أفراح مصر
أنشدت هذه القصيدة بدار الأوبرا في حشد اجتمع للاحتفال بزواج الأميرة السابقة فوزية من شاه إيران السابق في سنة ١٩٣٩م.
خَلُّوا السجُوفَ تُذِعْ مَجْلَى مُحَيّاها
وتَنْشُرُ المسكَ من أنفاسِ رَيّاها١
عقيلةٌ في جلال المُلْكِ ناعمةٌ
النبلُ يحرُسُها واللَّه يَرْعاها٢
ودُرَّةٌ لم تَرَ الأصدافُ مُشْبههَا
بينَ الكُنوز الغَوالي من خباياها
وزهرةٌ ما رأى النيل الوفي لها
بين الأزاهر في واديه أشباها
ترنو إليها نجومُ الأفْقِ مُعْجَبَةً
تَوَدُّ لو قَبَسَتْ من نورِ مرْآها٣
كأنَّما قَطَراتُ المزْنِ صافيةً
فوقَ الخمائِل طُهْرٌ في سجاياها٤
•••
أميرةَ النيلِ، والأيامُ مُسْعِدة
بلغتِ من ذرْوةِ العلياءِ أقصاهَا٥
إنْ يسطَعِ الصبح قلنا: الصبح أشبههَا
أو يسطع المسكُ قُلنا: المسكُ حاكاها٦
مجدٌ تمنَّتْ سماءُ الأفْقِ لو ظَفِرتْ
بلمحةٍ من ثُرَيَّاه ثُريَّاهَا٧
ونفسُ طاهرةِ الجدَّينِ يَسَّرَها
ربُّ البَريَّةِ للحُسنَى وزَكَّاها٨
اليُسْرُ يختالُ تيهًا حَوْلَ يُسْراها
واليُمْنُ يجري يمينًا حَوْلَ يُمناها
نَمَتْ بظلِّ فؤادٍ خيرِ مَنْ وَجَدَتْ
بظِله زُمرُ الآمالِ مَثْواها٩
أحيتْ له مصرُ ذِكْرًا خُطَّ من ذَهَبٍ
على جَبينِ الليالي حينَ أَحْياها١٠
وكان عنْوانَها الغالي الذي اتجَهَتْ
إليه باسطةَ الأيديِ فأعلاها
•••
أميرةَ النيلِ، غَنَّى الشعْرُ من طَرَبٍ
في ليلةٍ غَنَّتِ الدنيا بِبُشْراها
طافْت كُئوسُ التهانِي وهي مُتْرَعَةٌ
من المُنَى فانتشينا من حُمَيَّاها١١
تجمّعَ الأنسُ حتى لم يَدَعْ أملًا
للنفسِ تَبْعَثُ شوقًا خَلْفَه: واها١٢
في ليلةٍ من سوادِ العينِ قد خُلِقَتْ
جَلَّ الذي من سوادِ العينِ جَلَّاها!١٣
يخالها الفجر فجرًا حين يَطْرُقُها
فيختفي من حَياءٍ في ثناياها١٤
كأنّها بَسَماتُ الغِيدِ قد ملأَتْ
بالحبِّ والبِشْرِ أحداقًا وأفواها١٥
كانت يدًا من أيادي الدهر أرسلها
بيضاءَ مُشْرِقةَ النُّعْمَى وأسْداها١٦
هنا زِفافٌ، وفي الأفْلاكِ هاتفةٌ
من الملائِك تدعو ربَّها الله١٧
لها أناشيدُ في الأسماعِ ساحرةٌ
لو كنَّ من لُغَةِ الدنيا رَوَيْناهَا١٨
لكنها نفَحاتُ اللهِ خَصَّ بها
من البرِيَّة أنْقاها وأصْفاها
«فوزيةٌ» دُرّةُ التاجِ التي لمعتْ
فوقَ الجبينِ فحيَّتْه وحيّاها
شعُوب مصْرَ تُفدِّيها ولو نطقت
للنيلِ ألسنةٌ فُصْحٌ لفدّاها
•••
أميرةَ النيلِ، غَنّى الشعرُ من طَرَبٍ
لولا قِرانُك ما غَنّى ولا فاها١٩
إنّي وألحانَ شعري صُنْعُ بيتِكُمُ
فكم من الفضلِ أولاني وأولاها!
