الإسكندريَّة
أنشد الشاعر هذه القصيدة في حفل افتتاح المؤتمر الطبي العربي الذي عقد بحديقة النزهة بالإسكندرية عام ١٩٤٣م أثناء الحرب العالمية الثانية.
بَدَتْ أعلامُها فهفا وهامَا
سلامًا دُرَّةَ الوادي سلاَمَا١
بعثْنَا بالتحيّةِ خَفْق قلبٍ
يطيرُ إليكِ شوْقًا واضطراما٢
تحياتٌ إذا رفَّتْ أثارتْ
أريجَ المسكِ أو ريحَ الْخُزامى٣
نظمْنَا لؤلؤَ الفِرْدَوسِ فيها
وسمّيناه تضليلًا كلاما
•••
عروسَ الشرقِ دونكِ كُلُّ مَهْرٍ
وأين لمثِل مهرِك أنْ يُساما؟٤
فجوهرُ ثغرِكِ الفتّانِ فَرْدٌ
تأَبَّى أَنْ يَرى فيه انقساما٥
بَهرْتِ بني الزمانِ حُلًى وحُسنًا
ودلَّهتِ الأواخرَ والقدَامَى٦
«فمكسُكِ» مُشْرِقُ البسماتِ ضاحٍ
«ورملُكِ» جنّةٌ طابت مُقامَا٧
ترامَى الموْجُ فوق ثَراه صَبًّا
وكم صَبٍّ تمنى لو تَرامى!٨
«ونزهتك» البديعةُ ما أحيلى
وما أبهَى اتِّساقًا وانسجاما٩
إذا انتثرتْ أزاهرُها نِثارًا
جمعن الحسنَ فانتظَم انتظاما١٠
•••
جرى التاريخُ بين يَدَيْكِ طفلًا
وشمس الأفقِ لم تَعْدُ الفِطاما١١
وصال البحرُ حولكِ منذُ «مينا»
عظيمًا يدفَعُ الكُرَبَ العِظاما١٢
يحوطُ حماكِ أبيضَ أَحْوَذيًّا
كما جرّدتِ من غمدٍ حُساما١٣
فكم غازٍ به أمسى رميمًا
وكم فُلْكٍ به أمست حُطَامَا١٤
يمدُّ يَدَيه نحوكِ في حنانٍ
ويغمرُكِ اعتناقًا واستلاما١٥
ويشدو في مسامعكِ الأغاني
بلحنٍ علَّم السجعَ الحَماما١٦
بعثتِ النورَ من زمنٍ تولَّى
وكنتِ لنهضةِ العِلْمِ الدِّعاما
وفي فجرِ الزمانِ طلعتِ فجرًا
على الدنيا، فأيقظتِ النِّياما
•••
دهتك نوازلٌ لو زُرْنَ «رَضْوَى»
لما أبقَيْنَ «رَضْوَى» أو «شمامَا»١٧
فكم بعثوا عَلَى ظَمأ غَمامًا
لئيمَ البرقِ قد حَجب الغماما!١٨
أبابيلًا نشأنَ مُلَعَّناتٍ
تسوقُ أمامها الموتَ الزُؤاما١٩
وأسراب الجحيمِ مُحلِّقاتِ
إذا ما حوّمتْ قذفتْ ضِرَامَا٢٠
فلا أمًّا تركن ولا رضيعًا
ولا شيخًا رحِمْن ولا غلاما
وخلفَكِ رابضًا جيشٌ لُهامٌ
يصولُ مُناجزًا جيشًا لُهَاما٢١
إلى «العلمين» أبدَى ناجذَيْه
وزمجَرَ غاضبًا وسطا وحاما٢٢
وهوَّل ما يهوِّلُ واستطارت
بُروقٌ تنشُرُ النبأَ الجُسَاما٢٣
فما أطلقتِ صيحةَ مُستجيرٍ
ولا شرّدْتِ عن عينٍ مناما٢٤
تحدّيتِ الخطوبَ تزيدُ هَوْلًا
فتزدادين صبرًا واعتِزاما٢٥
إذا عصفتْ بجوِّكِ عابساتٍ
ملأتِ الجوَّ هُزْءًا وابتساما٢٦
«عمودُكِ» في سمائِكِ مُشْمخِرٌّ
عليه السحْبُ ترتطمُ ارتطَامَا٢٧
«وحصنُكِ» لا يلينُ له حديدُ
ولو شُهُبُ الدُّجَى كانت سهاما٢٨
وصخرُكِ لا يزال اليومَ صخرًا
يفُلُّ عزائمًا ويشقُّ هَاما٢٩
أتَوْكِ مُناجزين أسودَ غابٍ
وشالوا بعد نكبتهم نَعاما٣٠
ومن يكن الإلهُ له نصيرًا
فحاشا أن يُضَيّعَ أو يُضاما!٣١
•••
أحقًّا أنّ ليلكِ صار ليلًا
وَمغْنَى اللهوِ قد أمسى ظلاما؟٣٢
وأنّ حِدَادَ ليلِكِ طرّزتْه
