مصر تعزي العراق
أنشد الشاعر هذه القصيدة مندوبًا عن مصر في حفل تأبين الملك غازي ملك العراق، وكان الحفل يجمع قادة العرب وشعراء البلاد العربية سنة ١٩٣٩م.
بكَيْنا النُّضارَ الْحُرّ والحسَبَ العِدَّا
بكَيْنا، فما أغنَى البكاءُ ولا أجدَى١
بكيْنَا لعلَّ الدمعَ يُطفئ حُرْقةً
من الشوقِ، فازدادت بِتَذْرافِه وقْدا٢
حُشاشةُ نفسٍ صُوِّرتْ في مدامعٍ
وجَذْوةُ نارٍ في الْحَشا سُمِّيتْ وجدا٣
ولوعةُ مكلوم الفؤادِ وسادُه
يحنُّ له قُربًا. فيوُسِعُه صدّا٤
يُقلِّبُ طَرْفًا في الظلامِ من الأسى
ويُرسلُ في الآفاق أنفاسَه صهْدا٥
بكَيْنا وما تبكي الرجالُ، وإنما
يعودُ الفتى للطبعِ إن لم يجد بُدّا٦
هو القَدَرُ الماضي إذا انساب سهمُه
فلن يستطيعَ العالَمون له ردّا
هو الدهرُ، ما بضَّتْ بخيرٍ يمينُه
يُجمِّعنا سهوًا، وينثُرنا عمدا٧
يُجرِّدُ سيفًا في الظلامِ من الردَى
ويخبطُ لا يُبقي مليكًا ولا عبدا!
•••
مصابٌ أصاب الهاشميةَ سهمُه
وهدَّ من العلياء أركانَها هدَّا٨
وغال شبابَ المُلكِ في عُنْفُوانِه
وأطفأ نُور الشمسِ واخترم المجدا٩
وطار بأحلامٍ، وفرَّق أنفسًا
شَعاعًا، تَرى نُورَ السبِيل وما تُهْدَى١٠
حُشُودٌ على الآلامِ والحزن تلتقي
يقاسمُ حَشْدٌ في رَزيئتهِ حشدا١١
ففي كلِّ قلبٍ مأتَمٌ ومَناحةٌ
وفي كلِّ دارٍ أنَّةٌ تصدَعُ الصلْدا١٢
وفي كلِّ أرض للعرُوبةِ صيحةٌ
إذا ردَّدتها أبكتِ التركَ والهندا
•••
فقدناه ريَّانَ الشبابِ تضوَّعت
شمائلُه مِسكًا وآثارُه نَدّا١٣
فقدناه والأحْداثُ تَغْشَى غُيُومُها
وتنتظمُ الآفاق عابسةً رُبْدا١٤
فقدناه والآمالُ تومي بإصْبَعٍ
إليه، وتمتدُّ العُيونُ له مَدّا١٥
فقدناه أزهَى ما نكونُ بمثله
وأعلَى به كعبًا وأقَوى به زَنْدا١٦
فقدناه سيفًا هاشميًّا. إذا سطت
سيوفُ الليالي كان أرهفَها حدّا
حُسامٌ بكفِّ اللهِ كان صِيالُه
فأصبحتِ الأرضُ الطهورُ له غِمدا١٧
ورُوحٌ سَرَى السارون في نورِ هَدْيه
فلم يُخْطِئوا للمجدِ نَهْجًا ولا قصدا١٨
أطلَّ عليهم من بعيدٍ فشمَّروا
إلى قِمَّةِ الدنيا غَطارِفةً جُردا١٩
إذا بعُدت آمالُهم فتردَّدوا
دعاهم إلى الإقدامِ، فاستقربوا البعدا
يقودُهمُ «الغازي» إلى خير غايةٍ
فأكْرِمْ به مَلكًا وأكْرِمْ بهم جُندا
نسورٌ إذا طاروا ليومِ كريهةٍ
وإن بطشوا يوم الوغى بطشوا أُسْدا
سَلِ السيفَ عنهم كيف صال بِكفِّهم
شُيوخًا لهم قلبُ الجلامِيد أو مُرْدا٢٠
كأَنَّ غبارَ النصر في لَهَواتِهم
سُلافٌ من الفِرْدوسِ مازجتِ الشّهدا٢١
أولئك أبناءُ الفُتوح التي زها
