الحَربُ
حينما شبت نار الحرب العالمية الأولى، وشاعت الأخبار بوصف ويلاتها وأرزائها، واقترب الألمان من باريس في أول الأمر ثارت شاعرية الشاعر، واشتدت آلامه لما يصيب الإنسانية في سبيل أطماعها، فأنشأ هذه القصيدة في سنة ١٩١٤م.
مَنْ سَلَبَ الأعْيُنَ أنْ تَهْجَعَا؟
وبَزَّ ذَاتَ الطَّوْقِ أنْ تَسْجَعَا؟١
ومَنْ رَمَى بالشوْكِ في مَضْجَعِي
فَبِتُّ مَكْلُومَ الْحَشَا مُوجَعَا؟٢
رَوَّعَنِي واللَّيْلُ في زِيِّهِ
مِنْ مُرْجِفاتِ الْخَطْبِ ما رَوَّعَا!٣
طاحَتْ بِأَهْلِ الْغَرْبِ نارُ الْوَغَى
وهَبَّت الريحُ بِهِمْ زَعْزَعا٤
طافَ عَلَيْهِمْ بالردَى طائِفٌ
فَاخْتَرَمَ الأَنْفُسَ لَمَّا سَعَى٥
وصاحَ فيهِمْ لِلتَّوَى صائِحٌ
فَصَمَّتِ الأَسْماعُ مُذْ أَسْمَعا٦
في الْبَرِّ، في الْبَحْر، ومِنْ فَوْقِهِمْ
لم يَتْرُكِ الْمَوْتُ لَهُمْ مَوْضِعا
يَجْمَعُهُمْ جَبَّارُهُمْ عَنْوَةً
وإِنَّما لِلْمَوْتِ مَنْ جَمَّعا!٧
يَحْسُو دَمَ القَتْلَى، فَأَظْمِئ بِهِ
ويَنْهَشُ اللَّحْمَ، فما أَجْشَعَا!٨
لم يَكْفِهِ رُمْحٌ ولا مُرْهَفٌ
فاتَّخَذَ المنطادَ والْمِدْفَعا
وَخَبَّ فِيها راكِبًا رَأْسَهُ
لِلشرِّ ما خَبَّ وما أَوْضَعا٩
قَدْ غَصَّتِ الأرْضُ بأشْلاَئِهِمْ
وأصْبَحَ الْبَحْرُ بِهَا مُتْرَعَا١٠
وآن لِلْعِقْبَانِ أَنْ تَكْتَفي
وآنَ لِلْحِيتَان أنْ تَشْبَعَا١١
صَوَاعِقُ الْمُنْطَادِ لا تُتَّقَى
وصَوْلَةُ الْأَلْغامِ لَنْ تُدْفَعَا
أُطْلِقَ عَزْرائِيلُ مِنْ قِدِّهِ
يَرْتَعُ أنّى شاء أَنْ يَرْتَعَا١٢
تُطْرِبُهُ الْحَرْبُ بأَزْجالِها
ويَسْتَبِيه السَّيْفُ إِنْ قَعْقَعَا١٣
كأنَّما في صَدْرِهِمْ غُلَّةٌ
أَبَتْ بِغَيْرِ الْمَوْتِ أَنْ تُنْقَعَا١٤
كأَنَّهُمْ سِرْبُ قَطًا عُطَّشٍ
صَادَفْنَ مِنْ وِرْدِ الرَّدَى مَشْرَعَا١٥
كَأَنَّهُمْ والنَّارُ مِنْ حَوْلِهِمْ
جِنٌّ تَأَلَّوْا أنْ يَبِيدُوا مَعَا١٦
صارُوا مِنَ الْعِثْيَرِ في ظُلْمَةٍ
لا تُبْصِرُ الْعَيْنُ بِهَا الإِصْبَعَا١٧
•••
كَمْ فارِسٍ يَمْرَحُ في سَرْجِهِ
يَهْتَزُّ كَالْغُصْنِ وقَدْ أَيْنَعَا
كَأَنَّهُ الصَّمْصَامُ إذْ يُنْتَضَى
وعامِلُ الرُّمْحِ إِذا أُشْرِعَا١٨
ما ضَنَّ بالرِّفْدِ على وَافِدٍ
ولا لَوَى حَقًّا ولا ضَيَّعَا١٩
تَمْشِي بَناتُ الْحَيِّ في إِثرِهِ
يَرْشُقْنَهُ بِالزهْرِ إِذْ وُدِّعا٢٠
مِنْ كُلِّ بَيْضاءِ الطُّلَى طَفْلَةٍ
أَسْطَعَ مِنْ بَدْرِ الدجَى مَطْلَعا٢١
تَكُفُّ غَرْبَ الدَّمْعِ أَنْ يُرْتَأَى
