رشيد
غاب الشاعر عن بلده رشيد فترة طويلة، فأنشأ هذه القصيدة عام ١٩٤١م يشيد فيها بجمالها وبمجدها القديم، ويتألم لانتشار داء الفيل فيها، ويحث أهلها على استئصاله:
جدِّدي يا رشيدُ للحبِّ عَهْدًا
حَسْبُنا حسبُنا مِطالًا وصدَّا١
جدِّدي يا مدينةَ السحرِ أحلا
مًا، وعيْشًا طَلْقَ الأسارير رَغْدا٢
جدِّدي لمحةً مضتْ من شبابٍ
مثل زهر الربا يرِفُّ ويندَى٣
وابعثي صَحْوةً أغار عليها الشـ
ـشَيْبُ، حتَّى غدتْ عَناءً وسُهدا٤
وتعالَيْ نعيشُ في جَنَّةِ الما
ضي، إذا لم نجِدْ من العيشِ بُدَّا
ذِكْرياتٌ، لو كان للدهرِ عقْدٌ
كنَّ في جِيدِ سالفِ الدهر عقدا٥
ذِكْرياتٌ مضتْ كأحلام وصلٍ
وسُدًى نستطيعُ للحُلْمِ رَدَّا٦
قد رشفنا مختومهنَّ سُلافًا
وشممْنا رَيَّا شذاهُنَّ نَدَّا٧
والهَوى أمْرَدُ المحيَّا يناغي
فِتْيةً تُشبهُ الدنانير مُرْدَا٨
عبثوا سادرين، فالْجِدُّ هزلٌ
ثمَّ جدّوا، فصيَّروا الهزلَ جِدّا٩
ويح نفسي، أفدي الشبابَ بنفسي
وجديرٌ بمثلهِ أن يُفَدَّى
إنْ عددنا ليومِه حسناتٍ
شغلتْنا مساوئُ الشيْبِ عَدَّا
جذوةٌ للشبابِ كانت نعيمًا
وسلامًا على الفؤادِ وبَرْدا١٠
قد بكيْناه حينَ زال؛ لأنَّا
قد جهِلْنا من حَقِّه ما يُؤَدَّى
وقتلناه بالوقارِ ضلالًا
وهو ما جار مرَّةً أو تعدَّى١١
ما عليهم إن هام عمروٌ بهندٍ
أو شدا شاعرٌ بأيام سُعدى؟!١٢
شُغِفَ الناسُ بالفضُولِ وبالْحِقـ
ـدِ، فإنْ تلقَ نعمةً تَلقَ حِقدا
•••
أرشيدٌ، وأنت جنَّةُ خُلْدٍ
لو أتاح الإلهُ في الأرضِ خُلدا
حين سَمَّوْكِ «وردةً» زُهِيَ الحسـ
ـنُ، وودّ الخدودُ لو كنّ وَرْدا١٣
توَّجتْ رأسَكِ الرمالُ بتبر
وجرَى النيلُ تحت رِجْليْك شهدا
وأحاطت بكِ الخمائلُ زُهْرًا
كلُّ قَدٍّ فيها يعانقُ قَدَّا١٤
والنخيلُ النخيلُ! أرخت شعورًا
مُرسَلَاتٍ، ومدَّت الظلَّ مدَّا
كالعذارَى يدنو بها الشوقُ قُرْبًا
ثم تنأَى مخافةَ اللَّومِ بُعْدَا١٥
حول أجيادِها عقُود عقيقٍ
ونُضارٍ، صفاؤه ليس يصدا١٦
يا ابنةَ اليمِّ لا تُراعي فإنِّي
قد رأيتُ الأمورَ جَزْرًا ومدَّا١٧
قد يعودُ الزمانُ صفوًا كما كا
نَ، ويُمسي وعيدُه المُرُّ وعدا١٨
كنتِ مذ كنتِ والليالي جواريـ
ـكِ، وكان الزمانُ حولَك عبدا
كلَّما هامت الظنونُ بماضيـ
ـكِ رأتْ عَزْمَةً وأبصرن مجدا١٩
بكِ أهلي، وفيكِ مَلْهَى شبابي
وَلَكَمْ فيكِ لي مَراحٌ ومَغْدَى٢٠
لو أصابتكِ مسّةُ الريحِ ثارت
بفؤادي عواصف ليس تَهْدا٢١
أنا من تُرْبِك النقي وشعري
نفحاتٌ من وَحْيِ قُدْسِك تُهْدَى٢٢
كنتُ أشدو به مع الناس طفلًا
فتسامَى فصرتُ في الناسِ فَرْدا٢٣
من رزايا النبوغِ أنَّكَ لا تلـ
ـقَ أنيسًا، ولا ترَى لكَ نِدَّا٢٤
قد جَزيْناكِ بالحنانِ حَنانًا