بها الدين، واجتاح الممالكَ وامتدّا
لهم في سِجلِّ المجد أوَّلُ صفحةٍ
كفاتحةِ القرآنِ قد مُلِئت حمدا٢٢
ومَن كتب النصرَ المبينَ بسيفِه
على جَبْهةِ الدنيا، فقد كتب الْخُلْدا
•••
حمامةَ وادي الرافدْينِ ترفَّقي
بعثتِ الجوىَ. ماكان منه وما جَدّا٢٣
حنانَكِ، إنّ الصبرَ من زينةِ الفتى
إذا غاص في ظلمائِه الأمرُ واشتدّا
طرحنا رداءَ اليأسِ عنَّا بَوَاسلًا
وإنْ هزّنا يومُ العِراقِ وَإِنْ أدّا٢٤
حمامةَ وادي الرافدينِ ابعثي الهَوى
حنينًا. فما أحلى الحنينَ وَما أشْدَى
ففي النيل أرواحٌ ترِفُّ خوافقٌ
تقاسمُكِ التاريخَ والدينَ والوُدّا٢٥
ظِماءٌ إلى ماءٍ بدِجْلةَ سَلْسَلٍ
تودُّ بنور العين لو رأتِ الوِردا٢٦
إذا مسّتِ البأْساءُ أذْيالَ دِجلةٍ
قرأتَ الأسَى في صفحةِ النيل وَالكَمْدا٢٧
وإن طُرِفتْ عينٌ ببغدادَ من قذًى
رأيتَ بمصرٍ أعينًا مُلئِتْ سُهدا٢٨
إخاءٌ على الفصحَى توثَّق عَقْدُه
وشُدَّت على الإيمانِ أطرافُه شدّا
لنا في صميمِ المجد خيرُ أبوّةٍ
زُهينا بها أصلًا. وتاهت بنا وُلْدَا٢٩
•••
مضَى الهاشميُّ السَّمْحُ زَيْنُ شبابهِ
وأعرقُهم خالًا وَأكرمُهم جدَّا
أطلّت شُموسُ الدينِ من حُجُراتِهم
على الكون، لا وهْدًا تركن وَلا نجدا٣٠
خططنا له لحدًا فضاق بنفسِهِ
وَإِنّ له في كل جانحةٍ لحدا٣١
فتى تنبُتُ الآمالُ من غيثِ كفِّه
فلله ما أوْلَى وَللّه ما أسْدَى٣٢
•••
أتينا إلى بغدادَ والقلبُ واجفٌ
يهُزُّ جَناحًا لا يقَرُّ ولا يَهْدَا
تُطوِّحنا الصحراءُ ليس بعيدُها
بدانٍ وَلم نعرِف لآخرِها حدّا٣٣
كأنّ الرمالَ الْجاثماتِ بأرضِها
جِمالٌ أناختْ لا تُساقُ ولا تُحدَى٣٤
عددنا بها الساعاتِ حتى تركننا
وقد سئِمتْ منها أصابعُنا عَدّا
أتينا نؤَدِّي للعرُوبةِ حقَّها
يسابقُ وَفْدٌ في تلهُّفِه وَفدا
يُحمِّلنا النيلُ الوفيُّ تحيةً
وَيُهدي من الآمالِ أكرمَ ما يُهدى
عزاءً، مضى «الغازي» كريمًا لربِّه
فما أعظمَ الْجُلَّى، وَما أفدحَ الفقدا٣٥
عزاءً، ففينا فيصلٌ شِبْلُ فيصلٍ
نرَى في ثنايا وَجهِه الأسدَ الورْدا٣٦
له في اسمه أوفَى اتصالٍ بجدِّه
فيا حسنَه فأْلًا، ويا صدقَه وعدا٣٧
بدا نجمُه في الشرقِ يُمْنًا ورحمةً
وأشرق في الأيامِ طالعُه سعدا
عهِدتم إلى «عبد الإله» وإنه
لأكرمُ من يرعَى القرابةَ والعهدا٣٨
إذا رنتِ الآمالُ كان ثِمالَها
وإنْ حارتِ الآراءُ كان لها رُشْدا٣٩
سلامٌ على الغازي سلامٌ على الندى
إذا مابكَى من بعدهِ التِّرْبَ والندَّا٤٠
هوامش
(١) النضار الحر: الذهب الخالص. العدا: القديم.
