؟!
تعلقتُ بالحَدْبَاءِ حَيْرانَ وَالِهًا
وكيف! ومَاذَا نافِعِي من تعلُّقِي؟!٤
لَمَسْتُ فلم ألْمِسُ سوى أَرْيَحِيَّةٍ
من النورِ لُفَّتْ في رِدَاءٍ مُخلَّقِ٥
•••
أَتُدْفَنُ في الأرض الكنوزُ وفوقها
خَلاَءٌ إلى لأْلائِهَا جِدُّ مُمْلِقِ٦
ويَمْضِي الْحِجَا مَا بَيْنَ يومٍ وليلةٍ
كَلَمْحَة طَرْفٍ أَو كَوَمْضَةِ مُبْرِق٧
يضيق فضاءُ الأرض عن هِمَّةِ الفَتى
ويُجمَعُ في لَحْدٍ من الأرض ضيِّقِ
تَبَابٌ لهذا الدَّهْرِ مَاذَا يُرِيدُه؟
وأَيّ جديدٍ عنده لم يُمَزّقِ؟٨
يُصَدِّعُ من أَعْلاَمِنَا كلَّ راسخٍ
ويُطفِئ من أَنْوَارِنَا كلَّ مُشْرِقِ
هُوَ الموتُ مَا أغْنَى اسمه عَنْ صِفَاتِه
وعن كلِّ ألْوَانِ الكلام المُنَمَّقِ!
رَمَتْنِي عوَادِيه فإِن قلتُ: إِنَّهَا
مَضَتْ بِأَمانِيِّ الحياة فَصَدِّقِ!
•••
أَأَحمدُ أين الأمْسُ والأمسُ لم يَعُدْ
سِوَى ذِكرياتٍ للخيال المُؤَرِّقِ
كَأَني أراكَ اليومَ تخطُبُ صَائِلًا
وتَهْدِرُ تَهْدَارَ الْفَينقِ المُشَقْشِقِ٩
تُنَافِحُ عن بِنْتِ الصَّحارِي مُشَمِّرًا
وتَفْتَحُ مِن أسْرَارِهَا كُلَّ مُغْلَقِ١٠
مَضَى حَارِسُ الفُصْحى فَخَلَّده اسْمُه
كما خلَّد الأَعْشى حَديثَ الْمُحَلَّقِ١١
فَقدْنَا به زَيْنَ الْفَوَارِسِ إِن رَمَى
أَصَابَ وإِنْ يُرْخِ الْعِنَانَيْنِ يَسْبِقِ
فَقُلْ للَّذِي يَسْمُو لذَيْلِ غُبارِهِ
ظلَمْتَ العِتَاقَ الشَّيْظَمِيَّاتِ فَارفُقِ١٢
إذا ما رَمَى عِنْدَ الجِدَالِ عَبَاءَهُ
رَمَاكَ بِسَيْلٍ يَقْذِفُ الصَّخْرَ مُغْرِقِ
فجانِبْ إذا كُنتَ الحكِيمَ سُؤَالَهُ
وَأَطْرِقْ إلى آرائِهِ ثُمَّ أطْرِقِ
•••
أأَحْمَدُ، إِنْ تَمْرُرْ بِوَالِي فَحَيِّه
وَبَلِّغْه أشْوَاقَ الفُؤادِ المُحَرَّقِ١٣
طوَيناه صيَّادَ الأَوابدِ لَمْ يَدَعْ
عَزِيزًا عَلَى الأفْهامِ غَيْر مُوَثقِ١٤
لَهُ نَظْرَةٌ لم يحَتَمِلْ وَقعَ سِحْرِهَا
غريبُ ابن حُجْرٍ أَو عَوِيصُ الفَرَزْدَقِ١٥
أَحَاطَ بآثار الْخَلِيلِ بْنَ أَحْمَدٍ
إِحاطَةَ فيَّاضِ البَيَانِ مُدَقِّقِ
إذا مَسَّ بالكَفِّ الجبينَ تدافَعَتْ
جُيُوشُ المعانِي فَيْلقًا إِثْرَ فَيْلَق١٦
•••
ويومًا مع الإِسكندريّ رأيته
يُجاذِبُه فَضْلَ الْحَدِيثِ المشَقَّقِ١٧
فَهَذَا يَرَى في لَفْظَةٍ غَيرَ مَا يَرى