لولا مدائحُكم ما كان لي قَلَمٌ
يومًا على الأيْكِ وابن الأيك تيَّاها٢٠
تَأَلّقي بَسْمةً زَهْراءَ مُشْرِقَةً
بأرضِ إيرانَ، أنتِ اليومَ دُنياها
كوني بها قُرّةً للعينِ غاليةً
فأنتِ أكرمُ من لاقتْه عَيناها
ومثِّلي مصرَ والشَأوَ الذي بلغَتْ
فأنتِ أصْدَقُ بُرهانٍ لدعَوْاها٢١
•••
لقد قطفنا لكِ الأزهارَ باسمةً
وفي عقودٍ من الفصْحَى نظمناها
وقد جمعنا من الألحانِ أُغْنِيةً
لو يفهمُ الطيرُ معناها لغَنَّاها
ولم نَدعْ من رموزِ السحْر سانحةً
طافت بمعنى العُلا إلاّ لمحناها٢٢
قد ذكّرَتْنا لياليكِ التي سَطَعَتْ
أفراحَ «قَطْرِ النَّدَى» والعزَّ والجاها٢٣
عُرْسُ الأمانِّي أحيا كلَّ ذي أملٍ
وطافَ بالغُلَّةِ الظَمْأَى فروَّاهَا٢٤
وليلةٌ ظَفِرَ الشَّعْبُ الوَفيُّ بها
وكم على الدهرِ مَشْغُوفًا تمنَّاها
في كلِّ بيتٍ أغاريدٌ مُرَدَّدَةٌ
سَرَتْ فجاوز نجْمُ الليل مَسْراها٢٥
وكلُّ روضٍ يُرْجِّي لو سعتْ قَدَمٌ
به ليُهْدِي من الأزهارِ أزْكَاها٢٦
وكم تمنّى الربيعُ النَّضْرُ لو سَعِدَتْ
بحلَّةِ العُرْسِ كَفّاهُ فَوَشّاها٢٧
البِشْرُ يضحكُ. والدنيا مُصَفِّقةٌ
يهتَزُّ من نَشْوة الأفراحِ عِطْفاها٢٨
•••
يا ابن الأماجِد من إيرانَ نلتَ يَدًا
أصفى من الكوكب الدُرِّيِّ أمْواها٢٩
بَنَيتمُ الملكَ فوقَ الشمسِ من هِمَمٍ
شمّاءَ مَنْ خَلَقَ الأطوادَ أرْساها٣٠
لم يَتَّخِذْ من مَنارٍ يستضيءُ به
لدَى الشدائدِ إلَّا العَزْمَ والشاها٣١
جلالةٌ كم تَغَنّى البُحتُريُّ بها
وكم تَرَنَّمَ مِهْيارٌ بِذكْراها!٣٢
ودولةٌ للعُلا والسبقِ حاضِرُها
وللخلودِ وللإبداعِ أولاها
لنا صِلاتٌ قديماتٌ مُحَبَّبةٌ
لخدمَة الدينِ والفُصْحَى عقدناها
ثقافةُ الفُرْسِ قد كانت ثقافَتَنا
في كلِّ ناحيةٍ عنهم أخذناها
تأَلّقَتْ في بني العباسِ آونةً
ما كانَ في أعْصُرِ التاريخِ أزْهاها٣٣
•••
فاروقُ كم لكَ عندَ النيلِ من مِنَنٍ
كصفحةِ الشمسِ بيضٍ ليس ينسَاها٣٤
وصلْتَ مِصْرَ بإيرانٍ كما اتصلتْ
فرائدُ العِقْد أغلاها بأغلاها٣٥
مصرُ المَجيدةُ تُزْهَى في حِمَى ملكٍ
لولاه لم تُشْرِق الدنيا ولولاها٣٦
سعَى إلى المجد نهّاضًا فأنهضها
للّهِ والحقِّ مَسْعاه ومسعاها!
