الشَّريدُ
نشرت في صيف سنة ١٩٣٨م.
أَطَلَّتِ الآلامُ من جُحْرِهِ
وَلُفَّتِ الأسْقاُم في طِمْرِهِ١
بُرْدَتُهُ الليلُ، على بَرْدِه
وكِنُّهُ الْقَيْظُ، على حَرِّه٢
مُشَرَّدٌ يَأْوِي إلى هَمِّهِ
إذا أوَى الطيرُ إلى وَكْرِه!٣
ما ذاق حُلْوَ اللثْم في خَدِّهِ
ولا حنانَ المَسِّ في شَعْرِهِ
وَلَا حَوَتْه الأمُّ في صَدْرِهَا
ولا أبٌ ناغاهُ في حِجْرِه
قد صَبَرَ النفْسَ على ما بها
وانتظَر الموعودَ من صَبْرِه
•••
البَطْنُ مهضومٌ، طواه الطَّوَى
ونامَ أهلُ الأرضِ عن نَشْرِهِ٤
والوجهُ لليأْسِ به نَظْرَةٌ
يَقذِفُها الحِقْدُ على دَهْرِه
جَرَّحه الدهرُ، فمِنْ نَابِه
تلك الأخاديدُ، ومن ظُفْره٥
قد كتب اللهُ على خَدِّه
خَطًّا يَبِينُ البُؤْسَ في سَطْرِهِ
وغار ضوءُ الحِسَّ من عَيْنهِ
وفرَّ لَمْحُ الأُنسِ من ثَغْرِه
والبِشرُ، أين البِشْرُ؟ وَيْحي له!
يا رحمةَ الله على بِشْرِهِ
يجرُّ رِجْلَيْه بَطيء الْخُطَا
كالْجُعَلِ المكْدُودِ من جَرِّه٦
إن نام أبْصرتَ به كُتْلَةً
تجمعُ ساقَيْهِ إلى نَحْرِه٧
احتَبَسَتْ «أوَّاهُ» في قَلْبِهِ
واختنقت «ويْلاهُ» في صَدْرِه٨
وجفَّ ماءُ العَيْنِ في مُوقِها
ماذا أفَاد العينَ من هَمْرِه؟٩
سالتْ به نَهرًا على لُقْمةٍ
فعادَ كالسائل في نَهْره!
لا يَجِدُ المأوَى، ولو رَامَهُ
أحالَهُ الدهرَ على قَبْره
هناك يَثْوِي هادئًا آمنًا
من شَظَفِ العَيْشِ ومن وَعْرِه١٠
فكم بصدرِ القَبْرِ من ضَجْعةٍ
أحنى من الدهرِ ومن نُكْرِهِ!١١
•••
مَتْعَبَةُ الإنسانِ في حِسِّهِ
وشِقْوةُ الإنسان من فِكْرِه
كيف يُرجَّى الصفْوُ من كَائنٍ
الْحمَأُ المسنونُ في ذَرِّه؟١٢
لم يَسْمُ للأملاك في أوْجِهَا
ولا هَوَى للوَحْشِ في قَفْرِه١٣
رام اللبابَ المَحْضَ من سَعْيِهِ
فلم يَنَلْ منه سِوَى قِشْرِه١٤
يسعَى، وما يَدْرِي إلى نفعِهِ
سَعَى حَثِيثًا، أم إلى ضَرِّهِ١٥
آمَنت بالله! فكم عالِمٍ
أعجزه المحجوبُ من سِرِّه
•••
الله في طِفْلٍ عزاهُ الضَّنَى
بأدْهَمِ الخَطْبِ ومُغْبَرِّه١٦
في ظُلُماتٍ، مَوْجُها زاخرٌ
كأنَّهُ ذو النُّونِ في بَحْرِهِ١٧
وَالناسُ بالشاطئ، من غافلٍ
أو ساخرٍ، أمْعَنَ في سُخْره
والمَوْجُ كالذُّؤْبان حَوْلَ الفتى
يسدُّ أُذْنَ الأفْقِ منْ زَأْرِه١٨
نادَى، وما نَادَى سوَى مَرَّةٍ
حتّى طواهُ اليمُّ في غَمْرِه
تظنُّه طِفْلًا، فإن حقَّقَتْ
عيناكَ، لم تَعْثُرْ على عُشْرهِ
كأنَّه الشَّكُّ إذا ما مَشَى
أو ما يَرَى النائمُ في ذُعْرِه
طَغَى به الجوعَ، ففي دَمْعِهِ
ما فعلَ الجوعُ، وفي نَبْرِه
•••
واهًا لكفٍّ لَصِقَتْ بالثرَى
وائْتَدَمَتْ بالبُؤْسِ من عَفْرِه١٩
ماذا على الإحسانِ لو ردَّها
نَديةَ الأطْرافِ من بِرِّهِ؟٢٠
ماذا على الإحسان لو ردَّها
رَطيبةَ الألْسُنِ من شُكره؟٢١
كم بَسْمَةٍ أرسلَها مُحْسنٌ
أزْهَى من الرَّوضِ ومن زَهْرِه!