وجزينا عن خالصِ الوُدِّ وُدَّا٢٥
ليتَ لي بعد عودتي فيك قبرًا
مثلما كنتِ مَنْبِتًا لي ومَهْدا
•••
أصحيحٌ أن الخطوبَ أصابتـ
ـكِ، وأنَّ الأمراضَ هَدَّتْكِ هدَّا؟
وغدا «الفيلُ» فيكِ داءً وبيلًا
نافثًا سُمَّه مُغيرًا مُجِدَّا؟٢٦
كم رأينا من عاملٍ هدَّه الدَّا
ءُ، وأرداه وَقْعُه فتردَّى
كان يسعَى وراءَ لُقْمةِ خُبْزٍ
ولَكَمْ جدَّ في الحياةِ وكدَّا
فغدا كالصريع يلتمسُ الْجُهـ
ـد ليحيا به فلم يَلْقَ جُهدا
إن مشى يمش بائسًا مستكينًا
كأسيرٍ يجرُّ في الرجْلِ قدَّا٢٧
خلفه من بَنيه أنضاءُ جوعٍ
وهو لا يستطيع للجوعِ سَدَّا٢٨
كلَّما مدَّ كفَّه لسؤالٍ
أشبعتها اللئامُ نَهْرًا وطَرْدا
أمن الحق أن نعيش بِطانًا
ويجوعَ العَليلُ فينا ويصْدَى؟٢٩
•••
وَلكَمْ تلمَحُ العيونُ فتاةً
مثل بدرِ السماء لمَّا تبدَّى
هي من نعْمَةِ البشائرِ أحلَى
وهي من نَضْرةِ الأزاهرِ أندَى٣٠
تتمنَّى الغُصُونُ لو كنَّ قدًّا
حينَ ماستْ، والوردُ لو كان خدَّا٣١
حوَّمتْ حولَها القلوبُ فَراشًا
ومشت خلفَها الصواحبُ جُنْدا
وارتدت بالْخِمارِ فاختبأ الحسـ
ـنُ، يُثير الشجونَ لما تردَّى٣٢
لعِبتْ بالنهَى فأصبح غَيًّا
كلُّ رُشْدٍ، وأصبح الغيُّ رُشدا٣٣
حسَدَ الدهرُ حسنَها فرماها
بسهامٍ من الكوارثِ عَمْدا
طرقتها الحمَّى الخبيثةُ ترمي
بشُواظ، يزيده الليلُ وَقْدا٣٤
روضةٌ من محاسنٍ غالها الإعـ
ـصارُ حتى غَدَتْ خمائلَ جُرْدَا٣٥
حلّ داءُ الفيل العُضالُ برِجْلَيـ
ـها، وأَلقى أثقالَه واستبدَّا
كم بكتْ أُمُّها عليها فما أغـ
ـنَى نُواحٌ، ولا التحسُّرُ أجْدَى
ويحهَا، أين سِحْرُها؟ أين صارت؟
أين ولَّى جمالُها؟ أين نَدَّا؟٣٦
أين أين ابتسامُها؟ ذهب الأُنـ
ـسُ، ومال الزمانُ عنها وصَدَّا
أين فَتْكُ العيونِ؟ لم يترك الدهـ
ـرُ سيوفًا لها، ولم يُبْقِ غِمْدا
أين خَلْخالها؟ لقد خلعتْه
وهي تبكي أسًى وتنفُثُ صَهْدا٣٧
طار خُطَّابُها فلم يَبْقَ فردٌ
وتولَّى حَشْدٌ يحذِّرُ حشدا
لسعتها بعوضةٌ سكنت بِئـ
ـرًا، وقد كان جسمُها مستعدّا٣٨
إن هذا البعوضَ أهلك «نُمْرو
ذَ» وأفنَى ما لم يُعَدُّ وأعْدَى٣٩
فاحذروه فإنَّه شرُّ خَصْمٍ
وتصدَّوْا لحربهِ إنْ تصدَّى
جَرِّدوا حَمْلةً على الفيلِ أنجا
دًا كرامًا، ومزِّقوا الفيلَ أُسْدا٤٠
أرشيدٌ دونَ المدائنِ تبقَى
مُسْتراضًا لكلِّ داءٍ ووِرْدا؟٤١
يفتِكُ السم في بَنيها فلا تر
فَعُ كَفًّا، ولا تحرِّكُ زندًا؟٤٢
ثم تُلْقي السلَاح إلقاء ذلٍّ
والجراثيمُ حولَها تتحدَّى
يا لَعاري! فليت لي بين قومي
بطلًا يكشِفُ الشدائدَ جَلْدا٤٣
ظَمِئَ الشعْرُ للثناء، فهل آ
نَ له أن يَفيضَ شكرًا وحمدا؟
هوامش
(١) حسبنا: كفانا. مطالا: تطويلًا وتسويفًا. صدًّا: إعراضًا.