وتَحْبِسُ الزفْراتِ أنْ تُسْمَعا٢٢
لَجَّ بِهِ الْمَوْتُ فأوْدَى بِه
وحَزَّ مِنْهُ الليتَ والأَخْدَعا٢٣
ماتَ فلا قَبْرٌ لَهُ ماثِلٌ
ولا بَكَى الْباكِي وَلا شَيَّعَا
•••
سَلْ «ليجَ» ما حلَّ بأَرْجَائِهَا
فقد غدتْ أرجاؤُهَا بَلْقَعَا٢٤
واسْأَلْ «نَمُورًا» ما دَهَى أَهْلَها
فقدْ نَعاهَا البَرْقُ فيما نَعَى٢٥
وسائِلِ الروْضَ ذَوَى نَبْتُهُ
وسائِلِ الأطْلالَ والأَرْبُعَا٢٦
•••
باريسُ! والْعُسرَى إِلَى يَسْرَةٍ
وغايَةُ الْعارِضِ أَنْ يُقْشِعَا٢٧
أَعَزَّكِ الْخَطْبُ بِأَوْجالِهِ؟
وَكُنْتِ عُشَّ النسْرِ أَوْ أَمْنَعا٢٨
كُنْتِ لِطُلاَّبِ الْهُدَى مَعهَدًا
وَكُنْت رَوْضًا لِلْهَوَى مُمْرِعا٢٩
ما أحْسَنَ السِّينَ وجِيرَانه
وأَحْسَنَ الْمُصْطَافَ والْمَرْبَعا٣٠
أَرِيعَتِ الْحَسْناءُ في خِدْرِها؟
نَعَمْ، دَعاها الذعْرُ أَنْ تَهْلَعَا!
عَهْدي بِها كانَتْ نَؤُومَ الضُّحَى
مَلُولةً ناعِمِةً رَعْرَعا٣١
ما خَطْبُها والنارُ مِنْ حَوْلِها
والْمَوْتُ لم يَتْرُكْ لها مَفْزَعا؟٣٢
•••
ضَرَاغِمَ الْماءِ ثِبُوا وَثْبَةً
آنَ لِهَذَا الْغِيلِ أَنْ يُمْنَعا!٣٣
دَعَاكُمُ الْجَارُ فَكُنْتُمْ إِلَى
دُعائِهِ مِنْ صَوْتِهِ أَسْرَعا٣٤
وَسِرْتُمُ لِلْمَوتِ في جَحْفَلٍ
ما ضَمَّ رِعْدِيدًا وَلاَ إمَّعا٣٥
مِنْ كلِّ شَعْشَاعٍ خَفِيفِ الْخُطَا
ذِي مِرَّةٍ مُنْجَرِدٍ أَرْوَعا٣٦
لَوْ مَادَتِ الأَجْبالُ مِنْ تَحْتِهِ
أَوْ خَرَّتِ الأفْلاَكُ ما زُعْزِعا٣٧
سَلُوا بِحَارَ الأرْضِ عَنْ مَجْدِكُمْ
إِنَّ بِهَا سِرًّا لَكُمْ مُودَعا
كَانَتْ وَلاَ زَالَتْ لَكُمْ سَاحَةً
تَبْنُونَ فِيها الشرَف الأفْرَعا٣٨
تَهْوَى طُيُورُ الْماءِ أَعلاَمَكُمْ
فَتَقْتَفِيهَا حُوَّمًا وُقَّعا٣٩
قَدْ طافَ «نِلْسُنْ» حَوْلَ أُسْطُولكُمْ
مُسْتَصرِخًا غَضْبَانَ مُسْتَفْزِعا٤٠
يُغْضِبُهُ يا خَيْرَ أَشْبالِهِ
أَنْ يَبْلُغَ القِرْنُ بِكُمْ مَطْمَعا٤١
•••
يَا خَالِقَ النَّاسِ طَغَى شَرُّهُمْ
فَاهْدِ الْحَيَارَى واكشِفِ الْمَهْيَعا!٤٢
لم يُشْبِهُوا الإِنسانَ في خَلَّةٍ
وأَشْبَهُوا الْحَيَّاتِ والأَسْبُعا٤٣
قَدْ رُفِعَ الإِحْسانُ مِنْ بَينِهِمْ
وأوشَكَ الإِيمانُ أَنْ يُرْفَعا
لَوْلاَ سَنَا هَدْيِكَ في بَعْضِهمْ
لَدُكَّتِ الأرْضُ بِهِمْ أَجْمَعا
هوامش
(١) الهجوع: النوم ليلًا. البز: النزع وأخذ الشيء بجفاء وقهر. ذات
الطوق: الحمامة المطوقة أي: التي في عنقها من الريش ما يشبه الطوق،
سجع الحمام: صوته وغناؤه.