ولُقْمةٍ سدَّتْ فمًا جائعًا
رجَّحَتِ المِيزانَ في حَشْره!
ومِنَّةٍ كانت جنَاحًا له
طارَ بهِ الذائعُ من ذِكْرهِ
ودَمْعةٍ يُذْرِفها مُشْفِقًا
أصْفَى من المدخُورِ من دُرِّه٢٢
لا تُزْهِرُ الجنةُ إلّا بما
يَسْفَحُه الباكي على وزْره
لو عَرَفَ الإنسانُ ما أجرُه
ما ضَنَّ بالنفْسِ على أَجْرِه
يبقَى قليلُ المال مِنْ بَعْدِهِ
ويَذْهَبُ المال على كُثْرِهِ
بيضُ أيادِي المرء في قَومِهِ
أغْلَى من البِيض ومن صُفْرِه٢٣
والحُرُّ، لا يَنْعَمُ في وَفْرِه
حتى يَنالَ الناسُ من وَفْرِه٢٤
والمرءُ، لا يُعْرف مِقْدارُه
أو تُنْبِئُ الأحْدَاثُ عن قَدْرِه
والناسُ كالماء، فمن ضَحْضَحٍ
ومن عَميقٍ، حِرْتُ في سَبْرِه٢٥
ليس الذي يُنْفِقُ من يُسْرِه
مِثْلَ الذي يُنْفقُ من عُسْره
كم دِرْهَمٍ أُلْقي في سِجْنِهِ
ولم يَنَلْ عَفْوًا مَدَى عُمْرِه!٢٦
لم يَرَ حُسْنَ الصُّبحِ في شَمْسِه
ولا جَمَالَ الليلِ في بَدْرِه
يَطْمَعُ وَخْزُ الجوع في وَصْلِهِ
ويُرْسِلُ الزَّفْرات من هَجْرِهِ٢٧
والمالُ كالْخَمْرِ، إذَا ما طَغى
ضاقت فِجَاجُ الأرضِ عن شَرِّه٢٨
متى يَهُبُّ العقلَ من نَوْمِه؟
أو يستفيقُ المالَ من سُكْرِه؟
متى أَرَى النفسَ، وقد أُطْلِقَتْ
من رِبْقَةِ المال ومن أسْرِه؟٢٩
متى أرَى الْحُبَّ كضَوْء الضُّحَى
كُلُّ امْرِئٍ يَسْبَحُ في طُهْرِه؟
متى أَرَى الناسَ، وقد نُزِّهُوا
عن شَرّهِ الذئْب وعن غَدْرِه؟
أُخُوَّةُ الغُصْنِ إلى صِنْوِهِ
وَبَسْمَةُ الزهْرِ إلى قَطْرِهِ٣٠
ورَحْمَةٌ، رَفَّافَةٌ لم تَدَعْ
قلْبًا يُوارِي النارَ في صَخْرِهِ٣١
لا يُحْسَدُ الجَاهُ على مالِه
أو يُنْهَرُ الْبُؤْسُ على فَقْرِهِ
•••
كم شارِدٍ في مصْرَ، يا كُثْرَه
من عَدَدٍ، يَسْخَرُ مِنْ حَصْرِه!