(٢) طلق: غير مقيد. الأسارير: قسمات الوجه. رغدًا: واسعًا
طيبًا.
(٣) يرف: يتحرك وينتشر. يندى: يجود.
(٤) صحوة: تنبيه وإفاقة. أغار: هجم. عناء: تعبًا. سهدًا:
سهرًا.
(٥) جيد: العنق. سالف: الماضي.
(٦) سدى: هيهات.
(٧) مختومهن: أواخرهن. سلافًا: خمر. ريا: هو الارتواء بالماء. شذاهن:
رائحتهن الذكية الفواحة. ندا: الرائحة الطيبة.
(٨) أمرد: الغلام ليس في وجهه شعر. المحيا: الوجه. الدنانير: في
استدارة الوجه ولونها الأحمر.
(٩) سادرين: غير مبالين ولا مهتمين.
(١٠) جذوة: جمرة من نار. الفؤاد: القلب.
(١١) جار: ما زاد عن حده أو ما مال عن قصده.
(١٢) هام: شغف. عمرو: رجل كان رمزًا في أشعار العرب وهند كذلك وسعدى
كذلك.
(١٣) وردة: إشارة إلى اسمها في اللغة الإنجليزية.
(١٤) قد: القوام.
(١٥) تنأى: تبعد.
(١٦) أجيادها: أعناقها. عقود عقيق: قلائد من الأحجار الكريمة. نضار:
ذهب. يصدأ: يصيبه الصدأ. يشبه نخل البلح الزغلول الأحمر اللون
بعقود العقيق، ونخل البلح السماني الأصفر اللون بلون الذهب.
(١٧) ابنة اليم: لأن النيل شرقها والبحر المتوسط شمالها. تراعي:
تخافي. جزرًا ومدًّا: رجوع ماء البحر إلى الخلف ثم تقدمه إلى
الشاطئ.
(١٨) صفوا: صافيًا خالصًا.
(١٩) هامت: أولعت. الظنون: التردد والشك.
(٢٠) مراح: مكان للراحة. مغدى: عودة.
(٢١) مسة الريح: لمسة الهواء.
(٢٢) وحي قدسك: إلهام طهرك.
(٢٣) تسامى: ارتفع وعلا.
(٢٤) رزايا: مصائب. أنيسًا: أحد يؤنس وحدتك. ندًّا: نظيرًا.
(٢٥) جزيناك: كافأناك.
(٢٦) الفيل: داء الفيل الذي يؤدي إلى ورم الأطراف، ويجعل الإنسان
عاجزًا عن المشي.
(٢٧) قدَّا: سيرًا من جلد غير مدبوغ والمقصود هنا القيد.
(٢٨) أنضاء: جمع نضو وهو الضعيف المهزول.
(٢٩) بطانًا: شباعًا. يصدى: يعطش.
(٣٠) نغمة البشائر: التبشير بالخير بصوت حسن.
(٣١) قدًّا: قوامًا. ماست: تتبختر.
(٣٢) تَرَدَّى: سقط.
(٣٣) النهى: العقل. غيًّا: ضلالًا. رشد: هداية.
(٣٤) شواظ: لهب لا دخان فيه. وقدًا: اتقادًا واشتعالًا.
(٣٥) جردا: جرداء.
(٣٦) ندا: بعد، ذهب.
(٣٧) تنفث: تنفخ. صهدا: حرارة شديدة.
(٣٨) سكنت بئرا: يشير إلى توالد البعوض الناقل للمرض في الآبار التي
كان يستعملها أهل رشيد للشرب.
(٣٩) نمروذ: ملك جبَّار في عهد سيدنا إبراهيم — عليه السلام — كان
يدعي الألوهية وجادله سيدنا إبراهيم، فأفحمه وأخيرًا أهلكه الله
ببعوضة حقيرة. أعدى: تجاوز الحد.
(٤٠) أنجادا: معاونين مغيثين.
(٤١) مستراضا: مرتعًا ومتسعًا. وردا: موردا.
(٤٢) زندا: المقصود الذراع.
(٤٣) جلدا: صلبًا قويًّا.