فلسطين
نظم الشاعر هذه القصيدة عندما توالت انتصارات الجيش المصري في فلسطين عام ١٩٤٨م، إلى أن وصل إلى مشارف «تل أبيب»، فتدخلت أمريكا وفرضت الهدنة على الجانبين من أجل صالح إسرائيل؛ لتجنبها عار هزيمة محققة:
تَأَلَّقَ النَصْرُ فاهتزَّتْ عَوَالينا
واستَقْبَلتْ مَوْكِبَ البُشْرَى قَوَافينَا١
غَنَّى لَنَا السَّيْفُ في الأعناقِ أغْنيةً
عَزَّتْ على الأيكِ إيقاعًا وتلْحِينَا٢
هَزَّتْهُ كَفٌّ من الفُولاذِ قَبْضتُهَا
في الهَوْلِ ما عَرَفَتْ رِفْقًا ولا لِينَا
من صَخْرِ «خُوفُو» لها دُونَ الْوَرى عَضَلٌ
جرى به دمُ عَدْنَانٍ شَرايينا٣
نفسي فِدَى الفارِس المصرِيّ إن خَطَرتْ
به المواكِبُ أو خَاضَ الميادينَا
تلقَاهُ في السِّلْمِ ماءً رفَّ سلسَلُهُ
وفي الحُروبِ إذا ما ثَارَ أَتونَا٤
يرى الدِّماءَ عقيقًا سَالَ جَامِدُهُ
ويحسَبُ النقْع فيها مِسْكَ دارينا٥
ما بَيْنِ «عمرو» و«مينا» زَانَهُ نَسَبٌ
فمن كآباتِهِ عُرْبًا فَراعِينَا٦
سَلْ مِصْرَ عنهم سَلِ التاريخَ إنَّ بِه
سِرًّا من المجدِ لا يَنْفَكُّ مكْنُونَا٧
سُيُوفُهم كُنَّ للطغيَانِ ماحِقَةً
وعدْلُهُمْ كانَ للدنيا مَوازِينَا٨
وجيْشُهُمْ هزَّتِ الدُّنيا كتائِبُهُ
وحكمهُمْ مَلأَ الآفاقَ تمدِينَا
إنَّا بَني الأُسْدِ أمضَى مِخْلبًا ويدًا
لَدَى الصِّرَاع وأحْمَى الناسِ عِرْنينَا٩
إذا دَعَا الحقُّ لبَّتْهُ جحافِلُنا
وإن سَطَا الجَوْرُ ردَّتْهُ موَاضِينا
عِشْنَا أعِزَّاءَ مِلءَ الأرضِ ما لمسَتْ
جِبَاهُنَا تُرْبَهَا إلَّا مُصلّينَا
لا ينْزِلُ النصرُ إلَّا فوْقَ رايتنا
ولا تمسُّ الظُّبَا إلَّا نَواصِينَا١٠
•••
أليْسَ من أُحْجِياتِ الدَّهْرِ قُبَّرةٌ
رَعْنَاءُ تَزْحَمُ في الوَكْرِ الشَواهينَا١١
وتائِهٌ ما لَهُ دارٌ ولا وطنٌ
يسْطُو على دارِنا قَسْرًا ويُقْصينَا١٢
فيا جبالُ اقذفِي الأحجارَ من حُمَمٍ
ويا سَمَاءُ أمْطرِي مُهْلًا وغِسْلينَا١٣
ويا كواكبُ آنَ الرَّجْمُ فانطلقي
ما أنتِ، إنْ أنتِ لم تَرْمِ الشياطينا؟١٤
ويا بحارُ اجْعَلي الماء الأجَاجَ دَمًا
إذا عَلَت رَايةٌ يَوْمًا لصهيونَا١٥
العَهْدُ عِنْدُهُم خَلْفٌ ومجحَدَةٌ
فما رأيناهُمُ إلَّا مُرَائينَا١٦
ما ذَلِكَ السمُّ في الآبارِ؟ ويلَكُمُ!
