تحِيَّة دَار الإذاعة
احتفلت دار الإذاعة في شهر أبريل سنة ١٩٣٧م بانتهاء العام الثالث من إنشائها، ودعت لذلك نخبةً من رجال العلم والأدب في مصر؛ ليذيع كل منهم كلمة في هذا الصدد، فاختصها الشاعر بهذه القصيدة وأذاعها في هذه المناسبة.
سارِي الْهَواءِ مَلَكْتَ أيَّ جَناحِ!
وحَلَلْتَ أيَّ مَشارِفٍ وَبِطاحِ!١
وبِأَيِّ ناحِيَةٍ أَقَمْتَ؟ فإِنَّني
أَلْقاكَ بَيْنَ تَوَثُّبٍ وجِماحِ
في كُلِّ مَغْدًى مِنْ ذُيُولِكَ مَسحَبٌ
وخُطاكَ ماثِلَةٌ بِكُلِّ مَراحِ٢
تَجْرِي فَتَنْتَظِمُ الْمَدَائِنَ والْقُرَى
وتَفُوتُهُنَّ إِلى مَدًى فَيَّاحِ٣
لا الْبَرْقُ يَسْرِي حَيْث سِرْتَ ولا رَمَى
نَسْرٌ إِلى ما رُمْتَهُ بِجنَاحِ٤
يَكْبُو الظَّلِيمُ، وأَيْنَ مِنْكَ عِداؤُهُ؟
ويَكِلُّ جُهْدُ الأَجْرَدِ السَّبّاحِ٥
تَمْضِي فلا تَقِف الْعَوَائِقُ حائِلًا
وتَمُرُّ بَيْنَ الصَّلْدِ والصُّفّاحِ٦
دانٍ وما عَلقتْ بِشَخْصِكَ أَعْيُنٌ
يَوْمًا، ولا مُسَّتْ يَداكَ بِراحِ٧
تَتَمايَلُ الأشْباحُ إنْ تَخْطِرْ بِها
ومِنَ السُّرورِ تَمايُلُ الأَشْباحِ٨
وتَهُزُّ أَدْواحَ الرياضِ فَتَنْثَنِي
شَوْقًا إِلَيْكَ بَواسِقُ الأَدْواحِ
لَوْلاكَ ما صَبَّ الغَمامُ عيوُنَهُ
تَسْقِي البِطاحَ بِوابِلٍ سَحّاحِ٩
لَوْلاكَ ما زَهَتِ الرُّبا بِمُرَقَّشٍ
مِنْ نَسْجِ مَنْثُورٍ وَوَشْيِ أقاحِيِ١٠
قَدَحُ الْحَيَاةِ. وَأَنْتَ أَغْلَى مَشْرَبًا
مِنْ صَفْوَةِ الْمَاذِيِّ فِي الأَقْدَاحِ١١
•••
سِرْ يا هَواءُ فَأنْتَ أَوْطَأُ مَرْكَبٍ
وَاهْتِفْ بَصَوْتِ الطَّائِرِ الصَدَّاحِ١٢
واحْرِصْ عَلَى سِحْرِ الْبَيَانِ وَوَحْيِهِ
وَارْفُقْ بآيٍ في الْقَرِيض فِصاحِ
جَمَعَتْ منَ الزَّهْرِ النَديِّ قَوافِيًا
تَسْبِي النُّهَى بِعَبِيرِها الْفَوّاحِ
دُرَرٌ صِحاحٌ لَوْ تُقاسُ بِشِبْهِهَا
لَبَدَتْ دَرارِي اللَّيْل غَيْرَ صِحاحِ١٣
ما السَّيْفُ فِي كَفِّ الْمُفَزَّعِ قَلْبُهُ
كالسَّيْفِ فِي كَفِّ الفَتَى الْجَحْجاحِ١٤
الشعْرُ مِنْ سِرِّ السَماءِ فَهمْسُهُ
وَحْيُ النُّفُوسِ وَراحَةُ الأَرْوَاحِ
كَمُلَتْ صِفَاتُ الراحِ فِي نَشَوَاتِهِ
وَنَجا فَلَمْ يُوصَمْ بإِثْمِ الراحِ١٥
•••
سِرْ يا قَرِيضُ إِلَى الْعُرُوبَةِ مُسْرِعًا