في كلِّ نفسٍ له ذِكْرَى مُخّلدةٌ
وصورةٌ من جلالٍ في حناياها٣٧
شمائلُ السلَفِ الأطهار شِيمتُهُ
لمّا تجلَّت بفاروقٍ عَرفناها٣٨
سَجيَّةٌ من فؤادٍ فيه قد رَسَخَتْ
إذا دعتْ للعُلا والمجد لبّاها٣٩
في ساحةِ الجيش حَيَّتْه فوارسُه
وفي المساجِد حَيَّاه مُصلَّاها٤٠
له أيادٍ على الأيامِ سابغةٌ
في كلِّ جيدٍ من الأيام نُعْماها٤١
•••
يا أُسْرَةَ المُلْكِ صاغَ الشعْرُ تهنئةً
من حبَّةِ القلب معناها ومبناها
أهدَى الوفاءَ جميلًا حِين أرسلها
وأرسل الوُدّ مَحْضًا حين أهداها
لا زال مُلْكُكُمُ جَمًّا بشائرُه
ونال من بَسَماتِ الدّهرِ أسْناها!٤٢
وعاش للنيلِ ربُّ النيلِ سَيِّدُه
وللرعيَّةِ والآمالِ مولاها
هوامش
(١) خلوا: دعوا. السجوف: جمع سجف وهو الشيء بينه وبين ستر آخر فرجة.
تذع: تنشر. مجلى: حسن. محياها: وجهها وطلعتها. رياها: ما ترتوي
به.
(٢) عقيلة: كريمة الملك.
(٣) قبست: أخذت. مرآها: رؤيتها.
(٤) قطرات المزن: السحاب الأبيض والمقصود المطر. سجاياها: خلقها
وطبيعتها الطيبة.
(٥) ذروة: أعلا الشيء. أقصاها: أبعدها.
(٦) المسك: الطيب.
(٧) لمحة: نظرة عاجلة. ثرياه: النجم والمقصود هنا من نورها.
(٨) يسرها: وفقها. زكاها: مدحها.
(٩) فؤاد: والدها الملك فؤاد. زمر: جماعة. مثواها: مكانها.
(١٠) جبين: الجبهة.
(١١) مترعة: مملوءة. حمياها: أولها.
(١٢) واها: للتعجب بمعنى ما أطيبه.
(١٣) جلاها: أظهرها.
(١٤) يطرقها: يأتيها.
(١٥) أحداقًا: سواد العين. أفواهًا: الفم.
(١٦) مشرقة النعمى: مضيئة النعم ظاهرة. أسداها: أنعم بها.
(١٧) الأفلاك: مدار النجوم.
(١٨) رويناها: حكيناها.
(١٩) ولا فاها: ولا تفوه بها.
(٢٠) الأيك: الحديقة ذات الشجر الكثيف. الملتف الأغصان. ابن الأيك:
الطائر المغرد. تياهًا: مفتخرًا مزهوًّا.
(٢١) الشأو: السبق والغاية. لدعواها: لما تدعيه.
(٢٢) سانحة: عارضة.
(٢٣) قطر الندى: الأميرة قطر الندى بنت خمارويه حاكم مصر تزوجت
الخليفة العباسي، ويضرب المثل بفرحها في عظمته وبذخه.
(٢٤) الغلة: حرارة العطش. رواها: أسكن ظمأها بالماء.
(٢٥) مسراها: سيرها ليلًا.
(٢٦) يرجى: يأمل.
(٢٧) وشاها: لونها.
(٢٨) عطفاها: جانباها.
(٢٩) الكوكب الدري: النجم الثاقب المضيء.
(٣٠) شماء: عالية. الأطواد: الجبال العالية. أرساها: ثبتها.
(٣١) الشاها: لقب ملوك الفرس.
(٣٢) البحتري: الشاعر العباسي الشهير وقد مدحهم بقصائد خلدتهم مثل
قصيدته السينية المشهورة. ترنم: تغنى. مهيار: مهيار الديلمي الشاعر
الفارسي الذي كثيرًا ما أشاد بمدينة الفرس.
(٣٣) آونة: حينًا من الزمن.
(٣٤) منن: عطايا وهبات.
(٣٥) فرائد العقد: الدرر الكبار لا مثيل لها التي نظمت في
العقد.
(٣٦) حمى: كنف.
(٣٧) حناياها: عطفها.
(٣٨) السلف: المتقدمون السابقون. شيمته: صفاته الطيبة.
(٣٩) سجية: خلق وطبع. لباها: أجابها.
(٤٠) مصلاها: المصلُّون.
(٤١) سابغة: كاملة وافية.
(٤٢) أسناها: أرفعها وأشرفها.