الحُب
نظمت هذه القصيدة في صيف سنة ١٩١٦م.
عَاجَ الْخَيالُ فلم يَبُلْ أُوَامَا
ومَضَى وَخَلَّفَ فِي الضلُوعِ ضِرامَا١
ما لي ولِلْكَحْلاء! هِجْتُ عُيُونَها
فَمَلَأْنَ قَلْبِي أَنْصُلًا وسِهاما٢
يا قَلْبُ وَيْحَك! ما سَمِعْتَ لناصِحٍ
لَمَّا ارْتَميْتَ، ولا اتَّقيْتَ مَلاما٣
لَعِبَتْ بِكَ الْحَسْنَاءُ، تَدْنُو ساعةً
فَتُثِيرُ ما بِكَ، ثُمَّ تَهْجُرُ عَاما
وَالْحُبُّ ما لَمْ تَكْتَنِفْهُ شَمَائِلٌ
غُرٌّ يَعُودُ مَعَرَّةً وَأَثاما!٤
والْحُبُّ أَحْلَامُ الشَّبَابِ هَنِيئةً
مَا أَطْيَبَ الأيامَ والأَحْلَاما!
والْحُبُّ نازِعَةُ الْكَرِيمِ تَهُزُّهُ
فَيَصُولُ سَيْفًا أَو يَسِيلُ غَماما!٥
والْحُبُّ مَلْهَاةُ الْحَياةِ وَطبُّهَا
وَلَقَدْ تكُونُ بِهِ الْحَياةُ سَقامًا!٦
والْحُبُّ نِيرَانُ الْمَجُوسِ، لَهِيبُهَا
يُحْيِي النفُوسَ، ويَقْتُلُ الأَجْساما!٧
والْحُبُّ شِعْرُ النَّفْس إنْ هَتَفَتْ بِهِ
سَكَتَ الْوُجُودُ وأَطْرَقَ استعْظَاما!
وَالْحُبُّ مِنْ سِرِّ السَّماء فسمِّهِ
وَحْيًا إذَا ما شِئتَ أو إلْهَامَا
لَوْلَاهُ ما أَضْحَى ولِيدُ زَبِيبَةٍ
يَوْمَ التَّفَاخُرِ سيِّدًا مِقْداما٨
وَلَمَا رَمَى في الْجَحْفَلَيْنِ بِصَدْرِهِ
لَا يَتَّقِي رُمْحًا ولا صَمْصَاما
الْحُبُّ أَلْبَسَهُ الْمُرُوَءَة يافِعًا
وَأَعَدَّهُ لِلْمَكْرُماتِ غُلاما
•••
يَا شَدَّ ما فَعَلَ الْغَرَامُ بِمُهْجَةٍ
ذَابَتْ أَسًى وَصَبَابَةً وَهُيَاما!
كَانَتْ صَؤُولًا لا تُنِيلُ خِطَامَها
فَغدتْ أَذَلَّ السَّائِمَاتِ خِطَاما!٩
سَكنَتْ إلَى حُلْو الْغَرَام وَمُرِّهِ
ورَعَتْ عُهُودًا لِلْهَوَى وذِمَاما١٠
وَطَوَتْ أحَادِيثَ الْجَوَى فَطَوَتْ بِها
دَاءً يَدُكُّ الرَاسِيَاتِ عُقَامَا١١
نَالَ الضَّنَى مِنْها الَّذِي قَدْ نَالَهُ
فَعَلامَ رَوَّعَها الصُّدُودُ عَلاما؟١٢
•••
يا زَهْرَةً نَمَّ النسيمُ بِعَرْفِهَا
وَجَرَى بها ماءُ النَّعِيمِ جِمَاما١٣
يا جنَّةً لَوْ كانَ يَنْفَعُ عِنْدَهَا
نُسْكٌ لَبِتْنَا سُجَّدًا وقِيَاما
يا طَلْعَةَ الروْضِ النضِيرِ تَحِيَّةً!
ومُجَاجَةَ الْمِسْكِ الذكِيِّ سَلَاما!١٤
هوامش
(١) عاج عوجًا ومعاجًا: أقام أو وقف. البلل: الندى، بله: نداه.
الأوام: حر العطش، والمراد حرارة الشوق. الضرام: اشتعال
النار.
(٢) الكحلاء: المرأة يعلو جفون عينيها سواد الكحل من غير اكتحال،
هجت: أثرت ونبهت. الأنصل: جمع نصل وهو حديدة الرمح والسهم والسيف
ونحوها.
(٣) ويح: كلمة رحمة.
(٤) تكتنفه: تحيط به. شمائل: جمع شمال وهي الطبع والخلق. غر: جمع
غراء وهي الشريفة البيضاء. المعرة: الإثم والذنب. الأثام: جزاء
الإثم.
(٥) النازعة: الميل.
(٦) الملهاة: اللهو. والطب: علاج الجسم والنفس. السقام:
المرض.
(٧) المجوس: أمة من الناس يعبد أكثرهم النار، ويلقون بأنفسهم فيها
معتقدين أنها إذا أحرقت الأجسام فإنها تطهر النفوس وتحييها.
(٨) الوليد: المولود والصبي والعبد، والمراد به هما عنترة بن شداد
العبسي، أحد فرسان العرب وشعرائها المشهورين بالفخر والحماسة،
وزبيبة أمه، وكانت أمة حبشية سوداء، سبابها أبوه في إحدى غزواته
فأولدها عنترة، وكان من عادات العرب ألا تلحق ابن الأمة بنسبها بل
تجعله في عداد العبيد؛ لذلك كان عنترة عند أبيه منبوذًا بين
عبدانه، وما زال كذلك حتى أغار بعض العرب على عبس واستاقوا إبلهم،
ولحقتهم بنو عبس وفيهم عنترة، فقاتل قتالًا شديدًا حتى هزم القوم
واستنقذ الإبل. فحرره أبوه واعترف ببنوته. ومن ذلك الوقت ظهر اسم
عنترة بين فرسان العرب وساداتها. وقد عشق عنترة في شبابه بنت عمه
«عبلة» وكان ذلك قبل أن يحرره أبوه ويدعيه، فأبى عمه أن يزوجه
ابنته وهو عبد. فحفزه ذلك للمعالي يتطلبها والمجد ينشده. وهاج ذلك
من شاعريته فاجتمع له الشعر السلس القوي، والشجاعة النادرة، والهمة
العالية من حسب ونسب وشجاعة ومروءة وغير ذلك.
(٩) الصؤول: الوثاب النافر من الإبل، شبه نفسه بالجمل الشرود.
الخطام: الزمام أي المقود.
(١٠) سكنت: اطمأنت واستأنست. رعت: حفظت وصانت. الذمام: الحق
والحرمة.
(١١) طوت: كتمت وأخفت. الجوى: هوى باطن، والحزن والحرقة وشدة الوجد.
يدك: يهدم. الراسيات: الجبال. داء عقام: لا يبرأ منه.
(١٢) الضنى: المرض المخامر كلما ظن برؤه نكس.
(١٣) نم: أفشى وأظهر. العرف: الريح الطيبة. الجمام: جمع جميم وهو
الكثير من كل شيء.
(١٤) الطلعة: الوجه. والمجاجة في الأصل الريق، ويراد به هنا الفتات أو
الخلاصة. المسك: طيب معروف، وهو عند العرب أفضل الطيب. مسك ذكي
وذاك: ساطع ريحه.