وَانْزِلْ بآفاقٍ بِها ونَواحِي
وَامْزُجْ بمِسْكِيِّ الأَثِيرِ تَحِيَّةً
لِعَشَائِرٍ شُمِّ الأُنُوفِ سِماخِ١٦
شحُّوا بِأَنْ تَلِدَ الْمَكارِمُ غَيْرَهُمْ
وَهُمُ عَلَى النَّجَداتِ غَيْرُ شِحاحِ
جَعَلُوا مِنَ الْفُصْحَى وَمِنْ آياتِها
نَسَبًا مُضِيئًا كالنهارِ الضاحِي
الضَّادُ تَجْمَعُهُمْ وَتَرْأَبُ صَدْعَهُمْ
سِيَّانِ في الأَفْراحِ وَالأَتَراحِ١٧
دارَ الإِذاعَةِ، لا تَمَلِّي إِنَّنِي
أَطْلَقْتُ لِلأَمَل الْبَعيدِ سَراحِي١٨
حُبُّ الْعُروبَةِ قَدْ جَرَى بِمفَاصِلِي
بالرَّغْمِ مِنْ هَذِرِ الْحَدِيثِ مُلاَحِي١٩
•••
دارَ الإِذاعَةِ، أَنْتِ بِنْتُ ثَلاثَةٍ
مَرَّتْ كَوَمْضِ الْبَارِقِ اللَّمَّاحِ
كَمْ فِيكِ لِلْقُرْآنِ رَنَّةُ قارِئٍ
تَحْلُو لَدَى الإِمْسَاءِ والإِصْبَاحِ
كَشَفَتْ عَنِ النفْسِ الْمَلُولِ حِجابَها
فَتَوَجَّهَتْ لِلْخَالِقِ الْفَتَّاحِ
الدِينُ سَلْوَى النفْسِ في آلامِها
وطَبِيبُها مِنْ أَدْمُعٍ وَجِراحِ
أوْدَعْتُه حُزْنيِ فَلَمْ تَعْبَثْ بِهِ
شَكْوَى ولا صَدَع الدجَى بِنُواحِ٢٠
دارَ الإِذاعَةِ، كَمْ نَشَرْتِ ثَقافَةً
جَلَّتْ مَآثِرُها عَنِ الإِفْصَاحِ!
كمْ جازَ صَوْتُك مِنْ بِحارٍ سُجِّرَتْ
وَفَدافِدٍ شُعْثِ الْفِجاجِ فِساحِ!٢١
أَصْبَحْتِ أُسْتاذَ الشُّعُوبِ وَكافَحَتْ
نَجْواكِ جَيْشَ الْجَهْلِ أَيَّ كِفاحِ٢٢
وَمَلأْتِ بِالْعِلْمِ الْبِلادَ فَنُورُهُ
فِي كُلِّ مُنْعَطَفٍ وَبُهْرَةِ ساحِ٢٣
تَتَلَقَّفُ الدنْيَا حديثَكِ مِثْلَمَا
يَتَلَقَّفُ الأَبْرَارُ وَحْيَ الْوَاحِي
•••
دَارَ الإِذاعةِ، أَنْتِ أَمْرَحُ أَيْكَةٍ
صَدَحَتْ فكانَتْ أيْكَةَ الأفْراحِ
صاحَتْ بَلابِلُكِ الْحِسانُ فَأَخْمَلتْ
فِي الْجَوِّ صَوْتَ الْبُلْبُلِ الصَيَّاحِ
مِنْ كُلِّ شادِيَةٍ كَأَنَّ حَنِينَها
هَمْسُ الْمُنَى لِلْيَائِسِ الْكَدَّاحِ
اللَّيْلُ إِنْ نادَتْهُ ماسَ بِعِطْفِهِ
فَتَرَاهُ بَيْنَ الْمُنْتَشِي والصَاحِي
كَمْ فِيك مِنْ لَهْوٍ بهِ رِيُّ النُّهَى
وفُكاهَةٍ مَحبُوبَةٍ ومُزاحِ!٢٤
النفْسُ تَسْأَمُ إِنْ تَطاوَلَ جِدُّها
فَاكْشِفْ سَآمَةَ جِدِّها بِمُباحِ
•••
زُمَرَ الشَبابِ، وَلِي مُلامَةُ ناصِحٍ
لَوْ تَسْمَعُونَ نَصِيحَةَ النُصَّاحِ!