ذَخِيرةُ الأمة أبناؤها
ماذا أفادَ النيلُ من ذُخْرِه؟
ماذا أفادَ النيلُ من ساعدٍ
أسْرَعَ مِنْ ضِغْثٍ إلى كَسْرِه؟٣٢
وأَرْجلٍ أوْهَنَ من هَمْسةٍ
ومن نسيم الصبح في مَرِّه؟
ومن فتاةٍ، فَجْرُها لَيْلُها
ومن غُلامٍ، ضَلَّ في فَجْرِه؟
ألْقَتْهُ مِصْرٌ همَلًا ضائعًا
فصال يَبْغِي الثارَ من مِصْرِهِ٣٣
غاصَ من الآثامِ في آسِنٍ
يَكرَعُ مِلْءَ الفَمِ من مُرِّه٣٤
أسرَى من الليل، وأمْضَى يَدًا
من عَبَثِ الليل، ومن مَكْرِه٣٥
كم ضاق من شِقْوَتِه عَصْرُهُ
وضاق بالسُّخْطِ على عَصْرِه!٣٦
شَجًا بِحَلْقِ الوَطَنِ الْمُفْتَدَى
وشَوْكَةٌ كالنَّصْلِ في ظَهْرِه٣٧
مدْرَسَةُ النشْل وَسَلِّ المُدَى
أسَّسَها الشيْطَانُ في جُحرِه
إذا هَوَى الْخُلق، وضاع الحِجَا
فكلُّ شَيْءٍ ضاع في إثْرِه!٣٨
من يُصْلِح الأُسْرةَ يصْلِحْ بها
ما دَمَّرَ الإفسادُ في قُطْرِهِ
•••
جنايةُ الوالدِ نَبْذُ ابنهِ
في عُسْرِه، إنْ كان، أو يُسْرِه
لا تَتْرُكُ الذِئْبَةُ أجْراءَها
ولا يغيبُ الكلبُ عن وَجْرِه!٣٩
البَيْتُ صَحْراءُ إذا لم تَجِدْ
طفُولةً تَمرَحُ في كِسْرِه٤٠
فعاقبوا الآباءَ إن قصَّروا
لا بُدَّ للسادِرِ من زَجْرِه٤١
وأنقذوا الطفْلَ، فما ذَنْبُه
إنْ جَمَحَ الوالدُ في خُسْرِه؟٤٢
رَبُّوهُ، يَنْمو ثَمَرًا طيِّبًا
لا ييأسُ الزارعُ من بَذْرِهِ
وعلِّموهُ عَملًا صالحًا
يَشُدُّ — إن كافَحَ — من أَزْرِه٤٣
رَبُّوه في الريفِ، لعلَّ القرَى
تُصْلِحُ ما أعْضَلَ من أمْرِه
النفْسُ مِرْآةٌ، وَغُصْنُ النُّقَا
يَطيبُ أو يَخْبُثُ من جِذْرِه
لعلَّ هَمْسَ الغُصنِ في أُذْنِه
يُنْسِيهِ ما أضْمَرَ من ثَأْرِه!
لعلّ أنْفاسَ نسيم الرُّبا
في صَدْرِه، تُبْرِدُ من جَمْرِه!
النيلُ يستنجِدُ مُسْتَنْصِرًا
فأَسْرعوا الْخَطْوَ إلى نَصْرِه
لا يذهبُ المعروفُ في لُجَّةٍ
ولا يَكُفُّ الْمِسْكُ عن نَشْرِه٤٤
هوامش
(١) أطلت: أشرفت. الطمر: الثوب البالي.
