الحُبُّ والحَرْبُ
سنة ١٩١٦م
ما لي فُتِنْتُ بلحْظِكِ الْفَتَّاكِ
وسَلَوْتُ كُلّ مَلِيحَةٍ إِلَّاكِ؟
يُسْرَاكِ قَدْ مَلَكَتْ زِمامَ صَبَابتي
وَمَضلَّتِي وهُدَايَ في يُمْنَاك
فَإِذَا وَصَلْتِ، فَكُلُّ شَيْءٍ باسِمٌ
وإذَا هَجَرْتِ، فَكُل شَيْءٍ باكي
هَذَا دَمِي في وَجْنَتَيْكِ عَرَفْتُهُ
لا تَسْتَطِيعُ جُحُودَهُ عَيْنَاكِ!
لو لم أَخَفْ حَرَّ الْهَوَى وَلَهِيبَهُ
لَجَعَلْتُ بَيْنَ جَوَانحِي مَثْوَاكِ
إنِّي أَغارُ منَ الْكُؤوسِ فَجنِّبِي
كَأْسَ الْمُدَامَةِ أَنْ تُقَبِّلَ فاكِ
خَدَعَتْكِ ما عَذُبَ السُّلافُ وإنَّمَا
قد ذُقْتِ لَمَّا ذُقْتِ حُلْوَ لمَاكِ١
لَكِ مِنْ شَبَابِكِ أَوْ دَلَالِكِ نَشْوَةٌ
سَحَرَ الأَنَامَ بِفِعْلِهَا عِطْفَاكِ٢
•••
قالَتْ خَلِيلتُها لها لِتُلِينَها
ماذا جَنَى لَمَّا هَجَرْتِ فَتَاكِ؟
هِيَ نَظْرَةٌ لاقَتْ بِعَيْنِكِ مِثْلَهَا
ما كَانَ أَغْنَاهُ وما أَغْناكِ!
قد كَانَ أرْسَلَهَا لِصَيْدِكِ لَاهِيًا
فَفَرَرْتِ مِنْهُ وعادَ في الأَشْرَاكِ
عَهْدِي بِه لَبِقَ الْحَدِيثِ فَمَا لَهُ
لا يَسْتَطيعُ الْقَوْلَ حِينَ يَرَاكِ؟
إيَّاكِ أَنْ تَقْضِي عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ
عَرَفَ الحياةَ بحُبِّهِ إيَّاكِ
إنَّ الشَّبَابَ وَدِيعَةٌ مَرْدُودَةٌ
والزُّهْدُ فِيهِ تَزَمُّتُ النُّسَّاكِ
فَتَشَمَّمِي وَرْدَ الْحياةِ، فَإنَّهُ
يَمْضِي، وَلا يَبْقَى سِوَى الأشْوَاكِ
لم تُنْصِتي، وَمَشَيْتِ غَيْرَ مُجِيبَةٍ
حَتَّى كأَنَّ حَدِيثَها لِسِواكِ
وَبَكَتْ عَلَيَّ، فما رَحِمْتِ بُكاءَها
ما كانَ أَعْطَفَهَا، وما أَقْساكِ!
•••
عَطَفَتْ عَلَيَّ النَّيِّرَاتُ وساءَلَتْ
مَذْعُورَةً قَمَرَ السَماءِ أَخَاكِ٣
قالَتْ: نَرى شَبَحًا يَرُوحُ ويَغْتَدِي
ويَبُثُّ في الأكْوانِ لَوعَةَ شاكي
أنَّاتُ مَجْرُوحٍ يُعَالِجُ سَهْمَهُ
وزَفِيرُ مَأْسُورٍ بِغَيْرِ فكاكِ
يَقْضِي سَوادَ اللَّيْلِ غَيْرَ مُوَسَّدٍ
عَيْنٌ مُسَهَّدَةٌ، وَقَلْبٌ ذاكِي٤
حَتَّى إِذا ما الصبْحُ جَرَّدَ نَصْلَهُ
ألْفَيْتَهُ جِسْمًا بِغَيْرِ حراكِ
إنَّا نكادُ أسًى عَلَيْهِ، ورَحْمَةً
لِشَبابِهِ، نَهْوِي مِنَ الأَفْلاكِ
مِنْ عَهْدِ قَابِيلٍ ولَيْسَ أمامَنا
في الأَرْضِ غَيْرُ تَشاكُسٍ وعِراكِ٥
ما بَيْنَ فَاتِكةٍ تَصُول بِقَدِّها
وفَتًى يَصُولُ بِرُمْحِهِ فَتَّاكِ
•••
يا أرْضُ وَيْحَكِ قَدْ رَوِيتِ فأسْئِري
وكَفَاكِ مِنْ تِلْكَ الدِّماء كَفَاكِ!٦
في كُلِّ رَبْعٍ مِنْ رُبُوعِكِ مَأْتمٌ
وَثَوَاكِلٌ ونَوادِبٌ وبَواكي٧
قد قامَ أهْلُ الْعِلْم فِيك ودَبَّرُوا
بَرِئَتْ يَدِي مِنْ إثمِهِمْ ويَداكِ!