وَمَنْ نُحَارِبُ؟ جُنْدًا أم ثَعابينَا١٧
مَرْحَى بدولتهِمْ! ماتت لمولدِها
فكانَ ميلادُها حُزْنًا وتأبينَا
جاءوا مُهَنِّينَ أرْسالًا على عَجلٍ
فحينمَا نطَقُوا كانُوا مُعزِّينا
وآضَ تصفِيقُهُمْ نَوْحًا ومندَبةً
وأصبحَ البِشْرُ تقطِيبًا وتَغْصِينَا١٨
رِوايةً ما أقامُوا سَبْكَ حَبْكَتِها
ولا أجَادُوا لهَا لَفْظًا وتلقِينَا١٩
قد حيَّرتْنَا، أمأساةٌ؟ أمهزلَةٌ؟
فالسُّخْفُ يُضْحِكُنا والجهلُ يُبكينَا
أهْلًا بها دَوْلةً ضاقَ الفضاءُ بها
فَتْحًا وغَزْوًا وإعْزازًا وتَمكينَا
لها قوانينُ من عَدْلٍ ومَرْحَمَةٍ
قد نَفَّذُوا بعْضَها في «دَيْرِ ياسينَا»٢٠
أسْطُولُها يملأُ البحر المحيطَ دَمًا
وجيشُهَا يملأُ الآطَامَ تَحصينَا٢١
•••
نفسي فِدَاءُ فلسطينٍ وما لَقِيتْ
وهل يناجي الهوى إلَّا فِلسْطينا؟
نفسي فِدَاءٌ لأُولَى القبلتين غدتْ
نَهْبًا يُزاحِمُ فيه الذئْبُ تِنِّينَا٢٢
قلبُ العروبَةِ إن تَطعنْهُ زعنفَةٌ
كُنَّا لها ولأشقاهَا طوَاعينَا٢٣
وقلعَةُ الشرقِ إن مُسَّتْ جوانِبُها
خُضْنَا لها جُثَثَ القتلَى مَجَانينَا
وأسْطُرٌ من تواريخٍ مُخَلَّدةٍ
كانت لمجدِ بَني الفُصْحَى عَنَاوينَا
فقبِّلُوا تُرْبَ «حطِّينٍ» فإنَّ بهِ
دَمَ البُطُولةِ مِنْ أيام «حطينَا»٢٤
أرْضٌ بذَلْنَا بَها الأرواحَ غاليةً
داعين للهِ فيها أو مُلَبِّينَا
ومسجِدٌ نزلَ المختارُ ساحتَهُ
نمُوتُ فيه ونحْيَا مُسْتميتينَا٢٥
أنرتَضِي أنْ نَرى مِيراثَنا بَدَدًا
ونكتفي بدموعٍ في مآقِينَا؟!
ما قيمةُ النَّفسِ إن هانَتْ لطائفةٍ
الله صَوَّرَ فيها الذُّلَّ والهُونَا؟٢٦
وما نقولُ لأبطالٍ لنا سَلَفوا
إذا تهدَّم ما كانُوا يَشيدونَا؟
وما نقولُ لعمرو حينَ يسألُنا
إن لم نُجِبْ قبلَهُ بالسيفِ غازِينَا؟٢٧
أتلكَ أندلُسٌ أُخْرى؟ فقد نبشَتْ
من حقدِ ساداتِهمْ ما كان مدفُونَا٢٨
سُحْقًا لسكِّينِ «فرديناند» كم ذبَحتْ
واليومَ تشحَذُ أمريكا السكاكينا!!٢٩
قد شرَّدُوا العُرْبَ واستاقُوا حرائِرَهُمْ
فأينَ فِتيانُنا؟ أيْنَ المحامُونا؟٣٠
من كُلِّ عَادٍ له في الشرِّ فلسفةٌ
أسرارُهَا عند مُوشَى وابن غُرْيونا٣١
لا يَعْرِفُ الرُّزْءَ في أهلٍ ولا ولدٍ
ولا يرى غيرَ جمعِ المالِ قانونَا٣٢
الألفُ تصبحُ في كفَّيهِ بين رِبًا
وبينَ ما لستُ أدريهِ ملايينَا
إن كان يحميهُم المالُ الذي جمعُوا