أَخوه ويختارُ الدليلَ وَينْتَقي
فقلت: أرى ليثًا وليثًا تَجَمَّعَا
وأَشْدَقَ مِلءَ العَيْنِ يَمْشِي لأَشْدَقِ١٨
وأَعْجَبَنِي رأيٌ سَلِيمٌ وَمَنْطِقٌ
يَصُولُ على رأيٍ سليمٍ ومَنْطِقِ
وقد لوَّحتْ أيْدِيهِمَا فكأنّها
إِشاراتُ راياتِ تروحُ وتَلتَقِي
ولم أرَ في لفْظَيْهِمَا نَبْرَ عَائِبٍ
ولم أَرَ في عَيْنَيْهِمَا لَمْحَ مُحْنَقِ١٩
فقلتُ: هِيَ الفُصْحَى بِخَيرٍ وَإِنَّهَا
بأَمثالِ هَذَيْن الْحَفيَّيْنِ تَرْتَقي
•••
وَلَمْ أَنْسَ نَلِّينُو وقَدْ جَاء فَيْصَلًا
بِحُجَّةِ بَحَّاثٍ وَرَأْيِ مُحَقِّقِ٢٠
وَفِكْرٍ لهُ مِنْ فطْرَةِ الرُّومِ دِقَّةٌ
ومِنْ نَفَحاتِ العُرْبِ حُسْنُ تَأَلُّق
يُنَسِّقُ علم الأوّلين مُجاهِدًا
ولا خَيْرَ في عِلْمٍ إِذَا لَمْ يُنَسَّقِ
تَقَاسَمَهُ غَرْبٌ وشَرْقٌ فَألَّفَتْ
مَنَاقِبُهُ ما بَيْنَ غَرْبٍ ومَشْرِقِ
فَدَعْ ما يُغَطِّي الرّأس واسْمَعْه لا تجِدْ
سِوَى عَرَبِيٍّ في العُروُبَة مُعْرِقِ
إِذا صَالَ ألْقَى الرُّمحَ كُلُّ مُنَازِلٍ
وإِنْ هو دَوّى سَفّ كلُّ مُحَلِّقِ٢١
عَشقْناه وَضَّاحَ الْخَلاَئِقِ مُخْلِصًا
وَمَنْ يَكُ وضّاحَ الخلائق يُعْشَق
فَيَا مَجْمَعَ الفُصْحى عَزَاءً فَكُلُّنَا
إِلَى الشاطىء المَوْعُودِ ركّابُ زَوْرَقِ
وما عَقِمَتْ أُمُّ اللُّغَاتِ ولا خَلَتْ
خَمائِلُهَا منْ سَجْعِ كلِّ مُطَوَّقِ
هوامش
(١) الرحيق: صفوة الخمر. المشمول: البارد يقال: (غدير مشمول). هبت
عليه ريح الشمال فأبردته. المصفق: المصفى بتحويله من إناء إلى
إناء.
(٢) مدوم: دوم الطائر حلق في الهواء دون أن يحرك جناحيه. مصفق: من
صفق الطائر بجناحيه حركهما فسمع لحركتهما صوت.
(٣) أينق: جمع ناقة وجمع الجمع: أيانق.
(٤) الحدباء: النعش.
(٥) مخلق: الخلوق والخلقة ضرب من الطيب. المخلق: ما وضع عليه
الخلوق.
(٦) جد مملق: مفتقر جدًّا.
(٧) الحجا: العقل والفطنة.
(٨) التباب: القطع والإهلاك. وتبا له: دعاء عليه بالهلاك.
(٩) هدر الفنيق: ردد صوته في حنجرته. التهدار: مصدر منه. المشقشق:
البعير يخرج من فيه ما يشبه الرئة إذا هاج ويسميها العامة
(القلة).
(١٠) تنافح: تدافع. بنت الصحاري: كناية عن اللغة العربية. مشمرًا:
مجتهدًا. أسرارها: خفاياها ومعضلاتها. مغلق: مقفل.