كاشَفتهمْ سِرَّ الْعَنَاصِرِ فانْبَرَوْا
يَتَخيَّرُونَ أمَضَّها لِرَداكِ٨
نَثَرُوا كنَانَتَهُمْ، وَكُلَّ سِهامِها
لِلْفَتْكِ والتَّدْمِير والإهْلاكِ٩
دَخَلُوا عَلَى الْعِقْبانِ في أوْكارِها
وتسَرَّبُوا لمسابِحِ الأسمَاكِ!١٠
فَتَأَمَّلي، هَلْ في تُخُومِكِ مَأْمَنٌ؟
أَمْ هَلْ هُنالِكَ مَعْقِلٌ بِذُراكِ؟١١
ظَهْرُ الليُوثِ وذَاكَ أَصْعَبُ مَرْكَبٍ
أَوْفَى وأَكرَمُ مِنْ أَدِيمِ ثُراك١٢
لَيْتَ الْبِحارَ طَغتْ عَلَيْكِ وسُجِّرتْ
أو أَنَّ مَنْ يَطْوِي السَّماءَ طَوَاك!١٣
•••
لم يَبْقَ في الْإِنْسانِ غَيْرُ دمائِهِ
فَدَراكِ يا رَبَّ السَماء دَراك!١٤
وإذا النُّفُوسُ تَفَرَّقَتْ نَزَعاتُها
قامَتْ إذا قامَتْ بِغَيْر مَساك١٥
والسَّيْفُ أَظْلَمُ ما فَزِعْتَ لِحُكْمِه
والْحَزْمُ خَيْرُ شَمَائِلِ الأَمْلاكِ١٦
ومِنَ الدماء طهارَةٌ وَعدالَةٌ
ومِنَ الدماء جِنَايَةُ السُّفّاكِ١٧
والْعِلْمُ مِيزانُ الْحَياةِ فإنْ هَوَى
هَوَتِ الْحَياةُ لِأَسْفلِ الأَدْرَاك
هوامش
(١) فاعل خدع ضمير مستتر يعود على المدامة وما نافية. السلاف: الخمر.
اللمى مثلثة اللام: سمرة مستحسنة في باطن الشفة. والمراد الشفة
نفسها.
(٢) النشوة: السكر. سحر: استمال وجذب. الأنام: جميع الخلق. العطف:
الجانب.
(٣) النيرات: النجوم المضيئة.
(٤) وسده الوساد: جعله يتكئ عليه. الوساد: المتكأ أو المخدة. ومعنى
غير موسد أنه قلق لا يستقر على فراش. مسهدة: مؤرقة ساهرة. ذاكٍ:
مشتعل متوقد.
(٥) العهد: الزمان. قابيل وهابيل: ابنا آدم — عليه السلام — قرب كل
منهما إلى الله قربانًا فتقبل من هابيل ولم يتقل من قابيل فحنق على
أخيه وقتله. وقصتهما في القرآن الكريم: سورة المائدة: الآيات
٢٧–٣١. التشاكس: الاختلاف والشقاق. العراك: القتال.
(٦) ويح: كلمة رحمة. روى من الماء: يروي ريًّا. والسؤر: البقية
والفضلة. أسأر: أبقى في الإناء بعد شربه بقية.
(٧) الربع: المنزل ومحلة القوم. المأتم: المناحة. الثواكل: جمع ثاكل
وهي المرأة التي فقدت ولدها. النوادب: جمع نادبة وهي المرأة التي
تندب الميت أي: تعدد محاسنه.
(٨) العناصر: الأصول. والمراد بسرها خواصها وصفاتها. انبرى للشيء:
تجرَّد له.
(٩) الكنانة: جعبة من الجلد توضع فيها السهام. ونثر الكنانة إنما
يكون لاختيار أصلب السهام وأعظمها تأثيرًا. الفتك: البطش والقتل
على غفلة. التدمير: الإهلاك.
(١٠) العقبان: جمع عقاب وهو من جوارح الطير. الأوكار: جمع وكر وهو عش
الطائر. التسرب: الدخول في السرب وهو الحجر أو البيت في
الأرض.
(١١) التخوم: معالم الأرض وحدودها مفردها تخم. المعقل: الملجأ. الذرا:
جمع ذروة وهي من كل شيء أعلاه.
(١٢) الليوث: جمع ليث وهو الأسد. الأديم: ظهر الأرض. الثرى: التراب
الندي.
(١٣) طغى البحر: هاجت أمواجه وارتفعت وزادت مياهه حتى جاوزت الحد،
وطغيان البحار على الأرض إغراقها. سجرت: زيد اضطرابها وغليانها.
والشاعر يشير بالشطر الثاني من هذا البيت إلى الآية القرآنية
الكريمة يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ
السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ
نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا
فَاعِلِينَ (١٠٤: سورة الأنبياء).
(١٤) الذماء: بقية النفس. دراك: أدرك.
(١٥) النزعات: المذاهب والميول. المساك: الموضع يمسك الماء، ويراد به
هنا الحائل الذي يقف في وجه الميول الشريرة والأطباع
المبيدة.
(١٦) فزع إليه: لجأ إليه عند الفزع وهو الخوف. الحزم: ضبط الأمر
والأخذ فيه بالثقة. وحزم فلان رأيه أتقنه. الشمائل: الأخلاق
والطباع، مفردها شمال. الأملاك: جمع ملك.
(١٧) السفاك: جمع سافك. اسم فاعل من سفك الدم بمعنى أراقه.