فإنَّ خالقَ هذا المال يَحمينَا
قالوا: أسُودٌ. فقُلنا: في الجحورِ نَعَمْ
فإن خرجتُمْ يَعُدْ كُوهينُ كُوهينَا
•••
بني العُرُوبةِ هذا اليومُ يومُكُمُ
سيرُوا إلى الموتِ إنّ الموتَ يُحيينَا
وخلفُوا للعُلا والمجدِ خالدةً
تبقى حديثَ اللَّيالي في ذَرَارينا٣٣
لقد صَدِئْنا ودُون الغِمدِ منفسَحٌ
فجرِّدُوا حَدَّ مَاضينا لآتينَا
وقَرِّبُوهُمْ قرابينًا مُحَوَّرةً
للسيفِ إن يَرْضَ هاتيكَ القرابينَا٣٤
ماذا إذا مَا فَقدنا إرْثَ أُمَّتِنَا
وما الذي بعدَهُ يبقى بأيْدِينَا
ذُودُوا كما يدفَعُ الضِّرغَامُ في غضبٍ
عن العرِين أبَاةً شَمَّريِّينَا٣٥
لا ترهَبُوا القومَ في مالٍ وفي عددٍ
إن الفقاقيعَ تطْفُو ثم يَمْضينَا
•••
إن لم تَصُونوا فَلِسْطِينًا وجبهتها
ضاعت عُرُوبتُنا وانفضَّ نَادينَا
فإنَّ للشرقِ أعْدَاءً ذوِي إحَنٍ
اللهُ يكفيهِ نجواهُمْ ويكفينَا!٣٦
لهُمْ سِهامٌ خفياتٌ مسممةُ
من السياسة تَرْميهِ وتَرْمينَا
كم نمقوا صُوَرًا شتَّى وكَمْ خلَقُوا
للغدْرِ والفتكِ أشكالًا أفَانينَا
•••
يا جَيْشَ مِصْرَ ولا آلوكَ تهنئةً
حقَّقْتَ ظَنَّ الليالي والمُنَى فينَا٣٧
وصَلْتَ آخِرَ عُلْيانا بأوَّلهَا
فما أواخِرُنَا إلَّا أوالينَا
أعَدْتَها وثبةً بدريَّةً صرعَتْ
دُهَاةَ جيشِ يهوذا والدَّهاقِينَا٣٨
شجاعةٌ مزَّقتْ أحلامَ ساستِهمْ
وعلَّمتْ مُترفِيهم كيفَ يصْحُونَا
تسيرُ من ظَفَرٍ حُلْوٍ إلى ظفرٍ
مُبَارَك الفتحِ والرَّاياتِ ميمُونَا
فيكَ الملائِكُ أجْنَادٌ مُسَوَّمَةٌ
أعْلامُها تتهادَى حَوْلَ جِبْرينَا٣٩
وفيكَ من مُهجَاتِ النيلِ ناشِئةٌ
فيها مَطامِحُنا، فيها أَمَانينَا
يمشون للموتِ في شوقٍ وفي جَذَلٍ؛
لأنَّهُمْ في ظِلال اللهِ يمشُونَا
إن شَكَّ في عَزمةِ المصرِيّ مُخْتَبَلٌ
فبيْن فِتْيانِنا يلْقى البرَاهينَا
لا يستطيعُ خَيَالٌ وصْفَ جُرْأتِهمْ
ويعجزُ الشعرُ تصوِيرًا وتَلْوينًا
هُمْ رياحينُ مصرِ نَضْرَةً وشذًا
لا أذْبَلَ اللهُ هاتيكَ الرياحينَا
صانَ الإلَهُ لجيشِ الشرقِ عِزَّتَهُ
وصَانَ أبطالَهُ الغُرَّ الميامينا٤٠
هوامش
(١) تألق: ازدهر. عوالينا: أعالينا.
(٢) الأيك: الشجر الملتف والمقصود الحدائق.
(٣) «خوفو» ملك من ملوك مصر القديمة وباني الهرم الأكبر. لها دون
الورى: انفردت عن الخلق. عدنان: جد العرب.