(٢) المضجع: وضع الضجوع وهو النوم على الجنب. مكلوم: مجروح. الحشا:
ما اشتمل عليه الجوف.
(٣) روعني: أفزعني. الزي: الهيئة. الخطب: النازلة والمصيبة. مرجفاته:
شدائده.
(٤) طاح يطوح ويطيح: هلك أو أشرف على الهلاك. الوغى: الحرب. ريح
زعزع: شديدة تزعزع الأشياء.
(٥) طاف: دار. الردى: الهلاك. اخترم: أهلك. وفي هذا البيت إشارة إلى
الآية الكريمة: فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ
مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (١٩: سورة
القلم).
(٦) صاح: صرخ وصوت. التوى: الهلاك والموت. صمت الأسماع: بطلت.
(٧) الجبار: العاتي المستكبر، والمراد القائد. عنوة: قهرًا.
(٨) يخسو: يشرب شيئًا فشيئًا.
(٩) خب: أسرع، والحسب ضرب من العدو. ركب رأسه: مضى على وجهه بغير
رؤية لا يطيع مرشدًا. الإيضاع: الإسراع في السير.
(١٠) غصت: امتلأت. الأشلاء: جمع شلو وهو العضو، وأشلاء الإنسان أعضاؤه
بعد البلى والتفرق. مترع: مملوء.
(١١) آن: حان. العقبان: جمع عقاب وهي من جوارح الطير.
(١٢) عزرائيل: ملك الموت. القد: سير من جلد غير مدبوغ قد يقيد به
الأسير. يرتع: يقبض أرواح الناس بكثرة. ورتع في الأصل معناها أكل
وشرب ما شاء في خصب وسعة، أو أكل وشرب بشره.
(١٣) الطرب: خفة تصيب من يشتد به السرور. الأزجال: جمع زجل وهو الجلبة
والتطريب ورفع الصوت. يستبيه: يأسره ويستميله. القعقعة: حكاية صوت
السلاح.
(١٤) الغلة: حرارة العطش. أبت: امتنعت. تنقع: تسكن. من نقع الماء
العطش من باب قطع وخضع أي: سكنه.
(١٥) السرب: القطيع والجماعة. القطا: ضرب من الحمام، الواحدة قطاة.
عطش: جمع عاطش اسم فاعل من عطش. صادفن: وجدن. الورد: الإشراف على
الماء وغيره. الردى: الهلاك. المشرع: مورد الشاربة أي: الموضع الذي
يستقون منه كالمشرعة.
(١٦) تألوا: حلفوا. يبيد: يهلك.
(١٧) العثير: الغبار.
(١٨) الصمصام: السيف لا ينثني. ينتضي: يسل أي يجرد من غمده. عامل
الرمح: صدره. أشرع: أميل أو رفع عند القتال.
(١٩) ضن: بخل. الرفد: العطاء والصلة. وافد: آت ووارد. لوى الحق:
جحده.
(٢٠) الحي: القبيلة أو البطن من بطون العرب، ويراد به هنا قوم الفارس
وعشيرته. يرشقنه: يرمينه. ودع: شيع عند سفره.