(١١) الأعشى: هو أعشى قيس أبو بصير من فحول شعراء الجاهلية. المحلق:
لقب عبد العزى بن حنتم وكان فقيرًا خامل الذكر مدحه الأعشى بقصيدته
التي مطلعها:
فنبه ذكر المحلق وعلا شأنه، وخلد التاريخ اسمه.
أرقت وما هذا السهاد المؤرق
وما
بي من سقم وما بي تعشق
(١٢) العتاق: من الخيل. النجائب، ومفرده عتيق ككريم. الشيظميات:
واحدها شيظمي وهو الفرس الرائع بطول جسمه وقوته. ارفق: ترفق
وتلطف.
(١٣) والي: هو المرحوم حسين والي عضو المجمع اللغوي وأحد فحول العربية
في عصر النهضة. تخرج في الأزهر وزاول مهنة التدريس فيه وفي مدرسة
القضاء الشرعي، وتدرج في مناصب الأزهر السامية. ولما أنشئ المجمع
اختير عضوًا فيه وكانت مواقفه فيه خالدة، وآراؤه حكيمة، وله عدة
مؤلفات في الأدب واللغة ورسم الحروف. أشواق: جمع شوق وهو نزاع
النفس وحركة الهوى. المحرق: من حرقه باليد يحرقه بالغ في
الإحراق.
(١٤) الأوابد: الوحوش، والمراد عويصات المسائل وغرائبها مما يعز فهمه.
الموثق: المحكم المتقن.
(١٥) ابن حجر: امرؤ القيس إمام شعراء الجاهلية. عويص: من عوص الكلام
صعب، والعويص من الشعر ما صعب فهم معناه. الفرزدق: أحد فحول
الشعراء الأمويين مشهور بصلابة الشعر وغرابته.
(١٦) تدافعت: تدافعوا في الحرب: دفع بعضهم بعضًا. الفيلق:
الجيش.
(١٧) الإسكندري: هو المرحوم الأستاذ أحمد علي السكندري. حجة الأدب
العربي واللغة العربية، تلقى دروسه في الأزهر، ثم في دار العلوم،
ثم كان مدرسًا في المدارس الأميرية، فناظرًا لمدارس المعلمين
فأستاذًا بدار العلوم، فعضوًا في المجمع توفي سنة ١٩٣٨م. يجاذبه:
يجذبه حوله عن موضعه كجاذبه. والمراد هنا النقاش والمجادلة؛ لأن
كلًّا يجذب الآخر لرأيه بكلامه. جذب الشيء فضل: الفضل هنا بمعنى
الطرف. المشقق: شقق الكلام أخرجه أحسن مخرج.
(١٨) أشدق: الشدق. سعة الشدق وخطيب أشدق بليغ.
(١٩) نبر: نبر فلانًا بلسانه نال منه. لمح: لمح إليه اختلس النظر ولمح
البرق لمع. محنق: الحنق. الغيظ أو شدته.
(٢٠) نلينو: هو المستشرق الإيطالي الكبير الأستاذ نلينو ولد في تورينو
من بلاد إيطاليا سنة ١٨٧٢م. وأتقن دراسة الرياضيات والفلك والفلسفة
والفقه وتاريخ الأديان. وفد إلى القاهرة في بعثة إيطالية سنة
١٨٩٣م؛ ليتزود من علوم الشرق، ولا سيما العلوم الإسلامية ثم عاد
إلى وطنه فاشتغل مدرسًا للعلوم العربية في المعهد الشرقي بنابولي
وفي جامعة روما ثم بلرم. فأستاذًا للتاريخ الإسلامي بجامعة روما.
وألقى محاضرات هامة في الجامعة المصرية بين عامي سنة ١٩٠٩ وسنة
١٩١٣، ثم دعاه الملك فؤاد سنة ١٩٢٦م؛ ليكون أستاذًا بكلية الآداب
واختير عضوًا في المجمع كما اختير عضوًا في مجمع إيطاليا، وفي
الجمعيتين الشرقيتين الإنجليزية والألمانية. وفي مجمع دمشق العلمي.
توفي سنة ١٩٣٨م.
(٢١) دوَّى: دوى الطائر: طار في الهواء ولم يحرك جناحيه. سف الطائر:
هبط إلى الأرض.