بِالْعِلْمِ «مَرْكُونِي» تَسَلَّقَ لِلْعُلاَ
وَبعَزْمَةِ الْوَثّابَةِ الطمّاحِ!٢٥
رَجُلٌ عِصامِيُّ الأَرُومَةِ لَمْ يَنَلْ
مَجدًا «بآمُونٍ» ولا «بِفِتاحِ»٢٦
تَتَطَلعُ الدنْيا إِلَيْهِ وتَمْتَطِي
ذِكْرَى مَآثِرِهِ مُتُونَ رِياحِ
إِنَّ التفَاخُرَ بِالْقَدِيمِ تَعِلَّةٌ
وَالْجَهْلُ لِلْمَجْدِ الْمُؤَثَّلِ ماحِي٢٧
والْعِلْمُ مِصْباحُ الْحَياةِ فَنَقِّبُوا
مِنْ قَبْلِ أَنْ تَثِبُوا عَنِ الْمِصْباحِ
بَلِيَ السِلاحُ مَعَ الْقَدِيمِ وَعَهْدِهِ
والآنَ صارَ الْعِلْمُ خَيْرَ سِلاحِ٢٨
الْيَوْمَ فِكْرَةُ عالِمٍ في مَصْنَعٍ
تُغْنِي عَنِ الأَسْيافِ وَالأَرْماحِ
وَتَصُدُّ كُلَّ كَتِيبَةٍ مَوَّارَةٍ
خَضْرَاءَ تَفْذِفُ بِالْكُماةِ رَدَاحِ٢٩
أَمْضُوا الْجُهُودَ وأخْلِصُوا لِبلادِكُمْ
فِي الْجَهْدِ وَالإِخْلاصِ كلُّ نَجاح
لاَ يُرْتَجَى مِنْ أُمَّةٍ مَفْتُونَةٍ
بِاللَّهْوِ والتسْوِيفِ أَيُّ فَلاحِ
خُوضُوا الصعابَ ولا تَملُّوا إنَّما
نَيْلُ الْمُنَى بالصبْرِ وَالإِلْحَاحِ
قَدْ يُنْجِدُ اللُّجُّ الْغَرِيقَ بِقَذْفِهِ
حَيًّا فَيَلْقَى الْمَوْتَ فِي الضَّحْضَاحِ٣٠
الْعَهْدُ مِثْلُكُمُ جَدِيدٌ مُشْرِقٌ
فَهَلُمَّ لِلإِنْتَاجِ وَالإِصْلاحِ
وَمَلِيكُكُمْ مَثَلُ الشبابِ مُجمَّلٌ
بِخلائِقٍ غُرِّ الْوُجُوهِ صِباحِ٣١
يَتَفاءَلُ النيلُ الْوَفِيُّ بِعَهْدِهِ
وَبِيُمْنِ طَلْعَةِ وَجْهِهِ الْوَضّاحِ
سارَتْ مَحَامِدُهُ وسارَتْ خَلْفَها
تَشْدُو بِسابِغِ فَضْلِهِ أَمْداحِي
هوامش
(١) الساري: السائر في الليل، ولما كان الهواء من الأجسام اللطيفة
حسن وصفه بالسري، والمراد أن لطفه يخفيه كما يخفي الليل السائر
فيه. المشارف: أعالي الأرض، واحدها مشرف. البطاح: جمع أبطح وهو
مسيل واسع فيه دقاق الحصى.
(٢) المغدى: اسم مكان من الغد وهو السير في أول النهار. المسحب: مصدر
ميمي من سحبه كمنعه، جره على وجه الأرض. المراح: اسم مكان من
الرواح وهو السير في العشي. الرواح: الذهاب والرجوع.
(٣) المدى: الغاية. فياح: عظيم الاتساع.
(٤) يسري: يسير ليلًا. رمته: طلبته.
(٥) يكبو: ينكب على وجهه. الظليم: الذكر من النعام يُضرب بسرعة عدوه
المثل. العداء: العدو والجري. يكل: يُعيي ويعجز. الأجرد: الفرس
السباق. السباح: الفرس السريع كأنما يسبح بيديه.
(٦) العوائق: الموانع. الحائل: الحاجز. الصلد: الصلب الأملس من
الحجارة. الصفاح: كرمان. ما كان منها عريضًا رقيقًا.
(٧) دان: قريب. علقت: نشبت واستمسكت. الراح: جمع راحة وهي بطن
الكف.
