رئيس من رؤساء وزراء مصر السابقين عُرف بنزاهته ووطنيته، كان زميلًا للشاعر في بعثة
إلى إنجلترا عام ١٩٠٨م إلى أن استشهد في ديسمبر من عام ١٩٤٨م، فحزن الشاعر عليه حزنًا
كبيرًا ورثاه بهذه القصيدة التي أنشدها نجله الأستاذ الشاعر بدر الدين علي الجارم في
احتفال كبير أقيم بمناسبة ذكرى الأربعين بقاعة الجمعية الجغرافية مساء ٨ فبراير سنة
١٩٤٩م، ولكن المنية عاجلت شاعرنا الكبير وهو يستمع إلى شعره ينشد في هذا الحفل
الكبير.
ماءُ العيونِ على الشهيدِ ذَارفِ
لو أنّ فيضًا من مَعينك كافِي
١
إنْ لم يَفِ الدمعُ الهتونُ بسيبهِ
فلمن يَفي بعدَ الخليل الوافي؟
٢
شيئان مَا عِيبَ البكاءُ عليهما
فقدُ الشباب، وفُرقَةُ الأُلّافِ
٣
أغْرَقْتُ همي بالدموعِ فخانني
وطفَا، فويلي من غريقٍ طَافِي!
وإذا بكَى القلبُ الحزين فما له
راقٍ ولا لبكائِه من شافِي
٤
والدمعُ تهمي في الشدائِدِ سُحبُه
ومن الدموع مُماطلٌ وموافِي
٥
حَارتْ به كفي تُحاولُ مَسحهُ
فكأنَّها تُغْريه بالإيكاف
٦
وأجلُّ ما يَلقى الشريفُ ثوابَه
إنْ غَسَّلَتْه مَدامعُ الأشرافِ
٧
•••
طيرُ المنيةِ صِحْتَ أشأمَ صيحةٍ
وهززتَ شرَّ قوادِمٍ وخوافِي
٨
وَعَلَقَت بالأملِ العزيز مُحصّنًا
بظوامِئ الأرماحِ والأسيافِ
٩
والجندُ والأعوانُ ترعى موكِبًا
ما حازه سابُورُ ذو الأكتَافِ
١٠
يَفْدونَ بالمهجاتِ مهجَةَ قَائدٍ
في كلِّ منعرجٍ وكلِّ مطَافِ
١١
رانَ الذهولُ، فكلُّ عقلٍ حائر
وجرى القضاءُ، فكل طرفٍ غافِي
١٢
والموتُ أعمى في يديه سهامُه
يرمي البريةَ من وراء سِجَاِف
١٣
والموتُ قد يُخفي حمَاهُ بنسمةٍ
هفّافةٍ، أو في رحيقِ سُلافِ
١٤
يغشَى الفتى ولو اطمأنّ لموئِلٍ
في الجو أو في غمرةِ الرجّافِ
١٥
ويحَ الكنانةِ بعد نزعِ شَغافِها
أتعيشُ فِي الدنيا بِغير شَغَافِ
١٦
•••
قد عاشَ يحمل رُوحَه في كفِّهِ
ما قَالَ في هول النضال كفافِ
١٧
يلقَى الكوارثَ باسمًا متألقًا
والدهرُ يعصِفُ والخطوبُ سَوافي
١٨
والموت يكشرُ عن نُيوبِ مَشانقٍ
غُبرِ الوُجوهِ دميمةِ الأطرافِ
١٩
بينَ الرياحِ الهُوجِ يزأر مثلَها
ويثورُ في غَضبٍ وفي إعْنافِ
٢٠
يَرنو إلى استقلال مصر كما رنَتْ
عين المحبِّ لطارقِ الأطياف
٢١
ما ارتاعَ مِن حبسٍ ولا أسرٍ ولا
زَجْرٍ، ولا قتلٍ، ولا إرجَافِ
٢٢
وإذا دهتهُ الحادثاتُ بفادحٍ
لم تلق إلَّا هِزَّةَ استخفافِ
هابتْهُ أسبابُ المنيّةِ جَهرَةً
فَرمتهُ خائنةً بِموت زُؤافِ
٢٣
مَوتُ الكرامِ البيضِ فوقَ جيادِهم
لا فَوقَ نُمرقَةٍ وتحتَ طِرافِ
٢٤
فلكم تمنَّى «ابنُ الوليد» مَنيةً
بين الصواهِل والقَنا الرعَّافِ
٢٥
•••
ذهبَ الجريءُ النَدبُ ذُخرُ بلاده
غَوْثُ الصريخِ ونُجعةُ المُعتافِ
٢٦
خُلقٌ كأمواهِ السحابِ مُطَهَّرٌ
وسَريرةٌ كلآلِئ الأصدافِ
وتبسمٌ للمعضِلاتِ كأَنَّه
إشراقُ وجهِ الروضةِ المئنافِ
٢٧
ونقَاءُ سُكَّان السماء يحوطه
رَبُّ السماء بعزَّةٍ وعَفافِ
ونزاهةٌ سِيقَتْ لها الدنيا فما
ظفِرتْ بغير تنكُّرٍ وعِيافِ
٢٨
عُمَرٌ حوى الدنيا ولم يملِك سِوَى
شاءٍ كأعوادِ القِسيِّ عِجَافِ
٢٩
والمرءُ إن يَخْشَ الدنيَّةَ في الغِنَى
يَقنَعْ بِعيشٍ في الحياة كَفافِ
٣٠
قد كانَ في غير التحرُّج مَنفذٌ
َسهلٌ إلى الآلافِ والآلافِ
مَهما يَقُلْ من خالَفوه فإنّه
في نُبلهِ فردٌ بِغير خِلافِ
•••
وعَزيمةٌ لا الصعبُ في قاموسِها
صَعبٌ، ولا خافِي الطريقِ بخافِي
فإذا أرادَ فكل شيءٍ آلةٌ
وإذَا رمَى فالويلُ للأهدافِ
يزدادُ في ظُلَمِ النوازلِ بِشْرهُ
كمْ كُدرةٍ تحتَ النميرِ الصافيِ!