دُموعٌ للثواكِل واليتامى؟٣٣
وأنّ ملاعبًا ضحِكَتْ زمانًا
غدت بيد البِلَى طَللًا رُكَاما؟٣٤
وأنّ الغيدَ فيكِ وكنّ زَهْرًا
تخيّرْنَ الْخُدور لها كِمَامَا؟٣٥
وأنّ البحرَ لم ينعَمْ بوجهٍ
صَباحيٍّ، ولم يهصِرْ قَواما؟٣٦
ولم تَمشِ السواحرُ فيه صُبْحًا
ولم تملأ شواطئه غراما؟٣٧
حَنانًا إنها شِيَمُ الليّالي
إذا كشفْن عن غَدْرٍ لِثاما٣٨
ولولا صَوْلةُ الأحداثِ فينا
لما عرَف الورَى حمدًا وذاما٣٩
وقد يُخفي الهلالَ محاقُ ليْلٍ
ليظهرَ بعده بدرًا تمامَا٤٠
•••
أبنتَ البحرِ، والذكرى شُجونٌ
إذا لمستْ فؤادًا مُستهامَا٤١
ذكرتُ صِبايَ فيكِ، وأين منّي
صباي؟ إلامَ أنشُدُه إلاما؟
فعذرًا إن وصلتُكِ بعد هجرٍ
وما هَجَر الذي حفِظ الذِّمَامَا٤٢
فهل تَدْرِي النوى أنّا التقيْنا
كما ضمّ الهوى قُبلًا تُؤَاما؟٤٣
وأنّا بين عَتْبٍ واشتياقٍ
نناغي الحبّ رشْفًا والتزاما؟٤٤
•••
سعَى لكِ من حُماةِ الطبِّ حَشْدٌ
فكنتِ كريمةً لاقتْ كِراما٤٥
إذا اختلفوا لوجهِ الحقِّ يومًا
مشَوْا للحقِ فالتأموا التئاما
ملائكةٌ إذا لَمَسوا عليلًا
أزاحوا الداءَ واستلُّوا السقَاما٤٦
وجندٌ في شجاعتِهم حياةٌ
إذا جلَب الجنودُ بها الحِماما٤٧
فكم أودَى بهم داءٌ عُقامٌ
إذا ما حاربوا داءً عُقاما!٤٨
أمَامًا يا رجالَ الطبِّ سيروا
فإنّ لكلِّ مَرْحَلةٍ أمامَا
أقمتم مِهْرجانَ الطبِّ يُحْيي
مَعالمَ دَرْسِه عامًا فعاما
وطفتم حوْلَ شيخٍ عبقريٍّ
فألقيتم بكفَّيْهِ الزِّماما٤٩
دعوناه أبا حسنٍ «عليًّا»
فقلتم: نحن ندعوه الإماما٥٠
•••
وفودَ العُربِ غنّاكم قريضي
وحنّ إلى معاهدكم وهاما
رمَى الشرقُ الغمامةَ بعد لأيٍ
وألقى تحت رجْلَيْه الخِطاما٥١
عقدنا للعروبة فيه عهدًا
فلا وهنًا نخاف ولا انفصاما٥٢
تَلُمُّ شتاتنا أنَّى نزلنا
حِجازًا أو عِراقًا أو شآما٥٣
ونمشي إن دعت صَفًّا فصفَّا
نصافح تحتَ رايتِها الوِئاما٥٤
هوامش
(١) هفا: اشتاق وحن.
(٢) اضطراما: التهابا.
(٣) رفت: تحركت. أريج المسك: رائحة المسك النفاذة الذكية. الخزامى:
نبت زهره أطيب الأزهار ويستعمل كدواء.
(٤) يساما: سام المشترى الشيء قدر له ثمنًا.
(٥) تأبى: تمنع.
(٦) حُلى: زينة وجمالًا. دلهت: جعلتهم يتدلهون في حبك.
(٧) مكسك: حي المكس الشهير بالإسكندرية. ضاح: واضح. رملك: حي الرمل
بالإسكندرية. طابت: حسنت.
(٨) صبًّا: مغرمًا.
(٩) نزهتك: حي النزهة بالإسكندرية.
(١٠) نثارًا: تفريقًا وانتشارًا وهو تأكيد.
(١١) تعد: تتعدى. الفطام: مرحلة الفطام أي: في الصغر.
(١٢) مينا: أول ملك من ملوك مصر الفرعونية من الأسرة الأولى وموحد
الوجهين (البحري والقبلي).
(١٣) حماك: كنفك. أبيض: لونه أبيض واسمه الأبيض. أحوذيًّا: النشيط
السريع فيما يعمل. جردت: أخرجت.
(١٤) غاز: عدو أتى غازيًا. رميمًا: باليًا. فلك: سفينة.
(١٥) اعتناقًا: ضمًّا. استلامًا: تقبيلًا.