(٨) الأشباح: جمع شبح وهو الشخص.
(٩) في هذا البيت إشارة إلى معنى الآية الكريمة: اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا
فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ
كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ
خِلَالِهِ.
(١٠) المرقش: المزخرف المزوق. الأقاحي: جمع أقحوان وهو البابونج من
نبات الربيع له نور حواليه ورق أبيض ووسطه أصفر.
(١١) صفوة الشيء: خالصه. الماذي: العسل الأبيض.
(١٢) مركب وطيء: لين سهل ذلول. الصداح: الذي يرفع صوته بالغناء، ويريد
بالشاعر بالطائر الصداح نفسه.
(١٣) الدرر: جمع درة وهي اللؤلؤة العظيمة. دراري الليل: كواكبه
المضيئة وأحدهما دُري.
(١٤) المفزع: اسم مفعول من فزعته ففزع أي: خاف. الجحجاح: السيد الماجد
الشريف الشجاع.
(١٥) الراح: الخمر. النشوات: جمع نشوة وهي السكر. يوصم: يعاب. الإثم:
الذنب.
(١٦) المسكي: نسبة إلى المسك وهو أفضل أنواع الطيب عند العرب. الأثير:
مادة لطيفة جدًّا منتشرة في أنحاء الفضاء تنقل النور والحرارة
الكهربية والصوت. العشائر: جمع عشيرة وهي القبيلة. شم الأنوف: جمع
أشم الأنف، صفة من الشمم وهو ارتفاع قصبة الأنف وحسنها واستواء
أعلاها، وذلك كناية عن الأنفة والترفع عن الدنايا، على أن الشمم من
صفات العرب الخلقية. سماح: جمع سمح وهو الجواد المعطاء.
(١٧) يريد بالضاد لغةً العرب. ترأب: تصلح وتجبر. الصدع: الشق.
الأتراح: جمع ترح وهو ضد الفرح.
(١٨) السراح: الحرية.
(١٩) هذر كلامه: من باب فرح أي كثر في الخطأ والباطل. الملاحي:
المنازع.
(٢٠) صدع: شق. الدجى: جمع دجية وهي الظلمة.
(٢١) جاز المكان: سلكه وسار فيه. سجرت: فجرت وامتلأت. الفدافد: جمع
فدفد وهو الفلاة. شعث: جمع أشعث من الشعث وهو الانتشار والتفرق.
الفجاج: جمع فج وهو الطريق الواسع الواضح بين الجبلين. الفساح: جمع
فسيح أي: متسع.
(٢٢) كافحت: واجهت وحاربت. النجوى: السر.
(٢٣) منعطف الوادي: حيث ينعطف أي: ينثني ويميل. البهرة: ما اتسع من
الأرض. الساح: جمع ساحة وهي الناحية وفضاء بين دور الحي.
(٢٤) روى من الماء روى وريا أي: ارتوى. النهى: جمع نهية وهي
العقل.
(٢٥) المركيز «ماركوني» عالم إيطالي اخترع بعبقريته أجهزة الإذاعة
اللاسلكية، وطوق العالم كله بمأثرة خالدة ومنة من أجل المنن. توفي
في يوليو سنة ١٩٣٧م، ودفن حيث ولد في «بولونيا» من بلاد إيطاليا في
شمالها الشرقي.
(٢٦) العصامي: الشريف النفس المعتمد على همته في كسب المجد وبلوغ
الأمل. الأرومة: الأصل. المجد: العز والشرف. و«أمون» و«فتاح» إلهان
من آلهة قدماء المصريين.
(٢٧) التعلة: ما يتعلل به. المؤثل: الأصيل العظيم.
(٢٨) بلي الثوب: خلق وتمزق. العهد: الزمان.
(٢٩) موَّارة: سريعة مضطربة لكثرة عددها. خضراء: عظيمة كثيرة السلاح.
الكماة: جمع كمي وهو الشجاع المدجج أي: شاكي السلاح. الرداح:
الكتيبة الثقيلة الجرارة.
(٣٠) ينجد: يعين. اللج: معظم الماء. الضحضاح: الماء اليسير
القليل.
(٣١) الخلائق: جمع خليقة وهي الطبيعة والخلق. غر: جمع أغر وهو الأبيض.
صباح: جمع صبيح وهو الجميل.