(٢١) الطلى: الأعناق أو أصولها. طفلة: رخصة ناعمة. أسطع: أعلى وأرفع،
والمراد أبهى وأجمل. الدجى: جمع دجية وهي الظلمة. المطلع:
الطلوع.
(٢٢) تكف: تمنع. غرب الدمع: مسيله أو انهلاله من العين. يرتأى: يرى.
الزفرات: جمع زفرة وهي إخراج النفس طويلًا ممدودًا.
(٢٣) لج به الموت: لازمه. أودى به: أهلكه. حز: قطع. الليت: صفحة
العنق. الأخدع: شعبة من عرق الوريد.
(٢٤) «ليج» إحدى المدن البلجيكية التي استولى عليها الألمان بعد
تخريبها بمدافعهم. الأرجاء: جمع رجا وهو الناحية. غدت: صارت.
البلقع: الأرض القفر الخالية من أسباب العمران والحياة.
(٢٥) «نامور» مدينة بلجيكية استولى عليها الألمان عقب استيلائهم على
«ليج» في أوائل الحرب العظمى سنة ١٩١٤م.
(٢٦) الأربع: جمع ربع وهو محلة القوم ومنزلهم.
(٢٧) باريس: كبرى المدن الفرنسية ومقر الحكومة، وقد كادت تسقط في أيدي
الألمان في أوائل الحرب العظمى سنة ١٩١٤م. العسرى: الضيق والشدة
والصعوبة. اليسرة: اسم مرة من يسر الأمر من بابي قرب وتعب أي: سهل
واتسع. العارض: السحاب يعترض في الأفق ويراد به هنا الغمة والضيقة.
يقشع: ينكشف.
(٢٨) عزك: غلبك. والهمزة للاستفهام. ويراد بالاستفهام هنا التعجب.
الخطب: النازلة الشديدة. الأوجال: جمع وجل وهو الخوف.
(٢٩) أمرع الوادي: أخصب وكثر كلؤه.
(٣٠) السين: نهر مشهور بفرنسا يمر بمدينة باريس. المربع: منزل القوم
في الربيع.
(٣١) نؤوم الضحى: كناية عن الترف والرفاهية ولين العيش. ملولة: من
الملل وهو السآمة والضجر. ناعمة: متنعمة. الرعرع: اليافعة الحسنة
الاعتدال مع حسن شباب.
(٣٢) الخطب: الشأن والأمر. المفزع: الملجأ.
(٣٣) الضراغم: جمع ضرغام وهو الأسد. الوثوب: الطفر والقفز. آن: حان.
العيل: الأجمة أي: الشجر الكثير الملتف. والغيل مسكن الأسد عادة.
يمنع: يحمي، يريد بضراغم الماء رجال الأسطول الإنجليزي وجنود
البحر.
(٣٤) يريد بالجار مملكة «بلجيكا» من ممالك أوروبا الشمالية، وهي إلى
الجنوب الشرقي من الجزائر البريطانية.
(٣٥) الجحفل: الجيش الكثير. الرعديد: الجبان. الإمع والإمعة: الرجل
يتابع كل أحد على رأيه لا يثبت على شيء.
(٣٦) الشعشاع: الطويل المسرع. الخطا: جمع خطوة. المرة: القوة وشدة
العقل. المنجرد: النشيط ذو الهمة. الأروع: من يعجبك
بشجاعته.
(٣٧) مادت: زلزلت وتحركت، الأجبال: جمع جبل. خرت: سقطت. الأفلاك:
مدارات النجوم، والمراد النجوم نفسها. زعزع: اضطرب وتحرك.
(٣٨) الساحة: الناحية وفضاء بين دور الحي. الأفرع: الأعلى.
(٣٩) حوم: دائرات حولها. وقع: حاطات نازلات بها.
(٤٠) «نلسن»: من أبطال الإنجليز وقائد أسطولهم إبان الحرب
الفرنسية.
(٤١) القرن: كفؤك في الشجاعة.
(٤٢) المهيع: الطريق البين.
(٤٣) الخلة: الخصلة. الأسبع: جمع سبع وهو المفترس من الحيوان.