(١٦) السجع: الكلام المسجوع، هديل الحمام.
(١٧) دهتك: أصابتك ودهمتك. نوازل: كوارث. رضوى: جبل رضوى الشهير
بالمدينة. شماما: جبل. يذكر الشاعر غزو الألمان لمصر من الصحراء
الغربية أثناء الحرب العالمية الثانية وما أصاب الإسكندرية من
غاراتهم.
(١٨) غماما: سحابا. لئيم البرق: ذو برق خبيث وكريه. والمقصود الطائرات
التي كان يرسلها الألمان لضرب الإسكندرية بالقنابل في أعداد كبيرة
غطت على السحاب في سمائها.
(١٩) أبابيلا: فرقًا متجمعة متتابعة وفيها إشارة إلى الطير الأبابيل
التي ترمي بحجارة من سجيل كما جاء ذكر ذلك في سورة الفيل. الزؤاما:
المختوم.
(٢٠) أسراب: جماعات. حومت: دارت حول الشيء. ضراما: نارًا
مشتعلة.
(٢١) رابضًا: معسكرًا منتظرًا. لهام: عظيم كثير العدد. مناجزًا:
محاربًا.
(٢٢) العلمين: موقعة شهيرة وحاسمة في الحرب العالمية الثانية، وسميت
بهذا الاسم نسبة إلى البلد التي وقعت فيها حيث انتصر الحلفاء على
الألمان، وكان الجيش المصري يحارب مع الحلفاء. أبدى ناجذيه: كشَّر
عن أنيابه. زمجر: صاح غاضبًا. سطا: بطش وقهر. حاما: دار وحارب في
ميدان القتال.
(٢٣) هول: أفزع. استطارت: انتشرت. الجساما: العظيم.
(٢٤) مستجير: مستغيث. شردت: بعدت.
(٢٥) اعتزامًا: قوة وصرامة ونفاذ أمر.
(٢٦) هزءًا: سخرية.
(٢٧) عمودك: عمود السواري وهو أحد معالم الإسكندرية. مشمخر: مرتفع
شاهق.
(٢٨) حصنك: المقصود قلعة «قايتباي» الشهيرة على البحر. شهب الدجى: نار
تسقط من السماء فتضيء في ظلمة الليل.
(٢٩) يفل: يكسر. هاما: رأس الشيء وأعلاه.
(٣٠) مناجزين: محاربين. وشالوا: هزموا وقهروا وانقلبوا عائدين وهم
كالنعام أي: جبناء.
(٣١) يضاما: يظلم.
(٣٢) مغنى اللهو: مكان اللهو والغناء.
(٣٣) حداد: ثياب المأتم السود. طرزته: شغلته وصنعته.
(٣٤) غدت: أصبحت. البلى: القدم. طللا: بقايا البناء. ركاما: تراكمت
أحجاره بعضها على بعض.
(٣٥) الخدور: جمع خدر وهو مكان الإقامة. كماما: ورق الزهرة الذي يحيط
بالثمرة.
(٣٦) صباحي: جميل. يهصر: يضم بقوة.
(٣٧) السواحر: الماشيات في الوقت قبيل الصبح.
(٣٨) شيم: عادات، صفات. لثاما: نقابا. وهو الستر الذي يخفي
الوجه.
(٣٩) صولة: جولة. الورى: الخلق. ذاما: عيبًا وذمًّا.
(٤٠) محاق: ثلاث ليال من آخر الشهر العربي والمراد الظلام.
(٤١) مستهام: هائم محب.
(٤٢) حفظ الذماما: رعى حرمتك، ثبت على عهدك.
(٤٣) النوى: البعد وكثرة الأسفار. تؤاما: جمع توأم وهو المولود مع
غيره.
(٤٤) عتب: عتاب. التزامًا: عناقًا.
(٤٥) حماة الطب: المدافعون عنه وهم الأطباء الذين نزلوا بالإسكندرية
وشاركوا في المؤتمر.
(٤٦) استلوا: نزعوا، استخرجوا. السقاما: الأمراض.
(٤٧) الحماما: الموت.
(٤٨) أودى: أهلك. داء عقام: داء عضال.
(٤٩) شيخ عبقري: المقصود الدكتور علي إبراهيم باشا رئيس المؤتمر.
الزماما: القيادة.
(٥٠) أبا حسن عليًّا: لقب الإمام علي — كرم الله وجهه — وللدكتور علي
إبراهيم باشا نجل هو الأستاذ الدكتور حسن علي إبراهيم الجراح
المشهور.
(٥١) الغمامة: ما يوضع على عيني الدابة كي لا ترى. لأي: تعب ومشقة،
جهد. الخطاما: حبل يوضع في فم البعير ليقاد به.
(٥٢) وهنا: ضعفًا. انفصاما: تفرق.
(٥٣) شتاتنا: تفرقنا. شآما: بلاد الشام.
(٥٤) رايتها: علمها. الوئام: الوفاق.