(٤) سلسله: عذوبته وصفاؤه. أتون: الأخدود من النار.
(٥) عقيقًا: نوع من الأحجار الكريمة حمراء اللون. النقع: الغبار. مسك
دارينا: طِيب من منطقة البحرين ينسب إليها المسك.
(٦) عمرو: هو عمرو بن العاص داهية العرب وفاتح مصر في عهد عمر بن
الخطاب، رضي الله عنهما. مينا: ملك من ملوك مصر الفرعونية، وهو أول
من وحد الوجهين البحري والقبلي لمصر.
(٧) لا ينفك: لا يُحل ولا يتفكك. مكنونا: مخزونا.
(٨) ماحقة: قضت عليها.
(٩) عرنينا: أنفًا وكبرياء.
(١٠) الظبا: الظباء. نواصينا: جهاتنا وأرضنا.
(١١) قبرة: نوع من الطيور صغير. رعناء: حمقاء. الوكر: العش.
الشواهينا: نوع من الطيور الجارحة وهي الصقور المدربة على
الصيد.
(١٢) تائه: ضال وليس له وطن إشارة إلى اليهودي التائه.
(١٣) حمم: نار ملتهبة. مهلًا: نحاسًا مذابًا. غسلينا: ما اغتسل من
لحوم أهل النار ودمائهم.
(١٤) الرجم: القتل وأصله الرمي بالحجارة.
(١٥) الأجاج: المالح. صهيون: أتباع صهيون من اليهود الذين أقاموا
إسرائيل.
(١٦) خلف: كذب. مجحدة: نكران. مراثينا: منافقين.
(١٧) كان اليهود يضعون السم في آبار العرب في أوائل حربهم في
الأربعينيات.
(١٨) آض: رعج وأصبح.
(١٩) سبك حبكتها: إعدادها.
(٢٠) دير ياسين: قرية في فلسطين قام اليهود بذبح نسائها وشيوخها
وأطفالها عندما احتلوها في حربهم الأولى ضد العرب.
(٢١) الآطام: البيوت المغلقة.
(٢٢) أولى القبلتين: بيت المقدس وبها المسجد الأقصى.
(٢٣) زعنفة: جماعة ليس أصلهم واحد. لأشقاها: الشديد العسر. طواعينا:
محاربين ومصيبين لهم.
(٢٤) حطين: اسم بلد في الشام اشتهرت بالمعركة التي انتصر فيها القائد
صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين.
(٢٥) مسجد: المسجد الأقصى. المختار: سيدنا محمد، عليه الصلاة
والسلام.
(٢٦) الهونا: الهوان.
(٢٧) عمرو: عمرو بن العاص القائد العربي الشهير.
(٢٨) يشير إلى مأساة انهيار حكم العرب في الأندلس.
(٢٩) فرديناند: قائد من قواد الفرنجة استطاع بالخديعة والدهاء أن يطرد
العرب من الأندلس خاصة بعد ضعفهم وانقسامهم.
(٣٠) استاقوا: أسروا واستعبدوا. حرائرهم: نساؤهم الأحرار.
(٣١) عاد: متجن ظالم. موشى وابن غريونا: هو موسى شرتوك وبن غريون من
أوائل وزراء دولة إسرائيل.
(٣٢) الرزء: المصيبة.
(٣٣) ذرارينا: ذريتنا أي: أبناؤنا.
(٣٤) قربوهم: قدموهم. قرابينا: ما يتقرب به إلى الرفعة والمجد. محورة:
ملونة بلون الدم.
(٣٥) الضرغام: الأسد. شمريينا: مختالينا.
(٣٦) إحن: حقد.
(٣٧) آلوك: أرسل إليك رسالة.
(٣٨) بدرية: نسبة إلى غزوة بدر التي انتصر فيها المسلمون على الكفار.
جيش يهوذا: جيش اليهود الصهاينة. الدهاقينا: الزعماء في
الدين.
(٣٩) جبرينا: سيدنا جبريل.
(٤٠) الميامينا: المباركين.