(٢) البردة: كساء صغير مربع. الكن: السترة.
(٣) مشرد: مطرود منفر. أوى: أقام وسكن.
(٤) مهضوم: ضامر. الطوى: الجوع. نشره: إحيائه.
(٥) الأخاديد جمع أخدود: وهو الحفرة في الأرض، والمراد بها الغضون
والتجاعيد التي يطبعها البؤس على وجهه.
(٦) الجعل: دويبة معروفة. المكدود: المتعب.
(٧) النحر: أعلى الصدر.
(٨) أواه: يقصد بها الشكوى. ويلاه: يقصد بها الألم.
(٩) الموق: جانب العين مما يلي الأنف. همر الدمع: انصبابه.
(١٠) يثوي: يقيم. وعره: صعبه.
(١١) أحنى: أعطف. النكر: القبح والشناعة.
(١٢) الحمأ: الطين الأسود. المسنون: المتغير المنتن. ذره: الذر أصغر
النمل، ويراد به أصل الإنسان وجرثومته.
(١٣) الأوج: ضد الهبوط. هوى: سقط.
(١٤) اللباب: قلب الشيء. المحض: الخالص.
(١٥) حثيثًا: مسرعًا.
(١٦) أدهم: أسود. أدهم الخطب: أشد المصائب وأفدحها.
(١٧) موج زاخر: ممتد مرتفع. ذو النون: سيدنا يونس وقد ابتلعه الحوت في
البحر، فنجاه الله من الغم وأخرجه.
(١٨) الذؤبان: جمع ذئب. الزأر: صوت الأسد، ويقصد به هدير
الأمواج.
(١٩) واهًا: اسم لعل للتعجب، ويراد به هنا التفجع. الثرى: التراب
الندي. ائتدم: أساغ الخبز بالإدام. العفر: التراب.
(٢٠) ندية الأطراف: غضة بضة بالإحسان.
(٢١) رطيبة الألسن: تلهج بالثناء.
(٢٢) المذخور: المدخر المعد لوقت الحاجة.
(٢٣) بيض الأيادي: النعم المشهورة. البيض: الدراهم. الصفر:
الدنانير.
(٢٤) وفره «في الشطر الأول»: المال الكثير. وفره «في الشطر الثاني»:
ما زاد عن حاجته.
(٢٥) الضحضح: الماء القليل. السبر: الاختبار.
(٢٦) السجن هنا المكان الذي يدخر فيه البخيل ماله.
(٢٧) الوخز: الطعن بالرمح ونحوه.
(٢٨) فجاج الأرض: طرقاتها الواسعة.
(٢٩) الربقة: العروة في الربق وهو الحبل يشد به.
(٣٠) الصنو: الواحدة من النخلتين في أصل واحد.
(٣١) رفافة: هفافة شاملة، ويقال: رف الطائر بسط جناحيه.
(٣٢) الضغث: الحشيش الرطب واليابس.
(٣٣) هملا: متروكًا سدى غير راع.
(٣٤) آسن: ماء آجن فاسد. يكرع: يشرب الماء بفيه من موضعه من غير أن
يتناوله بكفيه أو بإناء.
(٣٥) أسرى من الليل: أمضى. والسرى: السير بالليل.
(٣٦) شقوته: شقاؤه.
(٣٧) الشجا: ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه. النصل: حديدة السهم
والرمح والسيف.
(٣٨) هوى: سقط. الحجا: العقل. إثره: بعده.
(٣٩) الأجراء: جمع جرو، وهو صغير كل شيء، وولد الكلب والأسد والذئبة.
الوجر: الكهف في الجبل وجحر الضبع.
(٤٠) كسره: جانبه.
(٤١) السادر: الذي لا يبالي ما يصنع. الزجر: المنع.
(٤٢) جمح: ركب هواه.
(٤٣) الأزر: القوة.
(٤٤) نشره: رائحته الطيبة.