٣١
يُخْشى ويُرهبُ كالمنيَّةِ مُرهفًا
عَدْلٌ لدَى الإرهابِ والإرهافِ
٣٢
فإذا طلبتَ الحقَّ منه وجدتَهُ
سهلَ الرحابِ مُوَطَّأَ الأكنافِ
٣٣
ذِكرى كحاليةِ الرياضِ شميمُها
راحُ النفوسِ وراحةُ المُستافِ
٣٤
إنَّ الفَتى ما فِيه من أخلاقهِ
فإذا ذَهَبْنَ فكُلّ شيء «ما في»
ما زانَه الشرفُ المنيفُ بِغيرها
ولو انتَمى لسراةِ عبدِ منافِ
٣٥
عِشنا على الأسلافِ طولَ حياتِنا
حتى سئمنا عِشرةَ الأسلافِ
٣٦
العبقريُّ حياتُه من صُنعِه
لا صنعَ أسماءٍ ولا أوْصَافِ
يَكفيهِ مِنْ شَرفِ المجادة أنه
دَرْسُ العصورِ وقُدوةُ الأخلافِ
٣٧
•••
عابوا السكوتَ عليهِ وهو فضيلةٌ
لغَطُ الحديثِ مَطيّةُ الإسفافِ
٣٨
صَمْتُ الهمام النجدِ أو إطراقُه
خُطَبٌ مُجَلْجِلَةٌ بِغير هُتافِ
٣٩
قولُ الفَتَى من قلبِه أو عقلِه
فإذا سَمَحْت فلا تَبعْ بِجُزافِ
٤٠
حَسبُ الذي ألقَى اللجامَ لِسانُه
ما جاءَ مِن زَجْرٍ بسورةِ «قافِ»
٤١
خاضَ السياسةَ ملءُ جُعبتِه هَوى
مصرٍ ومَحوُ الظلمِ والإجحافِ
٤٢
ما كانَ في الجُلَّى بحابِسِ سَرجِه
عَن هَوْلها يوْمًا ولا وَقَّافِ
٤٣
يَمضي ويتبعُه الشبابُ كما جرتْ
جُرْدُ المذاكي في غُبَار خَصافِ
٤٤
نادَى مُلِحًّا بالجلاء مناجزًا
ماذا وراءَ الوعدِ والإخلافِ؟
٤٥
ودعَا بوادي النيلِ غيرَ مقَسَّمٍ
سُودان مصرَ كشاطئِ المُصطافِ
٤٦
يا يومَ أمريكا وكم بكَ موقفٌ
أعيا النُّهَى وبراعةَ الوصّافِ
٤٧
هِيَ صيحةٌ لم يَرْمِها مِنْ قَبلهِ
بطلٌ بوجه السادةِ الأحلافِ
٤٨
صَوتٌ إذا هزّ الأثيرَ جهيرُه
فلَكم بمصرٍ هز مِن أعطَافِ
٤٩
فِي كُلِّ أذنٍ مِنهُ شَنْفٌ زانَها
ما أجملَ الآذانَ بالأشنافِ
٥٠
أصغى له جمع الدهاةِ وأطرقوا
شَتَّان بين السمع والإنصافِ!
٥١
سَمِعوا بيانًا عبقريًّا ما بِه
فِي الحقِّ مِن شططٍ ولا إسرافِ
٥٢
وجدالَ وثَّابِ البديهةِ ثابتٍ
في يوم ملحمةٍ ويومِ ثِقافِ
٥٣
وصراحةٌ بهرت عيونَ رجالِهم
لمّا بدتْ نُورًا بِلا أسدافِ
٥٤
•••
قالوا: الرثاء، فقلتُ: دَمعُ محاجِري
بِحرٌ، وأنّات الحزين قوافِي
٥٥
شِعرٌ مِنَ الذهب النُّضار حُروفه
ولكم بسوقِ الشعر من زَيّافِ
«محمودُ»، قد لقي المجاهدُ ربَّهُ
في جنَّةِ النفحاتِ والألطافِ
٥٦
نَمْ هَادِئًا إنَّ الغِراسَ وريفةٌ
تُزهَى بأكرم تُربةٍ وقِطافِ
٥٧
وانزِلْ إلى مَثوى الصديق تَجد بهِ
ما شِئتَ مِنْ حُبٍّ ومن إشرافِ
٥٨
قَبرُ الشهيد سماحةٌ فيَّاحةٌ
وَمديدُ ظِلِّ حدائقٍ ألفافِ
٥٩
ما مَات مَن كتبَ الخلودُ رثاءَه
ووشَى له حُللَ الثناء الضَّافي
٦٠
حُيِّيتَ مِن مُزنِ العيُون بوابلٍ
ومِنَ الحنانِ بناعم رَفَّافِ
٦١