(٢) وقدا: اشتعالا.
(٣) حشاشة: بقية الروح. جذوة: شعلة. الحشا: البطن. وجدا:
شوقا.
(٤) لوعة: حرقة. مكتوم الفؤاد: مجروح القلب.
(٥) صهدا: بها حرارة النار.
(٦) الطبع: السجية التي جبل عليها.
(٧) ما بضت: ما أتت. ينثرنا: يفرقنا.
(٨) الهاشمية: الأسرة الهاشمية الذي ينتمي إليها الملك غازي.
(٩) غال: اغتال وأمات. اخترم: استأصل.
(١٠) شعاعًا: متفرقًا كشعاع الضوء. نور السبيل: نور الطريق. وما تهدى:
وما ترشد.
(١١) رزيئته: مصيبته.
(١٢) مناحة: حزن وبكاء. أنة: أنين. تصدع: تشق. الصلدا: الصخر
القوي.
(١٣) ريان الشباب: الريان ضد العطشان والمقصود هنا الشباب الكامل.
تضوعت: انتشرت. ندًّا: طيبًا.
(١٤) تغشى: تغطي. غيومها: سحبها المظلمة. ربدا: مغبرة.
(١٥) تومي: تشير إلى.
(١٦) أزهى: مفتخرين به. أعلى به كعبًا: أعلى به شرفًا ومجدا. زندًا:
قوةً وبطشًا.
(١٧) صياله: تحركه ووثوبه. غمدًا: غمد السيف جرابه والمقصود
مقر.
(١٨) نهجًا: طريقًا. قصدا: مقصدا.
(١٩) شمروا: استعدوا. غطارفة: جمع غطريف وهو السيد الكريم. والجرد:
الخفاف السراع في الأمور.
(٢٠) الجلاميد: الصخر الأصم. مردا: صغار السن لم ينبت الشعر بعد في
وجوههم.
(٢١) سلاف: الخمر. الشهدا: العسل.
(٢٢) فاتحة القرآن: فاتحة الكتاب سورة الفاتحة.
(٢٣) الرافدين هما نهرا دجلة والفرات والمقصود العراق. الجوى: الحرقة
وشدة الوجد.
(٢٤) طرحنا: تركنا بعيدًا، رمينا. بواسلًا: شجعان. يوم العراق: يوم
وفاة ملك العراق. أدا: أده الأمر، دهاه وعظم عليه.
(٢٥) النيل: كناية عن مصر.
(٢٦) سلسل: عذب. الوردا: المنبع.
(٢٧) أذيال: أطراف. الكمدا: الحزن المكتوم.
(٢٨) قذى: مرض بالعين. سهدا: سهرا.
(٢٩) تاهت بنا: افتخرت بنا.
(٣٠) وهدًا: المكان المنخفض. نجدا: ما ارتفع من الأرض.
(٣١) لحدًا: قبرًا. جانحة: الأضلاع.
(٣٢) ما أولى: ما أنعم. ما أسدى: ما أعطى.
(٣٣) تطوحنا: تبعدنا. بدان: قريب.
(٣٤) أناخت: بركت. لا تحدى: لا يغنى لها لتساق أي: لا تسير.
(٣٥) الجلَّى: الخطب والأمر الشديد.
(٣٦) فيصل: الملك فيصل ابن الملك غازي. الوردا: الجريء الشجاع.
(٣٧) بحده: الأمير فيصل الكبير أبو الملك غازي. فألًا: بشرى
بالخير.
(٣٨) عبد الإله: الوصي على العرش وولي العهد وهو ابن عم فيصل الصغير
ملك العراق.
(٣٩) ثمالها: غياثها وملجؤها.
(٤٠) الترب: الصديق ومن ولد معه. والندا: المثل والنظير.